ينابيع الرجاء - النبع الحادي والعشرون: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}
هذه الآية تُعالج نفسية المؤمن وهو يرى كثرة جند الباطل من حوله، ويشعر بغربةٍ في الميدان، وأنه يسبح عكس التيار، وأن التيار يجرف جموع الغافلين في مسار الباطل، فإن لم يكن ففي مسار السكوت عن الباطل، وحينها تهب على قلبك نسائم هذه الآية: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ}، لتنتشِلك من هذه الأزمة، وتصيغ نفسيتك من جديد صياغة تكفل سكينتك وطمأنينتك.
هذه الآية تُعالج نفسية المؤمن وهو يرى كثرة جند الباطل من حوله، ويشعر بغربةٍ في الميدان، وأنه يسبح عكس التيار، وأن التيار يجرف جموع الغافلين في مسار الباطل، فإن لم يكن ففي مسار السكوت عن الباطل، وحينها تهب على قلبك نسائم هذه الآية: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ}، لتنتشِلك من هذه الأزمة، وتصيغ نفسيتك من جديد صياغة تكفل سكينتك وطمأنينتك.
فالآية تقول: قل أيها الرسول مخاطبا أمتك مُعلِّما لها: لا يستوي الرديء والجيد من الأعمال والأموال والأشخاص، فلا يستوي الضار والنافع، ولا الفاسد والصالح، ولا الظالم والمظلوم، ولا الحرام والحلال، فلكل منهما حُكمه ومكانته، وأجره أو وِزره بحسب عمله الذي يجازيه الله به، وهو الذي لا يظلم مثقال ذرة، ويضع كل شيء فى موضعه الذي يستحقه، وفي الآية ترغيبٌ في صالح العمل ولو كان شاقا، وحلال المال وإن كان قليلا.
فالصدقة من حرام -وإن كانت أمثال الجبال- لا تصعد إلى الله تعالى، ولا توضع في خزائنه، أما الصدقة من حلالٍ -وإن كانت شقَّ تمرة- فهي تقع في كف الرحمن وتربو، حتى أن مثقال حبة من صدقةٍ حلال أرجح عند الله من أمثال الجبال من حرام.
وتحمل الآية معنى آخر، وهو أنَّ القليل من الحلال أكثر بركة ونفعا لصاحبه من كثير الحرام، منزوعِ البركة، عظيمِ الضَّرر دُنيا وآخرة.
والخُبْث يسري كذلك إلى الأشخاص والأفراد، فعبدٌ قريبٌ من الله خيرٌ من ملء الأرض من أقوام يحادون الله ورسوله، وقلةٌ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر تدفع العذاب عن كثرة تنتهك محارم الله صباح مساء، ولا تعرف لله حقا ولا تقيم له أمرا.
وفقيرٌ لا يجد قوت يومه لا يؤبه له في مقياس الدنيا لكنه عامر القلب بالإيمان، فيزن مئات الرجال من رجال أصفار الميزان بمقياس الآخرة!
- يقول المراغي مؤكِّدا هذا المعنى: "فطائفة قليلة من شجعان المؤمنين تغلب الطائفة الكثيرة من الجبناء المتخاذلين، وجماعة قليلة من ذوى البصيرة والرأى تأتى من الأعمال ما يعجز عنه الكثير من أهل الحمق والبلاهة، فالعبرة بالصفة لا بالعدد، والكثرة لا تكون خيرا إلا بعد التساوي فى الصفات الفاضلة"[1].
وخبث الأعمال كذلك واضح، فالظلم والإفساد في الأرض وإشاعة الفاحشة، وإن تستَّر أصحابها بالثياب الفاخرة والقصور المشيدة والمراكب الفارهة والأموال الطائلة، فكل هؤلاء خبَث وركام زائل ووقود نار ولو كانوا هم الأكثرين عددا ومالا وجاها.
- وقوله {ولو أعجبك}: "الواو حالية للعطف على حال محذوفة، والتقدير: لا يستويان في كل حال ولو في هذه الحال، وهذا لاستقصاء الأحوال، وجواب الشرط محذوف دلَّ عليه ما قبله، أي: ما استوى مع الطيب"[2]، والمراد: أي لا تجعل أيها السامع الكثرة والقلة مقياسا للأفضلية، وإلا فتحت قلبك لكثرةٍ خبيثة من الناس، وفتحت جوارحك للعمل الخبيث كتبرج النساء والتهاون بمحقِّرات الأعمال، وفتحت يدك للمال الخبيث كأكل الربا والرشوة.
العبرة إذن بالجودة وليس بالقلة أو الكثرة، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير، والله يحذِّرنا من أن يستحوذ علينا الشيطان، فنغتر بكثرة المال الخبيث، وعلو جند الباطل وكثرته، وتآزر قوى الإفساد، فنستسلم ولا نقاومه، وننجرف مع التيار، وهذه الرسالة لن يستلمها إلا أصحاب العقول الراجحة، ولذا قال ربنا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
- لكن لماذا خص أولي الألباب بالذكر؟!
قال المراغي: "وخص أولى الألباب بالاعتبار لأنهم هم أهل الروية والبصر بعواقب الأمور التي ترشد إليها مقدماتها بعد التأمل فى حقيقتها وصفاتها، أما الأغرار الغافلون فلا يفيدهم وعظ واعظ ولا تذكير مذكّر، فلا يعتبرون بما يرون بأعينهم ولا بما يسمعون بآذانهم، كما يشاهد ويرى من حال كثير من الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة التي جمعت من الحرام، وحال الدول التي ذهب ريحها بخلوها من فضيلتى العلم والخلق وورثها من كانوا أقل منهم رجالا ومالا إذ كانوا أفضل منهم أخلاقا وأعمالا"[3].
والواقي الوحيد في هذا المضمار هو التقوى، وبها وحدها الفلاح والفوز بخيري الدنيا والآخرة، وتقوى الله تفرض عليك اجتناب الخبيث وإن كثر، والحِرْص على الطيِّب وإن قلَّ ونَدُر، وقد علَّمك نبيك قيمة أن تكون في القلة المميزة والصفوة الرائعة، وكلما كان المعدن نادرا كلما غلا ثمنه وعزَّ قدره، والناس تضرب أكباد الإبل وتتغرب في سبيل تحصيل الثروة، وفي الحديث: «»[4].
وفي رواية فيها ضعف: «».
وما ضَرَّ هذه القلة أن الكثرة تعصيهم أو تُبغِضهم إذا كانوا بالصلاح مستمسكين، ولربهم طائعين، وبالاستقامة قائمين.
ولذا سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقول: "اللهم اجعلني من الأقلين" فقال: "يا عبد الله وما الأقلون؟" قال: سمعتُ الله يقول: {وما آمن معه إلا قليل} [هود: 40]، {وقليلٌ من عبادي الشكور} [سبأ: 13]، وذكر آيات أخر، فقال عمر: "كل أحدٍ أفقهُ من عمر"[5].
ومن ثم حذَّر الثوري العلماء من كثرة الأتباع، وله في ذلك رأيا بناه على قلة المهتدين وكثرة المخالفين، فقال رحمه الله: "إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مُخلِّط لأنه لو نطق بالحق لأبغضوه"[6].
قال أبو الطيب المتنبي:
وحيدٌ من الخلانِ في كلِّ بلدةٍ *** إذا عظمَ المطلوبُ قلَّ المساعدُ
[1] تفسير المراغي 7/39 - أحمد بن مصطفى المراغي - ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر.
[2] المجتبى من مشكل إعراب القرآن ص 247 - أحمد بن محمد الخراط - مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
[3] تفسير المراغي 7/39
[4] صحيح: رواه أحمد عن ابن عمرو كما في صحيح الجامع رقم: 7368
[5] الزهد لأحمد بن حنبل 1/297
[6] فيض القدير 4/274
خالد أبو شادي
طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة
- التصنيف: