نقاش علمي مع الشيخ ابن منيع في مسألة الأهلة

منذ 2014-03-27

كنت شرعت في جمع مادة علمية في الرد على الشيخ عبد الله بن منيع حفظه الله في المسألة المشهورة التي يثيرها حفظه الله في كل عام والمتعلقة بخطأ رؤية أهلة شهر رمضان، وشوال، وذي الحجة، في عدد من المرات خلال السنوات الأخيرة المنصرمة في المملكة العربية السعودية، ومن ثمّ تحديده لبدايات هذه الشهور بناءً على الحسابات الفلكية، وكنت أقدم رجلًا وأؤخر أخرى في تحرير تلك المادة العلمية لتنشر ردًا على الشيخ حفظه الله، فأؤخرها من جهة بسبب هيبة الرد على مثل شيخ جليل وعالم كالشيخ عبد الله بن منيع حفظه الله ورعاه، ثم من جهة أخرى بسبب كثرة الانشغال، وأقدمها لما أرى أنّ كلام فضيلته أصبح متكأ لكثير من الناس في داخل المملكة وخارجها القائلين باعتماد الحساب الفلكي في إثبات بدايات هذه الأشهر، أما في داخل المملكة فإن هؤلاء الذين يطلق عليهم بالليبراليين كثيرًا ما يتكئون على كلامه في هذه المسألة، بل ويشيدون بانفتاح الشيخ، وتمشيه مع مقتضيات العصر، خلافاً لغيره من المشايخ الرافضين لقبول الآخر، والانفتاح عليه.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، فقد كنت شرعت في جمع مادة علمية في الرد على الشيخ عبد الله بن منيع حفظه الله في المسألة المشهورة التي يثيرها حفظه الله في كل عام والمتعلقة بخطأ رؤية أهلة شهر رمضان، وشوال، وذي الحجة، في عدد من المرات خلال السنوات الأخيرة المنصرمة في المملكة العربية السعودية، ومن ثمّ تحديده لبدايات هذه الشهور بناءً على الحسابات الفلكية، وكنت أقدم رجلًا وأؤخر أخرى في تحرير تلك المادة العلمية لتنشر ردًا على الشيخ حفظه الله، فأؤخرها من جهة بسبب هيبة الرد على مثل شيخ جليل وعالم كالشيخ عبد الله بن منيع حفظه الله ورعاه، ثم من جهة أخرى بسبب كثرة الانشغال، وأقدمها لما أرى أنّ كلام فضيلته أصبح متكأ لكثير من الناس في داخل المملكة وخارجها القائلين باعتماد الحساب الفلكي في إثبات بدايات هذه الأشهر، أما في داخل المملكة فإن هؤلاء الذين يطلق عليهم بالليبراليين كثيرًا ما يتكئون على كلامه في هذه المسألة، بل ويشيدون بانفتاح الشيخ، وتمشيه مع مقتضيات العصر، خلافاً لغيره من المشايخ الرافضين لقبول الآخر، والانفتاح عليه.

وأما في خارج المملكة وتحديدًا في بلاد الغرب فإن فتوى الشيخ أصبحت مستندًا لمن ينصرون العمل بالحساب، وهم في تلك البلاد كُثُر بسبب تأثير الحياة الغربية عليهم، وأصبح كلام الشيخ تبعًا لذلك وثيقة مهمة للطعن في العمل بالرؤية، إذ أنها صادرة من بلاد تعمل بالرؤية، وفي بعض الأحوال -وإن كانت ضيقة- أصبح مرجعًا يستشهد به من أراد الطعن في الشريعة (التقليدية) ومهاجمتها أو المطالبة بالتحديث فيها.

هذا وليعلم أن الشيخ ابن منيع حفظه الله لم ينفرد بهذا القول، بل وافقه عدد من المعاصرين على رأسهم -من متقدمي العصر- الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله، ومن متأخريه المعاصرين الدكتور يوسف القرضاوي، أما من المتقدمين فسيأتي معنا بأن الإجماع قد انعقد على خلافه، ولذا لا تكاد نسبته
تصح لأحد غير تقي الدين السبكي، ومع ذلك فإن كلامه رحمه الله موهم، إذ أنه بعد نقله الإجماع على طرح العمل بالحساب مطلقًا استطرد بكلام يفهم منه مخالفة ذلك والقول باعتماد الحساب في النفي دون الإثبات، وسنثبت بعد قليل كلامه كله في هذا المقام، وبكل حال فإن مقصود هذه الورقات مناقشة الشيخ ابن منيع حفظه الله أصالة، ومناقشة غيره ممن يوافقه في القول تبعًا.

لقد كتب الشيخ -ابن منيع- حفظه الله بعد ذلك وفي هذا العام بالتحديد (1428 هـ) ردًا تناقلته بعض وسائل الإعلام المكتوبة (منها جريدة الرياض يوم الأحد 9 شوال 1428هـ- 21 أكتوبر 2007 - العدد 14363)، لا يخلو من صلابة في الخطاب على فضيلة الشيخ صالح اللحيدان الذي كتب تصريحًا يرد فيه على (دعاوى المرجفين)، مستعملاً فيه -على عادة أكثر مشايخنا في المملكة العربية السعودية- لغة خطاب عامة، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى عدم فهم حجتهم، بل ربما النظر إليها كحجة ضعيفة مهلهلة لا تصمد أمام الحجج القوية والواقعية التي يأتي بها المخالفون، ثم تعقب الشيخ صالح الفوزان حفظ الله الجميع، الشيخ ابن منيع في رده على الشيخ اللحيدان، ومؤيدًا للشيخ اللحيدان، ولما جرى عليه العلم في السعودية، بكتابة مختصرة شبيهة بكتابة الشيخ اللحيدان، الأمر الذي كرس لدى البعض القول بضعف حجة القائلين بالرؤية دون الحساب، أو بقوة كلام الشيخ ابن منيع في اعتماد الحساب في النفي دون الإثبات إذ لم يتمكن أحد من الإجابة على شبهه، ولا زال الرادون عليه يكررون نفس الكلام الذي يعرفه الشيخ ابن منيع نفسه.. كانت هذه المداولات دافعًا لتقديم الإقدام على الإحجام وتحرير ما اجتمع لدي في هذه المسألة على وجه الاختصار في صورة مقالة لعل الفائدة تعم بمشيئة الله تبارك وتعالى.

هذا، وقد جمعت هذه المقالة طرفًا من التعقبات على مآخذ الشيخ ومن وافقه في النظر لهذه المسألة، مما لم أجده في كلام المعاصرين الذين تعقبوا القائلين بالرؤية وعدم الالتفات للحساب، وأوردت إيرادات خارجة عما تداوله الطرفان، مما لا أظن أن الشيخ ابن منيع ولا من وافقه قد اطلع عليها، ولا أجابوا عنها، الأمر الذي يؤمّلني في أن ينظر إليها الشيخ ابن منيع ومن يوافقه نظرة منصفة ومتأملة.

ثم بعد ذلك أحب أن أقول بأن هذا التعقيب على الشيخ ابن منيع، لا يرد على مسألة اجتهادية، إذ إن المسائل الاجتهادية تتسع لها الصدور، ولا ينبغي إشغال العامة بها، لكنه يأتي في مسألة لا يرد عليها بحث أصلاً لانعقاد سابق إجماع أو شبهه مما له حكمه عليها، وقد قال ذلك من قبل فقيه مفسر أصولي كبير، فقد قال الجصاص الحنفي: "فالقائل باعتبار منازل القمر وحساب المنجمين خارج عن حكم الشريعة، وليس هذا القول مما يسوغ الاجتهاد فيه لدلالة الكتاب ونصِّ السنة وإجماع الفقهاء على خلافه" (أحكام القرآن [1/280])، ومثله قال ابن تيمية، وكلامه هذا معروف متداول: "فإننا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أوغير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لايجوز والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف حديث إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا، وهذا القول وإن كان مقيدًا بالإغمام ومختصًا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم" (مجموع فتاوى ابن تيمية [21/132-133]).اهـ

وقد نقل الإجماع على طرح العمل بالحساب بإطلاق -وهذا يشمل النفي والإثبات- جمع من العلماء، منهم الجصاص (أحكام القرآن [1/280]، والجصاص فقيه أصولي مفسر حنفي توفي عام 370هـ) وقد تقدم كلامه، والباجي (المنتقى شرح الموطأ [2/ 38] للباجي وهو فقيه أصولي مالكي متوفى 471هـ)، وابن رشد القرطبي (بداية المجتهد [1/ 283 ، 284] لا بن رشد وهو فقيه أصولي، مالكي توفي سنة 595هـ)، والحطاب (مواهب الجليل [2/ 387] للحطاب وهو فقيه مالكي توفى سنة 954هـ) وشيــــخ الإسلام ابن تيمية -وقد تقــــدم كلامـــه كذلك-، وابن عابدين (حاشية ابن عابدين [2/387]، وابن عابدين فقيه حنفي متأخر متوفى سنة 1252هـ) وغيرهم، بل إن أشهر وأعلم من قال الأخذ بالحساب مطلقًا من المعاصرين أثبت ذلك، فقد قال العلامة أحمد شاكر: "واتفقت كلمتهم أو كادت على أن العبرة في ثبوت الشهر بالرؤية وحدها، وأنه لا يُعتبر حساب منازل القمر ولا حساب المنجم" (أوائل الشهور العربية ص 4).

فخلاف الشيخ ابن منيع ومن قبله ومن معه فيها خلاف طارئ، بل إنه خلاف غير محرر من جهة، وخلاف يفتح أبوابًا من الأسئلة والإيرادات التي تصعب الإجابة عليها وربما تتعذر.

 

مآخذ الشيخ ابن منيع ومن وافقه وحججهم في هذه المسألة:

إذا تأملنا كلام الشيخ ابن منيع ومن وافقه في هذا المسألة، نجده يدور حول مقدمات يمكن تلخيصها فيما يلي:

أولها: الرجوع إلى علم الفلك في النفي دون الإثبات، وكثيرًا ما يردد الشيخ في فتاويه: "أما في حال النفي فيجب العمل بالحساب الفلكي، فإذا قال الحساب الفلكي بأن الهلال لا يولد إلا بعد غروب الشمس، ثم جاء من يقول إنه رأى الهلال قبل غروب الشمس، فهذا في الواقع باطل؛ لأن هذه الشهادة لم تنفك عما يكذبها، فوجب ردُّها مهما كان قائلها، ومهما تعدَّد الشاهدون بها" (انظر على سبيل المثال فتاويه حول هذا الأمر في موقع الإسلام اليوم وهو من أكثر المواقع التي أبرزت رأي الشيخ هذا).

وأما الثانية: فهي وقوع أخطاء في الرؤية السعودية أعوامًا عديدة، وذلك لنفي الفلك لإمكانيتها.

الثالثة: إنّ حسابات علم الفلك مقدمات لنتيجة قطعية الثبوت، إذ أنها حقيقة علمية، فيقول مثلًا في تعقيبه على الشيخ اللحيدان: "ولاشك بوجود الفرق بين من يتقدم بشهادة رؤية الهلال وبين من يذكر بحقيقة علمية معروفة لدى علماء ذلك العلم. فالأول يأتي بخبر يختص هو بمصدره –وهي الرؤية- والثاني يأتي بخبر علمي يشترك في معرفته جميع علماء ذلك العلم، فالأول في حاجة إلى تعديل وإنصاف بالثقة والأمانة والتقوى والصلاح لكون مصدر علمه بذلك الخبر -وهو الشهادة بالرؤية- ذاتياً في نفسه والثاني لايلزم اشتراط تقواه وصلاحه لكون خبره معلوماً لجميع علماء ذلك الخبر".

الرابعة: أن الشهادة متى ما خالفت الحس وما هو قطعي الثبوت فإنها ترد ولا تعتمد.

وفي ظني أن الشيخ مع جلالة قدره وفهمه، فقد أخطأ في هذه المسألة خطأ لا يحتمله الاجتهاد، وأن هذه المقدمات منها ما هو خطأ أصلاً وما كان منها صواباً فلا تأثير له في مسألتنا هذه وعليه فلا يوجد مسوغ مقبول شرعًا لما يقوله الشيخ، ولذا فإن رأيه لا يعتبر أصلًا اجتهادًا مقبولًا تتسع له صدور المخالف، ويقبل القول أو العمل به، وهذا وإن كان استباقًا للنتائج في المقدمة، وهو خلاف العرف العلمي، إلا أنه مقتضى عرف الشريعة في الأمور المستقرة المعلومة والمشتهرة، فوجب اتباعه، وإن بدا مخالفًا للطريقة الغربية التي لا تعترف بما (لا ريب فيه)، وهذا بيان ذلك:

أولاً: إنه من المشهور أن المستقر عند المسلمين أن ثبوت شهر رمضان المبارك يحصل بأمرين لا ثالث لهما:
الأول: رؤية الهلال.
الثاني: إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا.

هذا هو المشهور بناء على الأحاديث التي يحفظها كل أحد، لكن المتأمل لكلام الفقهاء يعلم أن ثمة أمر آخر يعتبر حاكمًا على هذين الأمرين وإليه المرجع في ثبوت الشهر، ألا وهو قبول المسلمين لأحد الأمرين -بل وحتى للحساب الفلكي- وهذه بعض الأدلة النقلية والعقلية التي تؤيد هذا؛ أعني أن قبول المسلمين لأحد الأمرين هو المعول عليه في بدء الشهر، وليعلم أن هذا ليس اجتهادًا أو ترجيحًا من كاتب هذه الأسطر، ولكنه -عند التأمل- عين ما قاله جماهير العلماء، بل إنه كذلك مما لا يسع أحدًا القول بخلافه، وأظن أن الشيخ ابن منيع في رده على الشيخ اللحيدان قد أقر به وأحسن، وقال: "ونحن نقول لفضيلته سمعنا وأطعنا لقراركم المؤيد من قبل ولي أمرنا فالفطر يوم يفطر الناس" لكننا نخالفه، ولا نرى أنه أحسن في قوله "ونحن في ذمة مجلس القضاء" فنحن في ذمة الله يوم أن عملنا بمقتضى تلك النصوص، لا نملك غير ذلك، وإنما تقال هذه العبارة لو أننا عملنا بالحساب، دون مشاهدة الشهر.

 

وهذه هي الحجج:

أولاً: لو رأى أحد من المسلمين الهلال، وشهد عند ولي الأمر فرد شهادته لسبب ما، فإن ابتداء الشهر يكون في اليوم الذي قرره ولي الأمر وقبله المسلمون، وعند غياب قرار ولي الأمر يقوم جمهور المسلمين مقامه كما هو مقرر، وأما هذا الذي رأى الهلال وحده، فله حالتان:

أ- أن يرى هلال رمضان، وهذا قد اختلف العلماء في حكمه، هل يصوم وحده، وهل يصوم سرًا أم لا، هذا في الصيام، هذا ما ذكره الفقهاء فيمن رأى هلال رمضان وحده.

ب- من رأي هلال شوال وحده -ويلحق به من استكمل ثلاثين يومًا بناء على رؤيته- وبه يتضح الأمر أكثر، فيمكن أن يخرّج على القول السابق أنه يفطر سرًا، لكن كيف يفعل في صلاة العيد، هل يصلي العيد وحده كما ذكره بعض العلماء تخريجًا فيمن فاتتة صلاة العيد، أنه يصلي وحده في بيته؟!، هل يسافر إلى بلاد تصلي العيد؟، لم أر من ذكر هذا، ولا أظن أن الفقهاء تصوروا هذه الحالة، إذًا ليس له مناص من أن يصلي العيد مع المسلمين الذين يعيش معهم يوم دخول العيد عليهم.

يثور هنا سؤال آخر، وهو هل يقضي اليوم الذي تقرر عنده بناء على رؤيته، أنه من رمضان، أم لا؟ بحث نريد تجاوزه الآن.

تبقى الحالة الثانية، وهي من رأى هلال رمضان، وردت شهادته، لكنه ابتدأ الصيام وحده، وفي نهاية شهر رمضان لم ير الهلال، فأتم المسلمون في تلك البلاد رمضان ثلاثين يومًا، فماذا يفعل إذ إنه ابتدأ الصيام قبل الناس؟ هل يصوم مع الناس؟ أو يفطر سرًا؟ إن صام مع الناس فقد صام واحدًا وثلاثين يومًا، وإن أفطر، فهل يقال أنه أفطر يومًا من رمضان؟ وهل يقال أيضًا إنه صام يوم العيد المنهي عنه؟ وهل يقال إنه يصوم نفلاً؟ فهذا غير متجه فإن كان من رمضان لم يجز له أن ينويه نفلاً، وإن كان من شوال فهو أول أيام العيد، فيحرم عليه صيامه؟ جملة احتمالات ورادة جدًا على ما ذكروه فيمن رأى هلال رمضان وحده، ولهذا فإن هذه المسألة لا تنضبط إلا بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: "إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ".

ثانياً: تكلم العلماء المعاصرون فيمن ابتدأ الصيام في بلد، ثم انتقل إلى بلاد أخرى، أثبتت دخول شهر شوال قبل بلاده، وعليه فإنه يكون قد صام ثمانية وعشرين يومًا، فهل يستمر في الصيام وحده، ولو خالف المسلمين في البلاد التي انتقل إليها، ليصوم اليوم المكمل للتاسع والعشرين، وأقل ما يكون الشهر تسعة وعشرين كما في الحديث، أم يصوم مع هذه البلاد، ثم يقضي يومًا، الفتوى المعاصرة التي لم نطلع على خلافها أنه يفطر مع هذه البلاد، ثم يقضي يومًا، ولا يسوغ القول بغير هذا، لأنه لو استكمل الصيام وحده، فإنه عرضة لأن يكون صام يوم العيد، وهو كذلك قطعًا لن يصلي عيدًا إلا إن انتقل إلى بلاد أخرى تصلي العيد في اليوم التالي، وهذا فيه ما فيه، ولهذا أفتى العلماء بأن يفطر مع البلد الجديد التي انتقل إليها، ثم يقضي يومًا بعده و لا يصح عقلاً وشرعًا غير هذا.

وكذلك الحال إذا استكملت تلك البلاد الجديدة رمضان ثلاثين يومًا، فإنه إن أفطر وحده فإنه يرد عليه أن يكون أفطر يومًا من رمضان، ويرد عليه كذلك أن لا يصلي العيد إلا إذا سافر إلى بلاد تصليها في ذلك، ولهذا فإن المتعين في حقه أن يصوم اليوم الواحد والثلاثين معهم، ثم يصلي العيد معهم، لكن يبقى البحث هنا هل يصوم هذا اليوم بنية رمضان، أم بنية النفل؟ هو لا شك إشكال محل بحث، لكن هذا الإشكال يضعف مقارنة مع الاحتمال الآخر وهو أن يفطر وحده، فإن الموارد عليه عندئذ أكثر.

ثانيًا: حجة نقلية صريحة مركبة من نص السنة النبوية، ونص الإجماع، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ» قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: "إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ".

ونظرة عجلى لكتب الفقه نجد أن هذا الأمر مستقر بيّن، يؤيد هذا الذي قاله الترمذي، بأن معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس.


الشهر شهران: شرعي، وآخر فلكي، أو لنقل الشهر له بدايتان، إحداهما فلكية، وأخرى شرعية:
ثانيًا: إذا تقرر هذا، فقد علم أننا لا نصوم الشهر الفلكي الذي يبدأ مع خروج قرص القمر من شعاع الشمس، والذي يكون ترتيبه التاسع في الأشهر القمرية الفلكية في السنة الشمسية، ولكننا نصوم شهرًا آخر هو الشهر الشرعي، وهو يفارق الشهر الفلكي، من عدة وجوه أهمها:

أن بدايته قد تطابق الشهر الفلكي وقد تخالفه، وهذا مما لم أجد له إشارة في كلام المعتمدين على الحساب، ولا في كلام من رد عليهم، وهو أمر واضح لا مراء فيه، وأظهر أمثلته إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا، فإذا ما (قطع) الحساب أن الشهر يبدأ يوم السبت مثلًا، وهو يوم الثلاثين من شهر شعبان، لكن لم يتقدم أحد شاهدًا على الرؤية، فعندئذ وجب علينا إجماعًا -أو ما يقاربه لخلاف من شذ- أن نكمل عدة شعبان ثلاثين يومًا مخالفين ذلك للحساب، ومستند هذا الاتفاق عدد من الأحاديث منها لفظ «فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» ومنها لفظ «لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه»، إذا تقرر ذلك، فإن أول يوم من شهر رمضان الشرعي، هو اليوم الثاني من شهر رمضان الفلكي!

وهنا نسأل الشيخ ابن منيع، هل هذا نفي أم إثبات؟ نعم يمكن أن يقول قائل بأننا إذا أثبتنا دخول الشهر بناء على الحساب، فهذا إثبات، ولا نقول به، لكن مع ذلك يمكن أن يقال أننا أثبتنا الشهر بعد ثلاثين يومًا من شعبان، وأنتم تقولون بنفي ذلك، أي إن الشهر يستحيل دخوله في هذا اليوم، بل إن دخوله قد تيقن أمس، ولهذا لم نر أن هذا قول معتبر عند السالفين، حتى ولو حملنا كلام السبكي الآتي عليه.

ومن لطيف المسائل المترتبة على هذه، تحديد العشر الأواخر التي يكون تحري ليلة القدر فيها، أو في أوتارها، ويشرع الاعتكاف بدخول أول لياليها، فهل أوتار العشر التي ترجى فيها ليلة القدر هي أوتار العشر الأواخر من الشهر الفلكي، أم من الشهر الشرعي؟ وهل ليلة السابع والعشرين مثلا هي باعتبار الشهر الشرعي أم باعتبار الشهر الفلكي؟ لا أظن أحدًا يقول بأن حساب تلك الليالي معتمدًا على الشهر الفلكي، وإلا لقال قائل بدخول المعتكف ليلة العشرين، إذ قد تكون احتياطًا ليلة الواحد والعشرين، وهكذا فقس.

إذًا، نحن نصوم، ونقوم، ونعتبر الشهر الشرعي، وليس للشهر الفلكي عندنا -معاشر المسلمين- أي اعتبار.

فالشهر الفلكي، هو التاسع في السنة الهجرية، بدايته ونهايته مردها إلى أمر واحد وهو الحسابات الفلكية، بينما مرد الشهر الشرعي لأمور مختلفة في المضمون، متغايرة في العلة، أهمها قبول إمام المسلمين أو جماعتهم بيوم ابتدائه، ويوم انتهائه بناء على شهادة شهود أو إكمال العدة ثلاثين، بل والحساب، فإذا تقرر هذا علم أن ثمة مغايرة كاملة بين الشهرين، نعم قد يتفقان، وقد يختلفان، وهذا لا يضيرنا في شيء.

نظائر ذلك كثيرة، وقد عهدنا عند الفقهاء قولهم بلا نكير الطهارة مثلًا لغة النظافة، وشرعًا هي حالة تمكن الإنسان من القيام بعبادات معينة كالصلاة، وقد يكون ثمة متوضئ غير نظيف لغة، ونظيف لغة غير طاهر شرعًا، فهذان أمران متغايران، وأقوى من هذا مثال آخر، لعل الشيخ ابن منيع والقائلين بمثل قوله يتأملوه، لكن قبل ذلك أحب أن أنقل طرفًا من كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية (أنقله لا ليكون حاكما على كل كلام عداه، ولكن ليستأنس به في تصوير هذا التحرير، إذ إنه لم يأت برأي جديد في هذه القضية ، وكثيرًا ما يساء الظن بشيخ الإسلام ويظن أنه أتى بما خالف به جماهير العلماء السابقين له، وحاشاه، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله، ينظر إلى الأدلة مجتمعة من خلال نظر كلي، وهو بذلك مستقرئ لمقاصد الشريعة عامل بمقتضاها، ومع ذلك هو ناظر في آحاد الأدلة بكل تفصيلاتها، جامع بين دلالاتها ودلالات المقاصد، مثبت أن ثمة لا تعارض بينهما، ثم هو بعد ذلك يبين أن قوله هو قول جماهير السلف والخلف وإن لم ينص عليه أرباب المذاهب المتأخرون، فإذ فعل ذلك بزّ الجميع بتصويره العجيب للمسألة مجال البحث، وبيانه القوي للعلل، والحكم، والمقاصد، مما يظهر وكأنه خالف ما أجمع عليه، أو ما اتفقت كلمة الجماهير عليه)، قال رحمه الله تعالى: "وأصل هذه المسألة أن الله سبحانه وتعالى علق أحكاماً شرعية بمسمى الهلال والشهر كالصوم والفطر والنحر فقال تعالى {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلأهِلَّةِ قُلْ هي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجّ} [البقرة:189]، فبين سبحانه أن الأهلة مواقيت للناس والحج، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ} [البقرة من الآية:183] إلى قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِي أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ} [البقرة من الآية:185] أنه أوجب صوم شهر رمضان وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن الذي تنازع الناس فيه أن الهلال هل هو اسم لما يظهر في السماء وإن لم يعلم به الناس وبه يدخل الشهر، أو الهلال اسم لما يستهل به الناس والشهر لما اشتهر بينهم؟ على قولين: فمن قال بالأول يقول: من رأى الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم ودخل شهر رمضان في حقه وتلك الليلة هي في نفس الأمر من رمضان وإن لم يعلم غيره، ويقول: من لم يره إذا تبين له أنه كان طالعًا قضى الصوم، وهذا هو القياس في شهر الفطر وفي شهر النحر لكن شهر النحر، ما علمت أن أحدًا قال من رآه يقف وحده دون سائر الحاج وأنه ينحر في اليوم الثاني ويرمي جمرة العقبة ويتحلل دون سائر الحاج، وإنما تنازعوا في الفطر: فالأكثرون ألحقوه بالنحر وقالوا: لا يفطر إلا مع المسلمين؛ وآخرون قالوا: بل الفطر كالصوم ولم يأمر الله العباد بصوم واحد وثلاثين يومًا، وتناقض هذه الأقوال يدل على أن الصحيح هو مثل ذلك في ذي الحجة. وحينئذ فشرط كونه هلالًا وشهرًا شهرته بين الناس واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد لكون شهادتهم مردودة أو لكونهم لم يشهدوا به كان حكمهم حكم سائر المسلمين فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين وهذا معنى قوله: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون»،ولهذا قال أحمد في روايته: يصوم مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحو والغيم، قال أحمد: يد الله على الجماعة. وعلى هذا تفترق أحكام الشهر: هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم أو ليس شهرًا في حقهم كلهم؟ يبين ذلك قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فإنما أمر بالصوم من شهد الشهر، والشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس حتى يتصور شهوده والغيبة عنه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وصوموا من الوضح إلى الوضح» ونحوذلك خطاب للجماعة، لكن من كان في مكان ليس فيه غيره إذا رآه صامه فإنه ليس هناك غيره، وعلى هذا فلو أفطر ثم تبين أنه رئي في مكان آخر أو ثبت نصف النهار لم يجب عليه القضاء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، فإنه إنما صار شهرًا في حقهم من حين ظهر واشتهر. ومن حينئذ وجب الإمساك كأهل عاشوراء الذين أمروا بالصوم في أثناء اليوم ولم يؤمروا بالقضاء على الصحيح وحديث القضاء ضعيف" (مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية – [ج 25/ ص 114 ـ 118]).

هذا، ثم وجدت كلامًا آخر لتقي الدين علي بن الكافي السبكي -الذي تقدم ذكره في بداية هذا البحث- في فتاويه، يتأكد به ما تقدم من أن هذا الفهم أمر مستقر عند سالف العلماء، ولا بأس بنقله، وإن كنت حاولت اختصار النقول وتقليلها، قال رحمه الله: "وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرَ هَكَذَا وَهَكَذَا عَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ وَقَدْ تَأَمَّلْت هَذَا الْحَدِيثَ فَوَجَدْت مَعْنَاهُ إلْغَاءَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ مِنْ أَنَّ الشَّهْرَ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ مُفَارَقَةِ الْهِلَالِ شُعَاعَ الشَّمْسِ فَهُوَ أَوَّلُ الشَّهْرِ عِنْدَهُمْ وَيَبْقَى الشَّهْرُ إلَى أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَهَا وَيُفَارِقَهَا فَالشَّهْرُ عِنْدَهُمْ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَهَذَا بَاطِلٌ فِي الشَّرْعِ قَطْعًا لَا اعْتِبَارَ بِهِ فَأَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّا أَيْ الْعَرَبُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، أَيْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ الْكِتَابَةُ وَلَا الْحِسَابُ. فَالشَّرْعُ فِي الشَّهْرِ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ وَيُدْرَكُ ذَلِكَ إمَّا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَإِمَّا بِكَمَالِ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ، وَاعْتِبَارُهُ إكْمَالُ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَظِرُونَ بِهِ الْهِلَالَ وَأَنَّ وُجُودَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطِ إمْكَانِ الرُّؤْيَةِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَكَانَ إذَا فَارَقَ الشُّعَاعَ مَثَلًا قَبْلَ الْفَجْرِ يَجِبُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَلَمْ يَجْعَلْ الصَّوْمَ إلَّا فِي الْيَوْمِ الْقَابِلِ، وَهَذَا مَحَلٌّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ (فتاوى السبكي [1/411])
إلا أن السبكي رحمه الله أتبع هذا النقل والتقرير بما يمكن أن يفهم منه أنه يقول باعتماد الحساب في النفي دون الإثبات، وقد أضحى هذا الجزء الأخير من كلامه عمدة يستشهد بها كل من قال بالعمل بالحساب في النفي دون الإثبات، بل بالعمل بالحساب مطلقًا، قال رحمه الله: "وَهَهُنَا صُورَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ الْحِسَابُ عَلَى عَدَمِ إمْكَانِ رُؤْيَتِهِ وَيُدْرَكُ ذَلِكَ بِمُقَدَّمَاتٍ قَطْعِيَّةٍ وَيَكُونُ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنْ الشَّمْسِ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُمْكِنُ فَرْضُ رُؤْيَتِنَا لَهُ حِسًّا لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فَلَوْ أَخْبَرَنَا بِهِ مُخْبِرٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَحْتَمِلُ خَبَرُهُ الْكَذِبَ أَوْ الْغَلَطَ فَاَلَّذِي يُتَّجَهُ قَبُولُ هَذَا الْخَبَرِ وَحَمْلُهُ عَلَى الْكَذِبِ أَوْ الْغَلَطِ وَلَوْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ الْحِسَابَ قَطْعِيٌّ وَالشَّهَادَةَ وَالْخَبَرَ ظَنِّيَّانِ وَالظَّنُّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ وَالْبَيِّنَةُ شَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ مَا شَهِدْت بِهِ مُمْكِنًا حِسًّا وَعَقْلًا وَشَرْعًا فَإِذَا فُرِضَ دَلَالَةُ الْحِسَابِ قَطْعًا عَلَى عَدَمِ الْإِمْكَانِ اسْتَحَالَ الْقَبُولُ شَرْعًا لِاسْتِحَالَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَالشَّرْعُ لَا يَأْتِي بِالْمُسْتَحِيلَاتِ، وَلَمْ يَأْتِ لَنَا نَصٌّ مِنْ الشَّرْعِ أَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا سَوَاءٌ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ صَحِيحًا أَوْ بَاطِلًا وَلَا يَتَرَتَّبُ وُجُوبُ الصَّوْمِ وَأَحْكَامُ الشَّهْرِ عَلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ أَوْ الشَّهَادَةِ حَتَّى إنَّا نَقُولُ: الْعُمْدَةُ قَوْلُ الشَّارِعِ صُومُوا إذَا أَخْبَرَكُمْ مُخْبِرٌ فَإِنَّهُ لَوْ وَرَدَ ذَلِكَ قَبِلْنَاهُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ لَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَأْتِ قَطُّ فِي الشَّرْعِ بَلْ وَجَبَ عَلَيْنَا التَّبَيُّنُ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ حَتَّى نَعْلَمَ حَقِيقَتَهُ أولًا، ولا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَشْهَدُ بِالْهِلَالِ قَدْ لا يَرَاهُ وَيُشْتَبَهُ عَلَيْهِ أَوْ يَرَى مَا يَظُنُّهُ هِلَالًا وَلَيْسَ بِهِلَالٍ أَوْ تُرِيهِ عَيْنُهُ مَا لَمْ يَرَ أَوْ يُؤَدِّي الشَّهَادَةَ بَعْدَ أَيَّامٍ وَيَحْصُلُ الْغَلَطُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي رَأَى فِيهَا أَوْ يَكُونُ جَهْلُهُ عَظِيمًا يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَعْتَقِدَ فِي حَمْلِهِ النَّاسَ عَلَى الصِّيَامِ أَجْرًا أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ يَقْصِدُ إثْبَاتَ عَدَالَتِهِ فَيَتَّخِذُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى أَنْ يُزَكَّى وَيَصِيرَ مَقْبُولًا عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ قَدْ رَأَيْنَاهَا وَسَمِعْنَاهَا فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إذَا جَرَّبَ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ بِخَبَرِ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّ دَلَالَةَ الْحِسَابِ عَلَى عَدَمِ إمْكَانِ الرُّؤْيَةِ أَنْ لَا يَقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَلَا يُثْبِتَ بِهَا وَلَا يَحْكُمَ بِهَا، وَيُسْتَصْحَبُ الْأَصْلُ فِي بَقَاءِ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مُحَقَّقٌ حَتَّى يَتَحَقَّقَ خِلَافُهُ، وَلَا نَقُولُ الشَّرْعُ أَلْغَى قَوْلَ الْحِسَابِ مُطْلَقًا وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: لَا يُعْتَمَدُ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا قَالُوهُ فِي عَكْسِ هَذَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ الَّتِي حَكَيْنَا فِيهَا الْخِلَافَ أَمَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَلَا وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذِهِ نَقْلًا وَلَا وَجْهَ فِيهَا لِلِاحْتِمَالِ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ" (فتاوى السبكي [1/411])، ويتطرق الشك في قبول هذا التأويل لكلام السبكي القاضي باعتماد الحساب في النفي دون الإثبات، لأن الجمع بين طرفي كلامه يقدح لدى القارئ أنه لا يمكن أن يقول باعتماد الحساب مطلقًا، لا في النفي، ولا في الإثبات، فالله أعلم.
وبكل حال، فإنه ولو قال ذلك صراحة، فإنه اجتهاد غير مقبول منه لتقدم إجماع سابق، ولجريان العمل على خلاف اجتهاده من قبل جماهير العلماء قرنا بعد قرن.

التفريق بين الشهر الشرعي، والشهر الفلكي، هل له نظائر؟
هذا التفريق بين المعنى الشرعي، والمعنى الحسي، أو الحقيقي ومن ثم الحقيقة الشرعية، والحقيقة اللغوية، له نظائر كثيرة في الشريعة، لا تقصر على ما يذكره العلماء من المعنى الشرعي للماهيات، والمعنى الشرعي لها، يوم يقولون مثلاً الإيمان لغة كذا، وشرعًا كذا، بل يشمل أمثلة تتجاوز المعاني لتشمل بعض الصور العملية، ولست أدري كيف غاب عن الشيخ ابن منيع ومن معه هذا الأمر مع أنه بدهي واضح، إذ نحن لا نقبل أن يحاكم أهل اللغة أهل الشرع في حقيقة الصلاة، ولا في مسمى الإيمان وهكذا.

فهناك صور عملية كثيرة، نظيرة للتفريق بين الشهر الشرعي، والشهر الفلكي، أذكر منها ذلك المثال الذي أرجو أن يتأمله الشيخ ابن منيع ومن يرى برأيه.

إذا زنى رجل بامرأة وهي فراش لغيره، إما زوجة أو أمة، وحملت من ذلك الزنى، ثم مات الزوج، وماتت هي، وبعد أمد ادعى بقية أولادها أن أخاهم هذا لا يستحق شيئاً من الميراث، بل طالبوا بنفي النسب عنه لأنه ليس أخاهم، ولا ابنًا لأبيهم، بل أبوه الذي زنا بأمهم، ثم استدلوا على دعواهم بما يعرف الآن بنتائج الحمض النووي الذي لا تكاد تخطئ، وأثبت الحمض النووي فعلاً أن هذا الولد إنما هو نتاج سفاح بين أمه، وبين رجل آخر غير زوجها؟ فما الحكم؟
الحكم –إجماعًا- أنّ هذا الولد هو أخوهم، ابن أمهم، وأبيهم، يشاركهم في الميراث، ويحمل نسب الأب، لا يملك أحد حرمانه من ذلك!! سبحان الله وكيف نفعل بالحمض النووي ذي النتيجة القطعية التي قطعت بأنه ناتج من ماء رجل غريب؟

ناقش المجمع الفقهي هذه القضية، وحكم في مثل هذه الصورة -متفقًا في ذلك مع مقتضى إجماع العلماء السابقين في لحوق النسب في هذه الحالة- بمقتضى ظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»!! وقرر أيضًا أنه لا ينفى عنه النسب، ولا يحرم من الميراث إلا بحصول اللعان الشرعي بين الزوجين -وهما في هذه الحالة قد توفيا، فلا مصير إليه-، فإن لم يحصل اللعان الشرعي فهو ابن لهما جميعًا!

وهنا نقول، حاصل ذلك أن الأب الحقيقي الذي خرج الولد من صلبه، والذي ينتسب إليه بحسب علم الأحياء -أو الكيمياء- والبيولوجيا، لم يعترف به الشارع، وكأنما جعل ماءه فاسدًا لا تأثير له، وجعل الأب الحقيقي هو الأب الشرعي؛ الولد للفراش، إذا لدينا –تنزلاً- أبوان، الأب الشرعي، والأب الكيميائي البيولوجي، هو في الحقيقة ليس أبًا، وليس له اعتبار ولا وزن، ولا حكم، و لا حق.

فإن قال قائل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في نهاية الحديث: «واحتجبي منه يا سودة»، لما رأى من قوة الشبه بين هذا الوليد وبين سعد بن ابن وقاص الذي ادعاه لأخيه، وعدم الشبه بينه وبين من قضى بأنه له أعني عبد بن زمعة والذي به يكون أخًا لسودة -زوج النبي صلى الله عليه وسلم- وهذا يدل على أنه عمل بالعلم، وهو هنا الأخذ بالشبه، أو في الأقل الأحوال احتاط، فلم لا نحتاط في أمر صيامنا؟
قيل جوابًا على ذلك، إن هذا الجزء من الحديث يؤيد ما ذكرناه فمع أن النبي صلى الله عليه وسلم لا حظ الشبه وربما (غلب على ظنه) بأن هذا الوليد ليس بأخ لسودة، بناء على أمر ظاهر مشاهد -وهو في العموم معتبر في الشريعة- إلا أنه لم يتجاوز حكم النص؛ الولد للفراش وللعاهر الحجر، هذا من ناحية و من ناحية أخرى فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر ما يقتضيه الحس وهو الشبه المشاهد، لا ما يقتضيه العلم، فليتنبه لهذا، وسيأتي له مزيد بيان.

وبكل حال، فإن مقصودنا من إيراد القصة هو تقرير أن الشرع ينظر إلى ما لا ينظر إليه العلم وأنه يعتمد على ما هو محسوس، أو معقول اضطرارًا عقلاً لا ينفك عن كل عاقل، ولا يحتاج إلى نظر ناظر، ولهذا، فلو أثبت الأطباء والباحثون والعلماء كلهم مجتمعين غير متفرقين على أنه يستحيل أن يكون ذلك الأب أبا لهذا الولد، لقلنا لهم، كلامكم على العين والرأس، لكننا لا نأخذ به، ليس تكذيبًا له، ولا إقلالًا من شأن العلم، ولا رغبة في التخلف!، ولكن قضيتنا ليست قضية علمية طبية، قضيتنا قضية شرعية، نحن نتحدث عن حكم الشرع، وأنتم تتحدثون عن حقيقة الأمر، والحكم الشرعي شيء، والحقيقة الواقعية شيء آخر، فكما أننا لم نلزم العلم بأن يكذب نتائج الحمض النووي، ونقول يستحيل هذا لمخالفته الشرع، فلم يطالبنا أصحاب العلم بأن نلغي نتيجة الشرع لصالح العلم، نقول أما شرعًا -وهو الحكم والمرجع- فليس بأب، وأما علمًا أو كيميائًا أو فيزيائًا فالأمر إليكم.

 

هذا، وقل كذا في أمر الهلال، فثمة شهر شرعي لا دخل له في الشهر الفلكي، لا يجوز لأهل الفلك أن يجبرونا على قبول شهرهم، ولا يجوز لنا أن نجبرهم على قبول شهرنا.

 

وأثناء تحرير هذه الأوراق وقعنا على مثال آخر، صلاة الكسوف، والخسوف، هل تصلى حينما يرى المسلمون الكسوف والخسوف، أم حينما يعلم المسلمون به، ولم يروه؟ ظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حديث عائشة عند الصحيحين: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آياتِ اللهِ، لاَ يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذلِكَ فَادْعُوا اللهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا»، وباقي الألفاظ كلها متقاربة تدور حول رحى «إذا رأيتم ذلك»، أي أن مشاهدة الخسوف أو الكسوف حادثاً فعلاً بأم أعيننا المجردة، هو مناط الحكم، فإذا لم ير الخسوف أو الكسوف، لم نصل كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره (قال في مجموع الفتاوى [16/298 – 300]: ".. وَالْعِلْمُ بِوَقْتِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَكِنَّ هَذَا الْمُخْبِرَ الْمُعَيَّنَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِذَلِكَ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً فِي خَبَرِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ. وَخَبَرُ الْمَجْهُولِ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَصِدْقِهِ وَلَا يُعْرَفُ كَذِبُهُ مَوْقُوفٌ. وَلَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ وَلَكِنْ إذَا تَوَاطَأَ خَبَرُ أَهْلِ الْحِسَابِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى خَبَرِهِمْ عِلْمٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ لَا تُصَلَّى إلَّا إذَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ وَإِذَا جَوَّزَ الْإِنْسَانُ صِدْقَ الْمُخْبِرِ بِذَلِكَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَنَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاسْتَعَدَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِرُؤْيَةِ ذَلِكَ كَانَ هَذَا حَثًّا مِنْ بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْكُسُوفِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِهَا السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهَا أَهْلُ الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ..."ا.هـ. ِ الفتاوى.، وبه أفتت لجنة الفتوى التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت انظر مجلة الوعي العددرقم: 493، تاريخ 23/12/2006 ، وجاء في الموسوعة الكويتية: "ولو حال سحاب ، وشكّ في الانجلاء صلّى ؛ لأنّ الأصل بقاء الكسوف . ولو كانا تحت غمام، فظنّ الكسوف لم يصلّ حتّى يستيقن، وقال المالكيّة : إن غاب القمر وهو خاسف لم يصلّ . وإن صلّ ولم تنجل لم تكرّر الصّلاة ، لأنّه لم ينقل عن أحد ، وإن انجلت وهو في الصّلاة أتمّها ؛ لأنّها صلاة أصل ، غير بدل عن غيرها ؛ فلا يخرج منها بخروج وقتها كسائر الصّلوات" مجلد 27: صلاة الكسوف، وفي روضة الطالبين للنووي 1/175: "ولو كانت الشمس تحت غمام فظن الكسوف لم يصل حتى يستيقن. قلت قال الدارمي وغيره ولا يعمل في كسوفها بقول المنجمين والله أعلم"، وقال في الفروع: "وَيُعْمَلُ بِالْأَصْلِ فِي بَقَائِهِ وَوُجُودِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ ، وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ" [3/140])، لا تكذيبًا لحصول الخسوف أو الكسوف، ولكن الحكم ومناطه شيء، وحصول الحدث في نفسه شيء آخر.

 

ولهذا فإن طلب الشيخ ابن منيع الذي كرره مرارًا، وتكاثرت الأصوات المنادية به "بالتوجه إلى ولي الأمر بالموافقة على عقد مؤتمر يجمع بين علماء الشرع وعلماء الفلك للنظر في المسائل الفلكية المتعلقة بحسبان منازل الشمس والقمر وما يتعلق بذلك من نتائج تفيدنا فيتحديد أوقات الصلاة والصيام والحج وهذا طريق من طرق التثبت والتحقق"، طلب في غير محله.

فإن قال قائل هذا تفريق غريب، والأصل أننا نصوم حينما نرى الشهر الفلكي، كما أننا نصلي حينما تغيب الشمس، سواء كان مغيبها فلكياً، أو مغيبها مشاهدًا محسوساً، قلنا هذا من أسباب الإشكال الوارد على الشيخ ابن منيع ومن معه في مسألة العلم، ومطابقته للواقع، ومطابقة الشرع للعلم، وهو ما سيتضح في ما يلي:

 

ما الدليل على التفريق بين العمل بالحساب في أوقات الصلاة، والعمل بالحساب لإثبات الهلال:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»، وقال أيضاً «لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروا الهلال»، وما برح علماؤنا يقولون بأن الشارع علق الصوم على الرؤية، ولا زال كثير من القائلين بالحساب سواء في الإثبات أو النفي عاجزين عن فهم هذه الجملة القصيرة السهلة، الذي كانت سهولتها ووضاحتها سببًا في إهمالها، وظنًا بقائلها أنه لم يدرك حقيقة الخلاف، ولم ينظر في الفلك، ولم يعرفه، بل ولم يكن عميقًا في بحثه، وأخذته البساطة بعيدًا عن التحقيق، وسبحان الله العظيم.

 

قصد هؤلاء العلماء الأجلاء أن مناط الصوم هو الرؤية، أي أن علة الصوم هي الرؤية، وللشريعة علل بل ومقاصد لا يدرك مراميها كل أحد، و لا زال المسلمون المنصفون يتأملون فيها، لينكشف لهم كل يوم حكمة جديدة، فمناط الصوم أيها السادة هو أحد ما قدمناه؛ الشهود، أو إكمال العدة، وفوق الأمرين قبول إمام المسلمين أو جمهورهم لذلك، وقد تكلم عدد من العلماء في مقصد الشارع من بنائه حكم الصوم هذا على الرؤية البصرية، هل هو شعيرة؟ يعني أن يخرج المسلمون لترائي الهلال؟ أم ربطهم بالمخلوقات الكونية؟ أم تعليمهم منازل القمر؟ أم جعلهم يترقبون إعلان بدء الصوم، وبدء العيد، ويوم عرفة، دون أن يكونوا قد حددوا هذا اليوم من قبل؟ أم ربطهم بالأهلة، وبالتاريخ الهجري؟
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» فهل الرؤية مقصودة لذاتها، أم أنها وسيلة لمعرفة ابتداء الشهر، فإذا ما عرف الشهر بأي وسيلة أخرى، ثبت حكم الصوم؟ وبتعبير الشيخ القرضاوي، هل الرؤية وسيلة لغاية فمتى ما تحققت هذه الغاية تحقق الحكم، أم أنها غاية في ذاتها؟ يظهر لي أن هذا لب الخلاف بين الفريقين.

فقولنا إذًا "مناط الصوم" معناه أن المعنى الذي سمي له شهر رمضان شهر رمضان، هو رؤية هلاله، أو استكمال العدة، أحد تلك الثلاثة، فرؤية هلاله، ليس جزءً زائدًا على حقيقة الشهر، بل هي جزء من ماهية الشهر، فلا يسمى شهر رمضان كذلك لمجرد ولادة هلاله، بانفصال القمر من شعاع الشمس -أعني القمر الفلكي-، وهذا كقولنا الخمر متى يسمى خمرًا شرعًا؟، قيل إن مناط تسميته باسم هذا الشراب المحرم لإسكاره، هو الإسكار، وعليه فلو وجد ثمة شراب يحمل نفس الأوصاف، وله نفس المركبات، لكنه غير مسكر، لما سمي خمرًا، ولما علق عليه التحريم، فهو عندنا -أي في الشريعة- ليس بخمر، وإن سماه العلم والعالم كله خمرًا، إذ قد علق التحريم بالإسكار، والإسكار مناط تسمية الشراب خمرًا، وهو جزء لا يتجزأ من حقيقته.

ولمزيد من البيان والتقرير لكون الرؤية جزءًا من الغاية ومقصودًا فيها، نقول: كان يمكننا موافقة الشيخ ابن منيع ومن معه من القائلين بالحساب، في أن المقصود هو ولادة قمر الشهر الجديد، أعني حصول هذه الظاهرة الكونية، سواء كان ذلك في النفي أو في الإثبات، عند تحقق واحد من أمرين:

الأول: أننا نجد بعد استقراء كلام الشارع، وكلام شراح كلام الشارع -علمائنا السابقين- أنّ ثمة إيماءات وتنبيهات على أن الصوم متعلق بولادة قمر الشهر الجديد، عندئذ نقول جمعًا بين الأدلة أن شهر رمضان الذي يجب صومه هو الشهر الفلكي التاسع، وليس الشهر الذي يبدأ بإحدى هذين الطريقين.
الثاني: أن تأتي النصوص مطلقة غير معلقة الحكم بالرؤية، كما هي الحال في الصلاة لمواقيتها، إذ إن نصوصها جاءت مطلقة غير مقيدة، فعلم بهذا أن تلك المواقيت أعني الظواهر الفلكية التي تجري على الشمس والقمر، معلقة بما يدل عليها وحسب، سواء كان رؤية أو حسابًا أو غيره، قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء من الآية:78] فعلق الحكم هنا بذات الدلوك ولو قال: أقم الصلاة لشهود دلوك الشمس لتغير الأمر، وسبحان من علق الصوم الذي يأتي في العام مرة، على ذلك، وعلق الصلاة التي تتكرر كل يوم مرات على هذا، فسبحانه ما أجل حكمته ورحمته بعباده.

وقد نص على هذا القرافي في كتابه الماتع الفروق، فقال رحمه الله: "... والفرق -وهو المطلوب ههنا وهو عمدة السلف والخلف-: أن الله تعالى نصب زوال الشمس سبب وجوب الظهر وكذا بقية الأوقات لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء من الآية:78] أي لأجله، وكذلك قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ . وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17-18] قال المفسرون: هذا خبر معناه الأمر بالصلوات الخمس في هذه الأوقات حين تمسون: المغرب والعشاء، وحين تصبحون: الصبح، وعشياً: العصر، وحين تظهرون: الظهر، والصلاة تسمَّى سُبحة، ومنه سبحة الضحى أي: صلاتها، والآية أمر بإيقاع هذه الصلوات، وغير ذلك من الكتاب والسنة الدال على أن نفس الوقت سبب، فمن علم السبب بأي طريق كان، لزمه حكمه، فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات وأما الأهلّة، فلم ينصب صاحب الشرع خروجها من الشعاع سبباً للصوم، بل رؤية الهلال خارجاً من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي فلا يثبت الحكم، ويدل على أن صاحب الشرع لم ينصب نفس خروج الهلال عن شعاع الشمس سبباً للصوم قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته». ولم يقل لخروجه من شعاع الشمس، كما قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء من الآية:78] ثم قـال: «فإن غُمَّ عليكم» أي: خفيت عليكم رؤيته «فاقدروا له». وفي رواية: «فأكملوا العدة ثلاثين». فنصب رؤية الهلال أو إكمال العدة ثلاثين، ولم يتعرض لخروج الهلال من الشعاع  (الفروق [2 / 179]).

 

وهنا لا بد لنا من التنبيه على منهج خطير آخذ في التسلل إلى بعض حملة العلم، يريد به الليبراليون شيئًا، ويحصل من بعض علمائنا بحسن نية منهم موافقة لما يقول أولئك لكن دون التنبيه على اختلاف الدوافع والمقاصد، فيفرح أولئك بكلام من وافقهم من العلماء ويطيرون به، ولو أن هذا الفريق من العلماء اجتهد فانتهى إلى ما انتهوا إليه، لكنه مع ذلك حذر من تلك الدوافع والمقاصد لكان هذا حسنًا، لكن أن يلتقي معهم في قول يقصدون من ورائه هدم حمى الشريعة، أو إشاعة ما يعرف بالإسلام المعتدل، ومشايخنا الفضلاء هؤلاء ساكتون صامتون، فهذا مما لا يجوز، إذ هو سكوت عن منكر شاهدوه وخالطوه يوم أن حصلت بين الفريقين مشاكلة ومشاركة في القول، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره، بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».

 

هذا المنهج يقوم على تجاوز النص بحجة العمل بالمقصد الشرعي، وعليه -بحسب هذا المنهج- فإن كثيرًا من النصوص الشرعية وسائل لمقاصد وغايات، فإن تحققت تلك الغايات بتلك الوسائل أو بغيرها، فثم الشرع، وهذا الكلام وإن كان في العموم كلام أصولي دقيق وصحيح، إلا أنه عام أريد به خصوص، إذ يلزم المحتج به أن يثبت أولًا أن هذا النص وسيلة غير مقصودة بذاتها، هذه هي العقبة الكؤود في وجه هؤلاء، لكن يأتي من مشايخنا من يذلل لهم الأمر ويسهل لهم هذه العقبة، وينقب في الكتب ليرى أن ثمة من يقول بهذا القول، فيسقط الإجماع، ثم يعرض المسألة مكيفًا لها تكييفا أصوليًا، لتظهر المسألة وكأنها من مسائل الخلاف والاجتهاد، مما لا يثرب على المخالف القول والعمل بها إذ له سلف في ذلك.

ونحن إن بدأنا في هذا الطريق انتهينا إلى زندقة (فقهية ليبرالية)، فثمت قائل بقول هؤلاء، وقائل بذاك القول، وهكذا، فلا ينكر على مخالف! ولولا أنّ موضوع هذه المقالة ومقصودها مختلف لجرى البحث في هذه الظاهرة والرد عليها، لكن يقال اختصارًا إن العلماء تظاهروا على أن "من تتبع الرخص فقد تزندق"، وأن "من أخذ برخصة كل عالم اجتمع فيه الشر كله"، وأن النظر إلى هذه الشريعة بهذا السلوك، هو عين ما أوقع زنادقة الباطنية في المذهب الباطني، فالصلاة ليست مقصودة لذاتها، ولكن المقصود منها تزكية النفس وتهذيبها والارتقاء في درجات الكمال، والصوم كذلك.

وقياسًا على هذا النسق الفاسد يمكننا أن نقول إن الوضوء ليس مقصودًا لذاته، إذ المقصود منه طهارة الأعضاء، فهو بتعبير يشابه تعبير الشيخ القرضاوي، وسيلة لغاية الطهارة، فإن تحققت الغاية بأي وسيلة تحقق الحكم!

نعم، هناك نصوص لا تعدوا أن تكون وسائل لغايات، هذا يقرره استقراء العلماء للشريعة، وهو أمر دقيق، ويحتاج إلى نظر أصولي فقهي مقارن، فإن تتابع علماؤنا السابقون على أمر، حتى مع وجود شواذ من المخالفين فإن الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الشذوذ موجب للأخذ بما تتابعوا عليه وعدم الشذوذ عنه.
وعليه فيقال للفضلاء الذين يضعون هذا السؤال بين أيدينا؛ أعني قولهم لم لا نعمل بالفلك والحساب في الصوم كما عملنا به في الصلاة؟ يقال لهم، الصلاة عبادة لها شروطها وأركانها، والصيام كذلك، فالطهارة ليست شرطًا في صحة الصيام لكنها شرط في صحة الصلاة، وذات رؤية الهلال من قبل واحد أو اثنين من المسلمين، أو إكمال العدة ثلاثين يوماً، شرط في إعلان دخول الشهر، وبدء الصوم الواجب، وذات دخول وقت الصلاة هو مناط وجوب الصلاة، سواء علم دخول الوقت برؤية غياب الشمس أو الشفق، أو بالعلم بغياب الشمس، أو العلم بغياب الشفق، فليتأمل هذا الفرق، فإنه مهم جدًا.
شهادة الشهود، من وما يردها؟

 

هذه قضية هامة في موضوعنا، لكنّ الذين يتبنون العمل بالحساب سواء في النفي أو في الإثبات معه لا يولونها اهتمامًا كافيًا في البحث، ومعلوم كما تقدم أن الشريعة الإسلامية قررت وسائل للإثبات، منها ما هي وسائل مجردة، متى ما ثبتت الغاية بها أو بدونها ثبت الحكم، وذلك مثل تطهير النجاسات، وإثبات أوقات الصلاة، واتجاه القبلة، وغياب الشمس للفطر، وظهور الفجر للصوم، ونحو ذلك
وهناك وسائل مقصودة بذاتها، وقد تكون مع ذلك مرادة لغايات أخر، فكونها مرادة لغايات أخرى لا ينفي ولا يعارض كونها هي مقصودة لذاتها، مثل الغسل من الجنابة، والأذان للإعلام بوقت الصلاة، والاجتماع لحضور الجمعة في يوم الجمعة، وإثبات نسب الولد لفراش الزوجية أو ملك اليمين، وإثبات الزنا بشهادة شهود أربع على حصول الإيلاج، وأمثلة ذلك لا حصر لها، فمثة وسائل، وغايات، ووسائل هي نفسها غايات، وغايات لا تنفك أن تكون وسائل، والله أعلم.

ثم إن البينات في الشريعة مثل اليمين، والكتابة، و شهادة الشهود المستوفين للشروط الشرعية إذا انفكت عما يكذبها شرعًا، أو حسًا، أو عقلاً، فإنها ملزمة، غير معلمة، ولولا أن الأمر يطول لاستقرأنا أمثلة ذلك من كتب الفقهاء، حتى نبين أن قول من قال إنما هي معلمة غير ملزمة غير مقصود، أو مقصود لكن أراد به قائله ذلك الحكم الذي تقترن البينات فيه بما يعارضها مما ذكر.

ولهذا، -والشيخ ابن منيع من أول من يعلم- اختلاف العلماء في القاضي هل يحكم بعلمه أم لا؟

والصواب الذي عليه المحققون -وهو مذهب الجمهور- أنه لا يقضي بعلمه، إلا إذا أراد أن يدرأ حدًا، أو اكتسب العلم بحس في مجلس القضاء، أو نحو ذلك، وفي الصحيحين عن أم سلمة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ

وفي صحيح البخاري في قصة الملاعنة المشهورة بين هلال بن أمية وامرأته، وفيه فَجَاءَ هِلَالٌ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: »إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟« ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا، وَقَالُوا: "إِنَّهَا مُوجِبَةٌ"، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ"، ثُمَّ قَالَتْ: "لا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ"، فَمَضَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ، سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بن سَحْمَاءَ» فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ».

فهذه المرأة قد وقع منها الزنا، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد استقر عنده يقينًا أو ظنًا غالبًا أنها قد وقعت في ذلك، تأكد هذا يوم أن قال: «لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن»، ومع ذلك لم يحكم بهذا كله، بل حكم بظاهر البينة التي أوجبها الله، أعني الملاعنة، فجنس البينة هنا مقصود، ولا يملك القاضي أن يخالفه.

فإذا تأسس هذا، جاز لنا أن نسأل فنقول إن شهد شهود عدول برؤية هلال شوال، فهل يملك القاضي لأي سبب آخر أن يرد شهادتهما، أو أن يعمل بموجبها؟ لا أظن أحدًا، ولم أطلع على من قال يردها، وأنى له ذلك؟ وما حجته أمام الله يوم أن يقول له، قال لك نبيي بأنه إن شهد شاهدان فصوموا، فلم لم تصم؟ فلا يملك إلا أن يقول يا رب كان عندي قرينة تكذبهم؟ وعندئذ يكون السؤال ما هي القرينة التي يمكن أن يعذر بها القاضي في تكذيب شهادة الشهود أو ردها!؟، فهل يجيب بأنه علم قاطع، قضى بأن الهلال لا يرى في تلك الليلة!

إن شهادة الشهود حكم شرعي، لا يرده إلا حكم شرعي، والحكم الشرعي الذي يمكن أن يرد شهادة الشهود، هو شهود غيرهم يعارضون ما قاله الأولون، أو مخالفة هذه الشهادة للشرع، أو الحس، أو العقل، وهذا متفق تمامًا مع قول الشيخ ابن منيع: "وسماحة شيخنا يعرف ويعلم أن الشهادة يحتاج قبولها أمرين: أحدهما أن تكون الشهادة منفكة عما يكذبها حساً وعقلاً. والثاني ثبوت عدالة الشاهد. ونحن لا نشك أن القضاء قد استكمل تعديل الشهود ولكن عدم انفكاك الشهادة عما يكذبها لا يزال ثغرة نقص في صحة الشهادة والله المستعان".

فإشكال الشيخ وكثيرين في هذه الأيام وعلى رأسهم الشيخ القرضاوي، في الأخذ بشهادة الشهود مع معارضتها للحساب، إذ إنها عندئذ لا تنفك عما يكذبها، وربما استشهد البعض بكلام لابن تيمية، وابن عثيمين وغيرهم في أنه لو شهد شاهد برؤية الهلال قبل غروب الشمس ردت شهادته.

وهذه من المواطن التي التبست على الشيخ وعلى من قال بقوله، فإنهم لم يميزوا بين "ما يقطع به العلم"، وما يعتبره الشرع قطعيًا، فما يقطع به العلم ينظر العلم فيه إلى حقيقة الأمر، وما يقطع به الشرع ينظر فيه الشرع إلى اعتبارات كثيرة منها، قد يكون العلم أحدها وقد لا يكون، فليس مما يفيد القطع شرعًا بمجرده، ليس تقليلاً من شأنه ولكن لكل مقام مقال، فلو اتفق أهل الأرض كلهم على قطعية ودقة العلم الفلكي، فنظرة الشارع وتشوفه غير نظرة الفلك وتشوفه، وللشارع "اعتباراته الخاصة".

فالحس هو السمع، والبصر، والشم، واللمس، والذوق وهو ما يقوى على معارضة البينات، فشهادة الشهود التي يمكن أن ترد هي الشهادة التي تخالف الحس هذا، أما العلم المستند إلى غير الحس، بل يحصل بالنظر والآلات، فإن الشارع لم يحل عليه ولم يلتفت إليه مطلقاً، فالحكم بمقتضاه ورد الشهادة المعتبرة في الشرع أمر محدث لم يعهد عند علماء الأمة وتبديل لأحكام الشريعة واستدراك على الشارع.

فالحس هو ما يقوى على معارضة البينات، فشهادة الشهود التي يمكن أن ترد هي الشهادة التي تخالف الحس هذا، أما العلم المستند إلى غيب عن الإنسان، فإن الشارع يرده، وله إرادته وقصده في هذا، ليس لنا إلا أن نسلم ونذعن له.

وهكذا يقال في العقل، فالعقل الذي يعتبره الشارع، هو العلم الضروري، أو المنطق الذي لا يحتاج إلى نظر أو تفكير، كقولنا إن الواحد أصغر من الاثنين، والكل أكبر من الجزء، ونحو ذلك، فليس هذا بالعلم، ولا هذا بالحساب، بل هو العقل وهذا معلوم مستقر، وإني أرغب إلى الإخوة القائلين بهذا القول أن يأتوا لنا بأمثلة من الشريعة تدل على اعتبار ذلك النوع من العلم معارضًا للشهادة أو نحوها، وعندئذ تستقيم لهم دعواهم، أما نحن فقد قدمنا أمثلة من الشريعة تدل على نفي اعتبار الشريعة لمقتضى هذا العلم، وأظهر مثال تقدم معنا هو مقتضى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» في إثبات نسب الولد لمن ولد على فراشه دون اعتبار العلم الذي يمكن أن يكون قطعيًا.

وقد أخطأ الشيخ ابن منيع في مقارنة الحساب الفلكي بمثال الجمع الذي ذكره، فقد قال: "فالنتائج العلمية لكل علم من العلوم لاسيما إذا كانت هذه النتائج قطعية لتحديد ولادة الهلال هذه النتائج العلمية لايتقدم بها عالم أو اثنان أو أكثر حتى نشترط لقبولها العدالة والتقوى والصلاح. وإنماهي نتائج علمية قطعية يعترف بها البر والفاجر والصالح والفاسق والمسلم وغير المسلم فليست نتائج شخصية حتى نطلب من مقدمها ما يدل على ثقته وأمانته. فمثلاً النظريات الرياضية من معادلات وغيرها مما هي محل اعتبار واعتراف وتسليم هل نطلب ممن يقدمها بأي وسيلة من وسائل النشر والبيان العدالة والثقة والصلاح؟ وحينما يقول لفضيلته مثلاً أحد الناس: 15+ 10= 25 أو 7*9= 63 هل يتردد فضيلته في قبول هذه النتائج حتى تثبت عدالة من يتقدم إليه بها. لعل الأمور قد اختلطت على شيخنا - حفظه الله"، فالحساب يا شيخنا الكريم مرده إلى الحس المشاهد، وهو مما تعتبره الشريعة، فأنت إذا جئت بخمسة عشر درهماً، وأضفت إليها عشرة، ثم عددتها مرة أخرى أصبح المجموع خمس وعشرين، وإذا كررت مجموعة أفرادها سبعة، تسع مرات، ثم عددتها واحدًا واحدًا، وجدت حسًا أن مجموعها ثلاثة وستين وهكذا، فهذا حساب حسي لأمر قد حدث أو يحدث الآن وهو لا شك قطعي، والحساب الفلكي حساب لأمر مستقبل من ناحية وغيبي غير مشاهد من ناحية أخرى، فليس منتهاه الحس، وأرجو أن يلاحظ فضيلتكم أننا لا نتحدث عن دقة الحساب الفلكي وعدم دقته، ولكننا نتحدث عن ما هو معتبر في الشريعة وما ليس معتبر، فلو قدر للخلق بعد أمد أن يكشف الله لهم بأبصارهم فيشاهدون القمر وهو يأتي من المشرق، فيسير نحو المغرب، ثم يبصرونه يسير بعيدًا، فيأتي آخر وقال انظروا ها قد أتى، والشهود ما زالوا يشهدونه يتوارى في جهته الأخرى، لعملنا بهذا، وهذا رعاكم الله حسًا، وليس حسابًا، فعلم بهذا خطأ من أطلق فقال بأن الحساب قطعي، والرؤية ظنية، مثل تقي الدين السبكي إن صح حمله كلامه على ذلك.
هذا يا كرام معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نحسب، ولا نكتب، الشهر هكذا، وهكذا»: أي إننا أمة نعتمد على العلم الضروري الحاصل بالحس الذي يعتمد عليه الأمي، ونعتمد كذلك على العقل الذي هو صفة فطرية ليس له علاقة بعامي ولا جاهل، فلا نفتخر نحن بالأمية، ولا نفتخر بإلقاء العلم وراء أظهرنا، ولكن هذا وصف لطبيعة أحكام الشارع، ولكل نظام طبيعة في أحكامه، فلا يحكم أحد على أحد.

ذلك من جهة، ومن جهة أخرى فقد خلط الشيخ ابن منيع بين الحقيقة العلمية، وبين بعض الحسابات المتعلقة بالحقيقة العلمية والمبنية عليها، فقد قال: "ولاشك بوجود الفرق بين من يتقدم بشهادة رؤية الهلال وبين من يذكر بحقيقة علمية معروفة لدى علماء ذلك العلم. فالأول يأتي بخبر يختص هو بمصدره -وهي الرؤية- والثاني يأتي بخبر علمي يشترك في معرفته جميع علماء ذلك العلم،فالأول في حاجة إلى تعديل وإنصاف بالثقة والأمانة والتقوى والصلاح لكون مصدر علمه بذلك الخبر -وهو الشهادة بالرؤية- ذاتياً في نفسه والثاني لايلزم اشتراط تقواه وصلاحه لكون خبره معلوماً لجميع علماء ذلك الخبر" فالحقيقة العلمية الواقعة -أعني أنها حاصلة في الحاضر، نعم قد لا يحس بها كل أحد، لكنها هناك- هي التي تبني الشريعة عليها الأحكام في الغالب، أما الحسابات التي تتوقع المستقبل، فلم نر في الشريعة اعتبار لها، فثمة فرق عقلي هام بين الحقائق الفلكية وبين الحسابات الفلكية في أمر ولادة الهلال، وإمكانية رؤيته، فالحقيقة العلمية التي يمكن أن تعتبر، لا يختلف فيها الناس لأنها واقع حاضر محسوس، أما الحسابات الفلكية فهي إخبار أو تنبؤ عن مستقبل لما سيكون الأمر عليه بناء على تلك الحقائق الحاضرة، لكنه يعتمد على مؤثرات عديدة، فمنها في ما نحن فيه سرعة القمر، والشمس، والأرض، ومدار كل واحد منهما، وغير ذلك.

وأرجو أن يتأمل الجميع هذه الأحوال:

1-  أن نقول السيارة موجودة، وتتحرك بالوقود، وتصل سرعتها إلى مائة كيلو متر في الساعة.
2-   أن نقول أيضا إذا سارت السيارة بسرعة مائة كيلو متر في الساعة فإنها ستقطع مسافة 200 كيلو متر في ساعتين، فإذا سارت من نقطة أ إلى نقطة ب التي تبعد عنها 200 كيلو متر، في الساعة العاشرة، وكانت سرعتها عندئذ 100 كيلو متر في الساعة، فإنها ستصل إلى نقطة ب في الساعة الثانية عشرة.
3-   تبعد مدينة الرياض عن مدينة الدمام 400 كيلو متر، وسيسافر صالح من الدمام إلى الرياض يوم السبت القادم الساعة الثامنة صباحًا، وسيسير بسرعة 100 كيلو في الساعة، وسيتوقف لمدة نصف ساعة، وسيكون انطلاقه في البداية متسارعًا حتى يصل إلى سرعة 100 خلال 10 دقائق، وعليه فإنه وبالحسابات العلمية، سيصل إلى مدخل الرياض في تمام الساعة الواحدة إلا ربع مثلًا.

الأولى: حقائق علمية لا شك في ذلك، ولا ينكرها إلا مكابر، والثانية: حساب حسي -كما مر معنا في مثال الشيخ ابن منيع السابق- أما الثالثة: فهي إخبار عما يمكن أن يحدث وتوقيته، أعني أنها إخبار عن مستقبل، وكل أحد يوافقني أن ذلك التوقيت والتوقع نظريٌ قد يكون صحيحًا، لكنه قد يتخلف لأسباب كثيرة جدًا، فليتنبه إلى هذا الفرق، أعني الإخبار عن ماض، والإخبار-أو التوقع الدقيق- عما يمكن أن يكون في المستقبل بناء على الحقائق العلمية الثابتة في الزمن الماضي.

 

ثم إن قال لنا الحاسب يوم السبت الساعة الواحدة إلا ربع، الآن قد وصل صالح إلى الرياض فإننا لا نجزم بذلك لتطرق الشك إلى كلامه، لأننا نعلم يقينا أن ثمة عوامل مؤثرة قد تعرقل سيره فيتأخر أو يتقدم، لكن دعونا من هذه العوامل وتأثيرها، بل هبوا جدلا أن هذه العوامل منعدمة، فإننا نقول إن مجرد الإخبار عن وصوله بناء على هذا الحساب تعتريه مشكلتان:

الأولى: أنه لا يقول أحد بأنه قطعي لا يقبل الشك، وحتى وإن قلنا ذلك، تبقى لنا المشكلة الأهم، وهي ما تكرر معنا عدة مرات، وهي:

الثانية: أن الشريعة لا تبن على مثل هذا الحساب حكمًا، وأظن أن كثيرًا من النظم الوضعية تراعي مثل هذا، وهذا الذي يسمى في القانون بمبدأ شرعية الأدلة.

ولمزيد من بيان الفرق، هبوا أن المخبر بأن صالحاً قد وصل اتصل بصديق له في مدينة الرياض قد شاهد لحظة وصول صالح، فأخبره بها، فعندئذ يكون خبر هذا المخبر شهادة، لا حسابا، فيقبل.
نعم، سينبري هنا أصحاب الفلك قائلين بأن الجهل كل الجهل أن نقارن سيارة تسير في طرق كلاهما من صنع البشر، وشمس وقمر يسيران بحسبان كما قال الله جل وعلا، ونحن نقول نعم هناك فروقات كثيرة، لكننا ما قصدنا أبدًا تشبيه السيارة بالقمر، ولا سيرها بسيره، وإنما قصدنا تقريب الفرق بين الحقيقة الثابتة، وبين الحساب المبني عليه للإخبار عن شيء لم يحصل بعد، أو هو في عداد الغيب، فأرجو التنبه.

فإن قال قائل إننا لو حكمنا حسابًا باستحالة وصول صالح إلى الرياض قبل الساعة الواحدة إلا ربع، أو لنقل قبل الساعة الثانية عشر ظهرًا، بناءً على أكبر تقدير لسرعته، وأفضل تقدير لمقدار سيره وتوقفه وعوامل الطريق الأخرى، ثم بعد ذلك شهد عدل بأنه وصل الساعة الثانية عشرة إلا ربع مثلا، لقال قائل يمكن أن يصح هذا لأن الفرق يسير، لكن لو قال قائل أنه وصل الساعة العاشرة مثلا لبلوغ الاستحالة حد اليقين، والجميع يقر بهذا عقلا، فمادام أنكم أقررتم بذلك، فلم لا تقرون به يوم أن نحكم باستحالة رؤية الهلال في ليلة التاسع والعشرين في أحد الأشهر مثلا؟

قلنا جوابًا على ذلك، الفرق بين ليلة التاسع والعشرين فرق يسير إذا ما قورن بعمر القمر كله، ولا يكاد يخالف في ذلك إلا مكابر، ثم إننا أبدًا ما قلنا بقبول من يزعم رؤية الهلال في ليلة السابع والعشرين مثلاً، فضلاً عن ليلة العشرين، بل إن الشارع قد لاحظ هذا الفرق، فحكم كما في حديث ابن عمر في الصحيحين أن الشهر يكون تسعة وعشرين، وثلاثين، فلا يكون أقل ولا أكثر.

ثم إن الدارس في علم الفلك يعلم يقينا أن العوامل المؤثرة في ولادة القمر، ثم إمكان رؤيته، كثيرة جدًا، والله جل وعلا قادر على أن يحدث تغيرًا طفيفًا في أحدها، يجعل الرؤية ممكنة في وقت غير ما حسبه الحاسبون.

ولو قال قائل أيضا بأن سير القمر والشمس، والعوامل المؤثرة فيه، قد عرفها الحاسبون منذ القديم، وأخذوا بها، عبر مئات من السنين، وحركة الشمس والقمر مضبوطتان بسنة كونية (بحسبان)، قد عرفت جميع جوانبها، وتطورت آلات الحساب، ومناظير المراقبة لدرجة عالية جدًا، فلو قال أجمع أهل الفلك المختصون بأن الحساب يحيل ظهوره في وقت كذا، لكان يقينا بأنه يستحيل ظهوره، فسلموا لنا -في أقل الأحوال- بأنه يستحيل ظهوره، حتى لو لم ترتبوا عليه أي حكم شرعي.

قلنا جوابًا على ذلك، إن هذا غير مقبول أيضاً، وذلك لسبب يسير جدًا، وهو أن هذا كله ما زال توقعًا عن أشياء غيبية مستقبلية كثيرة جدًا، لم يأت ما يؤيدها -ولن يأت- من الحس، ولو في حالة واحدة، ولذا فلا اعتبار لها في الشريعة البتة، وبيان أنه لم يأت ولن يأت ما يؤيدها أن النفي لا يقوى على مقاومة الإثبات إلا بالحس، فلو وضع الفلكيون تواريخ ولادة أهلة السنين كلها، ثم بنوا على ذلك أنه تستحيل رؤية هذه الأهلة قبل تلك التواريخ، فما هو الحس الذي يمكن أن يؤيد هذه التوقعات؟ إن رؤيته في التاريخ الذي وضعه الفلكيون لا يعني أبدًا أنه لا يمكن أن يرى قبله، ولا يمكن للحس أن يشهد بالنفي المطلق والمجرد عن إثبات ما عداه، فليتأمل.
وعلى هذا التقرير العقلي، فإنه لا يمكن للفلكيين بأن يجزموا بصحة حساباتهم عن المستقبل وما لم يشاهد جزمًا يصل إلى مرتبة ما يشاهد، ولذا ولغيره لم تعتبره الشريعة.
وخلاصة ذلك أن لدينا ماض، وحاضر، ومستقبل، فالماضي مرده إلى من حضره وشاهده، وإثباته بسماع أو ما في حكمه، والحاضر مرده إلى الحس أعني أنه يشاهد، أو يسمع، أو يذاق، أو يشم، أو يلمس، وإثباته بالشهادة، أما المستقبل فلم يحس، وهو توقع لما يمكن أن يحدث، فهذا لا يقارن أبدا بما قد حدث، ولا اعتبار له في حكم له في الشريعة فيما نحن فيه.

تأملات حول إثبات الرؤية في زمن التشريع:
يتأيد ما تقدم لنا حينما نتأمل الأحاديث الواردة في ترائي الهلال على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن لدينا ثلاثة أحاديث:
الأول: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "رَأَيْتُ الْهِلَالَ" فَقَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» قَالَ: "نَعَمْ" فَنَادَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ صُومُوا (رواه أبو داود والترمذي وغيرهم).
الثاني: عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ (رواه أبو داود وغيره).
الثالث: عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدِمَ أَعْرَابِيَّانِ فَشَهِدَا عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم بِاللَّهِ لَأَهَلَّا الْهِلَالَ أَمْسِ عَشِيَّةً فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا زَادَ خَلَفٌ فِي حَدِيثِهِ وَأَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلَّاهُمْ. (رواه أبو داود والإمام أحمد).

فتأملوا أيها الكرام حديث الأعرابي، ثم بعده حديث الأعرابيين، هل استفصل منه النبي صلى الله عليه وسلم غير سؤاله عن إسلامه؟ هل سأله أكانت جهة الهلال للمشرق أم للمغرب؟ هل تثبت النبي صلى الله عليه وسلم من رؤيته، بأن قال احسبوا هل يظهر أم لا يظهر؟ هل عمل به إثباتًا ونفيًا، أم إثباتًا فقط؟ هل سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن معرفته بمنازل القمر؟ هل شك النبي صلى الله عليه وسلم في أنه رأى الزهرة أو كوكباً آخر؟ أو شعراً من رمشه سقط على عينه؟! هل اختبر النبي صلى الله عليه وسلم حدة بصره؟ لا، ولا، ولا.

 

وبعد، فهل أعلم الله النبي صلى الله عليه وسلم أن فعله ذلك سيكون تشريعًا لأمته أن يفعلوا ما فعل؟ فإذا ما جاءهم أعرابي، وسألوه هل هو مسلم، فأجاب بالإثبات، قبلوا شهادته، ودخل الشهر بناء على ذلك، هل علم النبي أو لم يعلم بأنه سيأتي أناس يدلون بشهادات حول رؤية الهلال، وبعضهم كاذب، وبعضهم مخطئ، وواهم، وبعضهم رأى كوكبًا آخر، وهكذا...ومع ذلك لم نر النبي صلى الله عليه وسلم  أرشد إيماء أو تنبيهًا، فضلًا عن تصريحًا، إلى وجوب عرض شهادتهم على علم الحساب حتى نتثبت من صدقهم، وعدم خطئهم.

ثم إني تأملت في هذه الأحاديث وأنا أسمع بعض الاتهامات تجاه الشهود الذين رأوا الهلال حيث يقول أصحابها، لم لم ير الهلال إلا هؤلاء الأشخاص، قلة في العدد، مع أن كثيرًا من الناس يترآونه؟
في الحادثة الأولى أعرابي، وفي رواية لأبي داود ثانية أعرابي من الحرة، يعني أن أعراب المدينة وأهلها من غيرهم عجزوا عن رؤيته!، وفي حادثة شهر شوال أعرابيان، ثم إنهما شهدا كذلك بما لم يشهد به الباقون، بل وغاب عن أهل المدينة كلهم حتى إن الأمر التبس عليهم!


خاتمة:
لقد كنت شرعت في كتابة هذا الرد قبل مدة من الزمن، ولم أشأ أن يطول هكذا، لكن انتشار الشبهة في هذه الأيام، وازدياد القائلين بموجبها، ألزم القلم بما خالف مراد النفس فجرى مسترسلاً، فكانت هذه الورقات تعقيبًا على الشيخ ابن منيع ومن وافقه في تخطئته للرؤية السعودية في سنوات عديدة، وقوله باعتماد الحساب لأنه قطعي في نفي الرؤية لأنها ظنية، وتبين لنا:
1- أن مدار البحثين أعني الرؤية والحساب مداران منفصلان، فلا يصح أن يحكم هذا ذاك، ولا ذاك هذا.
2- وعلم مما تقدم كذلك أن الشارع لم يرد لنا أن نصوم الشهر التاسع الفلكي، الذي يبدأ بولادة الهلال التاسع في تلك السنة القمرية، وإنما أراد منا أن نصوم شهرًا، تسعة وعشرين أو ثلاثين يومًا يبدأ بشهود المسلمين لتاسع أهلة تلك السنة، حتى لو صاموا ثمانية وعشرين يومًا ما بين الهلال وإكمال العدة، ويقضون اليوم التاسع والعشرين بعد، وبه يزول الإشكال.
3- وأن التفريق بين المعنى الشرعي، وغيره، والحقيقة الشرعية وغيرها له نظائر إن لم يكن هو الغالب في الشريعة
4- وأن القائلين بالحساب الفلكي أخطؤوا يوم أن قالوا بقطعيته كقطعية نتيجة الجمع أو الضرب، إذ أن الجمع والضرب من جهة أمر حسي، ومن جهة أخرى أنه يتحدث عن أمر قد وقع وشوهد (ماض أو حاضر)، أما الحساب الفلكي فإنه يتحدث عن توقع لنتائج معينة (مستقبل)، لم يشهد لها الحس ولو مرة واحدة بالصحة، ويستحيل أن يشهد لها، لتغاير مدلول النفي والإثبات.

 

نسأل الله أن يهدينا إلى الصواب، وأن يرينا الحق حقًا، ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: الدرر السنية