ويا سلوة الأيام موعدك الحشر

منذ 2014-03-13

عندما دخَل ابن أخيها الصغير هرَعت إليه تضمُّه إلى صدرها، ودموعها عادَت تغسل قلبها وأيامها من وَجَعٍ لا تقوى على احتماله، تمنَّت أُمنيتها المستحيلة أنْ لو كانت ابنتها بين ظهرانيها، ولكن هَيْهَات، تضم الصغير أكثر إلى صدرها وهي تحاول الفرار من ذكريات أقضَّت مَضجعها، تسوَّر الجَزع محراب الصبر، وصار الأسى واليأس أصدقاءَ الثواني والدقائق.

عندما دخَل ابن أخيها الصغير هرَعت إليه تضمُّه إلى صدرها، ودموعها عادَت تغسل قلبها وأيامها من وَجَعٍ لا تقوى على احتماله، تمنَّت أُمنيتها المستحيلة أنْ لو كانت ابنتها بين ظهرانيها، ولكن هَيْهَات، تضم الصغير أكثر إلى صدرها وهي تحاول الفرار من ذكريات أقضَّت مَضجعها، تسوَّر الجَزع محراب الصبر، وصار الأسى واليأس أصدقاءَ الثواني والدقائق. 

توفي والدها في حادث أليم ترَكها طريحة الهمِّ والحزن، وما أفاقَت إلاَّ على نار الخلاف التي اشْتَعَلت بين رفيق الدَّرب وأشقَّائها الذين راغوا إليها يتخافتون، وأقْسموا ليصرمنَّ عُرَى الأُخوَّة معها إنْ لَم تتنازلْ عن حقِّها في الميراث؛ حتى لا يذهب إلى زوجها الذي أعدُّوه غريبًا، أحْزَنها أن رضوا قبل سنوات قلائل أن تَبني معه بيتًا في الإسلام، وها هم الآن ينقضون عهد الرَّحم بينهم، لَم يَقبل زوجها أن تتركَ حقَّها، وعاهَدهم سرًّا وعلانية ألاَّ يقربَ لها مالاً، ولكنهم أبَوا إلاَّ هَدْمَ بيتها، فإذا هي في الحياة يتيمة مسرَّحة، تَحمل في بطنها أوَّل ثمرة حبٍّ، كانت تقول لنفسها وهي تحاول ما استطاعَت رأْبَ الصَّدع: "أخشى أن يأتي ما في بطني، فيكون محرَّرًا للحزن والشقاء".

ما إن فاجَأها المخاض إلى المشفى وأنْجَبت، حتى انتبذَ أشقَّاؤها بصغيرتها مكانًا قصيًّا، فلم تقرَّ بها عينًا لعشر سنين، كانت تُمنِّي النفس بالآمال تَرقبها، فإذا بالنجوم تدنو وصغيرتها عن نظرها أبعد، كان طليقها قد حَمَل الصغيرة وسافر بعيدًا، وبَقِيتْ هي تتنقَّل بين بيوت أشقَّائها تَجمع المصاعب في حقائب الصبر، وتستعين بالواحد القهَّار، وهي تدعو كلما خرَّت ساجدة: "اللهمَّ يا كاشف الغمِّ، ويا فارج الهمِّ، فرِّج همِّي ويَسِّر أمري".

وذات مساء كان إخوتها يَلتفون حولها وحولهم أكبادهم التي تمشي على الأرض، يمرحون ويلعبون، فُغِر فاهُ الجُرح الذي لَم يَندمل، فقامت تصيح فيهم: "أريد ابنتي، أعيدوا إليّ ابنتي، ماذا بَقِي وقد هُدِمَ بيت، وكُسِرَ قلبٌ، وتَشَتَّتَ شَمْلُ أسرة بنَتْ بيتها على التقوى؟!"، قالت ذلك وأخذت تبكي.

بعد أيام طرَق أخوها الأصغر -الذي كانت تقضي فترة سكناها الشهرية معه، ثم تتنقل بين بيوت إخوتها- باب غُرفتها، ودخَل مُقَبِّلاً رأسها ويديها، وطالبًا منها السماح، قائلاً: "تعلمين أنَّ أشِقَّاءَك حرَّموا فتْحَ موضوعكِ منذ طلاقكِ، ويعلم الله أنَّ حالكِ لا يُرضيني، وكم حاوَلت معهم، ولكنهم يُحبُّون التراث حبًّا جمًّا، ومع ذلك يا أُختاه لن أسكتَ أكثر من هذا، سأسافر إلى زوجكِ السابق وأحضر ابنتكِ، وأحاول معه لعلَّه يَقبل أن تعود بينكم حياةٌ تَملؤونها سعادة"، فَرِحت به، بكل كلمة قالها، بكل حرفٍ نَثَر التفاؤل في حالِك أيَّامها، سجَدتْ شكرًا، ثم انكبَّت على أخيها تقبِّل رأسه وقَدَميه والفرح يطوِّق جِيدها بكلِّ ألوان البهجة.

وفي اليوم الموعود للُقْيَا ابنتها، أعدَّت للقاء ألفَ ألف أنشودة فرحٍ، وألف ألف ابتهال شكرٍ رفَعته للواحد القهَّار، في ذلك اليوم ذهبَت إلى السوق، فاشْتَرت من الثياب أحلاها، وانطلَقت إلى محل الألعاب وانتَقَت أغلاها، وهَرَعت إلى بائع الحلوى واشْتَرت حتى ملَّت، واسْتَعَدَّت لاستقبال ابنتها التي أصبَحت مع خالها في طريق سفر إليها بحفلة صغيرة، لكنَّ النهار انقَضى وتَبِعهُ الليل، وشمس أخيها وابنتها لَم تُشرق بعدُ.

في اليوم التالي انقلب ترقُّب الفرحة إلى توجُّس وخيفة، والابتسامة ارْتَدَت ثوب الشحوب، والصمْت غطى على كلمات الفرح التي كانت تَنثرها.
دخَل شقيقها الأكبر فنطَق، وكم تمنَّت لو كان الموت أسبقَ لرُوحها من كلماته لأُذنها، عرَفت أنَّ الراحلين لا يعودون، وأنَّ الموت سلَب أرواح أحبابها تحت عجلات سائق متهوِّرٍ.

عَلَّقت المشانق لأحلامها مع ابنتها، فها هي تُغادر ولَم تَفرح بضمِّها وشمِّها، لَم تسمع منها "ماما"، ولَم تأخذ بيدها إلى أوَّل طريق للعلم، لَم تُمَشِّط لها شعرها، ولَم تَمسح جَبينها، ولَم تقلِّم حتى أظفارها، وها هو الأخ الحنون غادَر هو الآخر، تاركًا لها أبناءَه الصغار يذوقون مرارة اليُتم.

مَسَح الصغير دموعَها وسألها بحزن: "لماذا تَبكين؟!"، لَم تُجبه، بل ضمَّتُه أكثر وأكثر.

تمَّـت.
 

 

نوف عائض الثبيتي