التفتت الأخلاقي
يجد المتابع للمنتج الليبرالي حضوراً طاغياً للنماذج المتنافية مع أخلاقيات الفكر الراقي، ويقف على إزهاقات للمبادئ الأخلاقية التي تمثل العمود الفقري لأي منتج ثقافي ناضج.
يجد المتابع للمنتج الليبرالي حضوراً طاغياً للنماذج المتنافية مع أخلاقيات الفكر الراقي، ويقف على إزهاقات للمبادئ الأخلاقية التي تمثل العمود الفقري لأي منتج ثقافي ناضج.
فقد وجدت الألفاظ الشوارعية التي يستعملها عادة المراهقون، كلفظ "اللقافة، والصفاقة والخبالة والسذاجة والنذالة" محاضن مريحة في الصحافة الليبرالية، فترعرعت هذه الألفاظ ونمت بشكل ظاهر بسبب استدعاء التيار الليبرالي لها واعتماده إياها في تداوله الصحفي والفكري.
وكم مرّت على المتابع مشاهد محزنة انتهكت فيها الصحافة الليبرالية الذوق الثقافي العام وتجاوزت فيه حدود الاحترام للآخرين، ونزلت به إلى مستوى متدني جداً، فإن بعض التيار الليبرالي لا يتردد في وصف من يخالفه، ولو كان شيخاً كبيراً أو عالماً مشهوراً أو مثقفاً مرموقاً، بأنه مصاب باللقافة أو الصفاقة، أو بأنه "تسيل من وجهه حماقات الدينا" أو أنه "يحمل فِكراً متعفناً" أو أنه "ليس لديه إلا ثقافة الصديد والضحالة" أو بأن عقله منتن.
كل هذه الألفاظ وغيرها يقف عليها المتابع في الصحافة الليبرالية وتمرُّ عليه بشكلٍ مستمر.
ولو قمنا باستقراء مبسَّط للمنتج الليبرالي لنتحقق من الطريقة التي يُفكِّر بها والنفسية التي يتعامل بها مع المخالفين لأطروحاته، والألفاظ التي يستعملها في التعبير عن مشاعره ومواقفه، فإنا سنصل إلى أنه يعاني من التشنج والتوتر وفقدان التوازن، وأنه يسعى غالباً إلى "شيطنة المخالف له".
ويؤكد هذه النتيجة ما قام به بعض المتابعين من عملية استقرائية، درس من خلالها الحالة النقدية التي مارسها الخطاب الليبرالي ضد "د. سعد الشثري"، حين أبدى رأيه في جامعة كاوست، وقد ظهر من خلال الدارسة بأنه أبدى في ذلك المشهد حالة انفعالية شديدة، انتهكت من خلالها كل المقومات الأخلاقية وتجاوزت فيها كل الحدود والمبادئ التي يقوم عليها الفكر الناضج.
فقد وصف "د. سعد الشثري" بأنه المعطِّل لمشروع التقدُّم، وأنه يسعى ضد الحياة، وأنه العاشق للركود والتخلُّف، والمناقض لأوامر الملك والمبدِّد لأحلامه! وأنه لا يعرف من الحياة إلا ذيل البعير، وأنه يسير ضمن الأفكار الضلامية، وأنه خرج ضمن سياق التطرُّف الذي خرجت منه الحركات الإرهابية، وأن موقفه أخطر من إنفلونزا الخنازير، وأنه بموقفه ذلك داخل ضمن دائرة شيوخ المسيار والمسفار، وأنه لا يروق له إلا نموذج الإمارة الطالبانية.
كل هذه الحالة الانفعالية حدثت في مشهدٍ واحد فقط، وقد تكرّرت هذه الحالة بنفس الصورة في مشاهد فكرية أخرى.
وهذا كله يؤكد مدى الفقر الأخلاقي الذي يعيشه الخطاب الليبرالي، ويُصوِّر مِقدار التفتُّت الذي ينخر في بنية ذلك الخطاب وفي مبادئه، ويُصوِّر للقارئ حجم الانحطاط السلوكي الذي يمارسه مع المخالفين له.
وما زال الباحثون والمثقفون يرصدون الأزمات الفكرية والسلوكية التي يعيشها التيار الليبرالي السعودي.
ومن آخر العمليات النقدية التي أحدثت حِراكاً فكرياً كبيراً: العملية التي قام بها "د. عبد الله الغذامي"، فقد تناول المنتج الليبرالي بالتفكيك والنقد، وأبرز ما فيه من التناقضات مع أصول الليبرالية نفسها، وأبدى ما وقع فيه الليبراليون من خلط بينها وبين الإصلاح، وبَيّن بأنهم ادّعوا إنجازات ومبادئ قيمية ليست خاصة بهم.
وما قدَّمه الغذامي يمثل بلا شك حدثاً كبيراً، وضربةً قوية أبرزت إشكالية عميقة متجذرة في الخطاب الليبرالي، حيث إنه صادر من مفكر يتبوأ منزلة عالية في الساحة، ولديه أصول فكرية واضحة، ويمتلك إيمانا كبيرا بمبادئه.
ولكن يلحظ المراقب أن الغذامي كان متوجهاً في نقده لليبراليين وليس لليبرالية نفسها، فهو لم يكن ناقداً لليبرالية كفكرة ومنهج، ولم يتعرّض لأصول الليبرالية ومبادئها، ولم يفكك ما تتضمنه من أفكار ومضامين معرفية، ولم يبين للقرَّاء مدى اتساقها وصحتها في نفسها ولا مدى معارضتها لأصول الشريعة الإسلامية.
فالغذامي حين نقد الليبراليين نقدهم لأجل أنهم لم يلتزموا بأصول الليبرالية كما هي، ولم ينقدهم لأجل أنهم تبنوا أصولاً خاطئة أو تمسكوا بمبادئ تخالف الشريعة، وحين غضب من الشبكة الليبرالية، لم يبن غضبه على ما فيها من شذوذ فكري وديني، إنما لأنهم حاربوا الحرية في الفكر.
ومع أن ما ذكره الغذامي عن الليبرالية صحيح، إلا أنه ليس هو كل ما عند الليبرالية؛ بل ليس هو أخطر وأفظع ما ظهر في منتجها الفكري.
وحين يستمع المراقب لنقد الغذامي لليبرالية يدور في ذهنه سؤال مشروع، وهو: إذا وجدت الفكرة الليبرالية الحقيقية كما هي في الفكر الغربي، ووجد من يتمثلها بشكل حقيقي وتام، فهل سيوجه الغذامي سهام نقده على هذه الحالة؟! وهل سيكتب مقالات نقدية فيها؟! وهل سيسعى إلى تقويضها وتحجيمها؟!
إن المراقب الواعي لن يخرج بجواب واضح من خلال ما قدمه الغذامي في محاضراته ومقالاته عن هذه الأسئلة.
سلطان بن عبد الرحمن العميري
( جامعة أم القرى - قسم العقيدة )
- التصنيف:
- المصدر: