ينابيع الرجاء - النبع الثاني: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
العاقبة من كل شَيْء آخِره، ومنه عَقِبُ الرَّجُل، ومنه العقوبة، لأنها تاليةٌ للذَّنب وعنه تكون، وقد وعد الله وعدا جازما أنها للمتقين، وهي هنا: النصر والظفر في الدنيا، والجنة في الآخرة، والدليل على أنَّ المراد هو العاقبة فى الدنيا قبل الآخرة أن الله ذكر ذلك عقب قصة نوح، ونصَرَه بعد صبره على قومه، فقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أنْتَ وَلا قَوْمكَ مِنْ قَبْلِ هذَا فَاصْبِرْ إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمتُقّينَ} [هود: 49]، أي أن عاقبة النصر لك ولمن معك، كما كانت لنوح عليه السلام ومن آمن معه.
العاقبة من كل شَيْء آخِره، ومنه عَقِبُ الرَّجُل، ومنه العقوبة، لأنها تاليةٌ للذَّنب وعنه تكون، وقد وعد الله وعدا جازما أنها للمتقين، وهي هنا: النصر والظفر في الدنيا، والجنة في الآخرة.
والدليل على أنَّ المراد هو العاقبة فى الدنيا قبل الآخرة أن الله ذكر ذلك عقب قصة نوح، ونصَرَه بعد صبره على قومه، فقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أنْتَ وَلا قَوْمكَ مِنْ قَبْلِ هذَا فَاصْبِرْ إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمتُقّينَ} [هود: 49]، أي أن عاقبة النصر لك ولمن معك، كما كانت لنوح عليه السلام ومن آمن معه.
- قال الطاهر بن عاشور: "فإذا عُرِّفَتْ العاقبة باللام كان المراد منها انتهاء أمر الشيء بأحسن من أوله، وذلك لأن كل أحد يود أن يكون آخر أحواله خيرا من أولها لكراهة مفارقة الملائم، أو للرغبة في زوال المنافر، فلذلك أطلقت العاقبة مُعرَّفة على انتهاء الحال بما يسر ويلائم، كما قال تعالى: {وَالْعَاقبَة للتَّقْوَى} [طه: 132]، وفي حديث أبى سفيان قول هرقل: "وكذلك الرسل تُبتلى ثم تكون لهم العاقبة"، فلا تطلق المُعَرَّفَة على عاقبة السوء، فالمراد بالعاقبة هنا عاقبة أمورهم في الحياة الدنيا ليناسب قوله {إِنَّ الْأَرْض لِلَّهِ يُورِثهَا مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَاده}، وتشمل عاقبة الخير في الآخرة لأنها أهم ما يلاحظه المؤمنون.
وجيء في جملتي: {إِنَّ الْأَرْض لِلَّهِ يُورِثهَا مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَاده}، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} بلفظين عامين، وهما:{مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَاده} و {لِلْمُتَّقِينَ}، لتكون الجملتان تذييلا للكلام، وليحرص السامعون على أن يكونوا من المتقين»[1].
وهي بشارة جميلة ووعدٌ لا يتخلف، وقد عُلِم من قوله {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أن من يشاء الله أن يورثهم الأرض هم المتقون إذا كان في الناس متقون وغيرهم، وأن تمليك الأرض لغيرهم إما عارض، وإما لاستواء أهل الأرض في عدم التقوى»[2].
قد ينتصر الباطل في جولة، ولكن الجولة الأخيرة يقينا لأهل الحق، والنصر لأهل الله، والبشارات في ذلك معروفة مأثورة سارت بها الركبان عبر ما بشَّرت به آيات القرآن وأحاديث سيد الأنام.
وفي وصف تفصيلي للمتقين حتى لا يختلط علينا الأمر، ولا ننخدع بالاسم عن المسمى، قال محمد رشيد رضا: "فالمتقون في هذا المقام - مقام استعمار الأرض والسيادة في الممالك - هم الذين يتقون أسباب خراب البلاد وضعف الأمم، وهي الظلم في الحكام، والجهل وفساد الأخلاق في الدولة والأمة، وما يتبع ذلك من التفرق والتنازع والتخاذل، والصالحون في هذا المقام هم الذين يصلحون لاستعمار الأرض وسياسة الأمم بحسب استعدادها الاجتماعي"[3].
- قال الإمام المراغي: والعاقبة الحسنى لمن يتقون الله ويراعون سننه فى أسباب إرث الأرض باتحاد الكلمة والاعتصام بالحق وإقامة العدل والصبر على الشدائد والاستعانة بالله لدى المكاره، ونحو ذلك مما هدت إليه التجارب ودلت عليه الشرائع.
والخلاصة، إن الأمر ليس كما قال فرعون، بل القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله، ولمن وعده الله تعالى توريث الأرض ونحن الموعودون بذلك، ولكن بشرط أن نقيم شرعه ونسير على سننه فى الخلق[4].
- شبهة وردُّها!: وهنا شبهة رائجة ردَّ عليها بكلام ثمين قيِّم عالم في منزلة ابن القيم، وقد أوردتُ كلامه على طوله لأهميته: نذكر هاهنا نكتة نافعة، وهى: أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان فى الدنيا من المصائب، وما ينال كثيرا من الكفار والفُجَّار والظلمة فى الدنيا من الرياسة والمال، وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم فى الدنيا لا يكون إلا للكفار والفُجّار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم فى الدنيا قليل، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة فى الدنيا قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين، فيقول: أنا على الحق، وأنا مغلوب، فإذا ذُكِّر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين، قال: هذا فى الآخرة فقط.
وإذا قيل له: كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبائه وأهل الحق؟
قال: يفعل الله فى ملكه ما يشاء، ويحكم ما يريد: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
أو قال: فعل بهم هذا ليعرِّضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعلو الدرجات، وتوفية الأجر بغير حساب.
وهذه الأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنية على مقدمتين.
إحداهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدينه، واعتقاده أنه قائم بما يجب عليه، وتارك ما نهى عنه، واعتقاده فى خصمه وعدوه خلاف ذلك، وأنه تارك للمأمور، مرتكب للمحظور، وأنه نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه.
والمقدمة الثانية: اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة فى الدنيا بوجه من الوجوه، بل يعيش عمره مظلوما مقهورا مستضاما، مع قيامه بما أمر به ظاهرا وباطنا، وانتهائه عما نهى عنه باطنا وظاهرا.
فلا إله إلا الله، كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل، ومتدين لا بصيرة له، ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين.
وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى فى الدنيا والآخرة، بل قد تكون العاقبة فى الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين، وللفجار الظالمين على الأبرار المتقين، فهذا من جهله بوعد الله تعالى ووعيده.
فأما المقام الأول: فإن العبد كثيرا ما يترك واجبات لا يعلم بها، ولا بوجوبها، فيكون مقصِّرا فى العلم، وكثيرا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها، إما كسلا وتهاونا، وإما لنوع تأويل باطل، أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشد وجوبا من واجبات الأبدان، وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هى من باب الفضائل والمستحبات.
قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان، وكذلك النصر والتأييد الكامل. إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] وقال {فَأَيَّدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14].
فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة فى نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هى بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه.
وبهذا يزول الإشكال الذى يورده كثير من الناس على قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141].
ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا فى الآخرة، ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا فى الحجة.
والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى، فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مكفي، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان.
وأما المقام الثانى الذى وقع فيه الغلط، فكثير من الناس يظن أن أهل الدين الحق فى يكونون الدنيا أذلاء مقهورين مغلوبين دائما، بخلاف من فارقهم إلى سبيل أخرى وطاعة أخرى، فلا يثق بوعد الله بنصر دينه وعباده، بل إما أن يجعل ذلك خاصا بطائفة دون طائفة، أو بزمان دون زمان أو يجعله معلقا بالمشيئة، وإن لم يصرح بها، وهذا من عدم الوثوق بوعد الله تعالى، ومن سوء الفهم فى كتابه، والله سبحانه قد بين فى كتابه أنه ناصر المؤمنين فى الدنيا والآخرة، وهذا كثير فى القرآن[5].
[1] التحرير والتنوير9/60.
[2] التحرير والتنوير9/60.
[3] تفسير المنار 2/380.
[4] تفسير المراغي 9/38.
[5] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 2/177-183 بتصرف.
خالد أبو شادي
طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة
- التصنيف: