وهم المثاقفة!!
المثاقفة من المفردات التي تعبر عن أوجه التبادل الثقافي (الأخذ والعطاء) بين الحضارات البشرية المتعددة. وهو اتجاه يسعى أن يكون وسطا بين الانفتاح المطلق الذي يؤول إلى الانصهار في ثقافة الآخر وبين الانغلاق المطلق الذي يؤول إلى الانعزال تمامًا عن الآخر والعالم بأسره.
المثاقفة من المفردات التي تعبر عن أوجه التبادل الثقافي (الأخذ والعطاء) بين الحضارات البشرية المتعددة. وهو اتجاه يسعى أن يكون وسطا بين الانفتاح المطلق الذي يؤول إلى الانصهار في ثقافة الآخر وبين الانغلاق المطلق الذي يؤول إلى الانعزال تمامًا عن الآخر والعالم بأسره.
وبهذا المعنى تعد المثاقفة رافدًا مهما تسعى كل أمةٍ من خلاله إلى معرفة الآخر واستثمار ما لديه من قيم ومعطيات إنسانية وحضارية، وإلى تنمية كيانها الثقافي بشكل خلاق وغير مضر بمقومات الهوية وثوابتها. كما أن مفهوم المثاقفة يصلح أن يكون بديلاً عن مفهوم الغزو الثقافي الذي يتضمن في طياته الرغبة في محو الهوية وإلحاقه بالآخر وفرض التبعية عليه، ومعاملته بنظرة فوقية احتقارية متغطرسة. هكذا تقدم المثاقفة في الفكر العربي المعاصر؛ حالةٌ من الاعتدال بين الذوبان والتصلب في التعاطي مع ثقافة الآخر.
لكن إذا عدنا إلى مفهوم المثافقة في الفكر الغربي (Acculturation) فإننا سنجده مختلفًا تمامًا عما يطرح في محيطنا الثقافي، حيث تطرح المثاقفة على أنها (علاقة بين متفوقة وثقافة متخلفة) (1)، بمعنى آخر كما يقول حسن حنفي: "أن المثاقفة التي يوهم الغرب بأنها تعني الحوار الثقافي والتبادل الثقافي؛ هي في الحقيقة تعني القضاء على الثقافات المحلية من أجل انتشار الثقافة الغربية خارج حدودها، وهيمنتها على غيرها، واعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري، ولا نمط سواه، وعلى كل الشعوب تقليده، والسير على منواله، واحتكار الغرب وحده حق إبداع التجارب بالجديدة والأنماط الأخرى للتقدم" (2).
هذا من جهة المفهوم وأما من جهة الواقع والممارسة، فأغلب النتاج الثقافي في محيطنا العربي بكل أشكاله وأنواعه؛ لا يخرج عن سياق المفهوم الغربي للمثاقفة. فكثير من مثقفينا (والمستغربين منهم على وجه الخصوص) قد وصل بهم المطاف من خلال هذه المثاقفة إلى حالةٍ لم يعد الواحد منهم قادرًا على الإبداع قولاً أو فعلاً إلا إذا تمت إحالة إبداعه إلى مصادره الخارجية في الحضارة الغربية: ماركسية أو وجودية أو وضعية أو بنيوية أو تفكيكية أو أي شيء آخر، المهم أن يكون النموذج الغربي هو المنطلق. وبعبارة أخرى: أصبح الغرب من خلال هذه المثاقفة هو الإطار المرجعي الأول والأخير لكل إبداع ذاتي عربي. وكما يعترف حسن حنفي -وأنا استشهد به هنا لكونه يعد من أكبر من مارس المثاقفة مع الفكر الغربي- يقول: "منذ أكثر من قرنين من الزمان نترجم، ونعرض، ونشرح، ونفسر التراث الغربي دون أن نأخذ منه موقفًا صريحًا واضحاً. ما زال موقفنا موقف الناقل، عصر الترجمة لدينا لم يتوقف بعد...
وما زال أكبر مشروع لدينا إلى وقت قريب هو النقل، والذي سميناه ترجمة الأعمال الكاملة لكبار المفكرين في الغرب، ويظل أكبر مشروع لنا في ثورتنا الحديثة هو ترجمة (الألف كتاب) نقلاً عن المؤلفات الغربية... وكأننا محكوم علينا بالنقل، عاجزون عن الإبداع، دورنا في التاريخ هو دور التلميذ والمتعلم والصبي أمام الأستاذ والمعلم الكبير... لقد أصبحنا وكلاء حضاريين للغرب، وأصبح حامل العلم والفكر لدينا هو الذي يبدأ حياته الفكرية بذكر أكبر عدد ممكن من الأسماء والأعلام والمذاهب الفكرية من الغرب منتسباً إلى أحدها، داخلاً في معاركها، داخلاً فيما لا شأن له به، حاشرًا نفسه في معارك لم ينشئها ولم يكن طرفاً فيها... وتنتشر المصطلحات بين الباحثين الشباب فيشعرون بضالتهم أمامها:الهرمنيوطيقا، الاستطيقا، الأسلوبية، البنيوية، التفكيكية، الفينومينولوجيا، الأنثروبولوجيا، الترانسندتالية، وتكثر عبارات التمفصلات، التمظهرات، الابتسميه، الدياكرونية، السنكرونية... إلخ. وأصبح المثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم هذه المصطلحات" (3).
هذا اعتراف أحد كبار الممارسين للمثاقفة مع الفكر الغربي، ومثل هذا نجده من قبل عند زكي نجيب محمود، ومحمد عابد الجابري، ومحمد جابر الأنصاري، وغيرهم مما لا يتسع المقام للوقوف على نصوصهم.
أريد هنا أن أشير إلي أن الفكرة الأساسية التي تقف وراء هذه الإشكالية المسماة بـ(المثقافة)، هي كالتالي: الاعتقاد المطلق بأن الثقافة الغربية، نتاج إنساني عالمي، يتجاوز الزمان والمكان، ويعبر حدود الجغرافيا والتاريخ. وبالتالي لا يختص بحضارة دون حضارة. وفي جملة واحدة (نزع الخصوصية عن الثقافة الغربية). هذا الاعتقاد هو أكبر وهم ما زال يعشش في أذهان كثير من مثقفينا العرب. فالفكر الغربي في حقيقته لا يعدو أن يكون بيئيًا محضًا -كأي فكري بشري- نشأ في ظروف معينة هي تاريخ الغرب نفسه، وبالتالي فهو صدى لتلك الظروف. والمفكِّرون الغربيون -كما يقول حسن حنفي في اعترافه السابق-: "يعبّرون عن ذلك بأنفسهم بقولهم: فلسفتنا، حضارتنا، فكرنا، أدبنا، فننا، تاريخنا، موسيقانا، علومنا، بل حتى ديننا! وإلهنا! فعند الكتَّاب الأوربيين إحساس واضح بأنهم ينتمون إلى حضارة بعينها، وبأنهم ينتمون إلى حضارتهم الخاصة المتميزة عن الحضارات الأخرى. لذلك كان خطؤنا، نحن الكتَّاب العرب غير الأوربيين، الذين ترجموا مؤلفاتهم و شرحوها، وعرضوها، بل وانتسبوا إليها، واعتنقوها- اعتبار الحضارة الأوربية حضارة عامة للناس جميعاً، ولم نرَ نوعيتها، أو رأيناها وتغافلنا عنها رغبةً في الحصول على الجديد بأي ثمن، وفي فترة لم نكن فيها على وعي كاف بتراثنا القديم، أو كان هذا الوعي محصوراً في فئة معينة من المصلحين والإحيائيين".
باختصار شديد؛ حالة المثقافة لدى المثقفين العرب لا تعدو أن تكون صورة جديدة (ومهذبة!) من صور الاسترقاق والتبعية الثقافية للنموذج الغربي وهي امتداد لما ابتلينا به منذ فجر النهضة العربية على أيدي الليبراليين والحداثيين العرب، والتي تحولت معهم النهضة من حلٍّ للأزمة إلى أزمة في ذاتها. وإلى اليوم ونحن نعيش هذه الأزمة (أزمة التراث والمعاصرة).
(1) انظر: المورد الانجليزي العربي.
(2) حسن حنفي، مقدمه في علم الاستغراب: ص 29.
(3) نفس المصدر: ص 54.
عبد الله بن محمد المالكي
- التصنيف: