ينابيع الرجاء - النبع الثالث والعشرون: {ولكنكم تستعجلون}

منذ 2014-03-30

في حديث خبَّاب رضي الله عنه: شَكَوْنَا إِلَى النبى صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بُرْدة له فى ظِلِّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصِر لنا؟! ألا تدعو لنا؟ فقال وقد أخبره عن ابتلاء السابقين بأشد مما ابتلوا به: «وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».

في حديث خبَّاب رضي الله عنه: شَكَوْنَا إِلَى النبى صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بُرْدة له فى ظِلِّ الكعبة، فقلنا:
ألا تستنصِر لنا؟!
ألا تدعو لنا؟
فقال وقد أخبره عن ابتلاء السابقين بأشد مما ابتلوا به: «وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».

 

  • خلاصة الوصية النبوية: لا تستعجلوا فإن من كان قبلكم قاسوا أشد مما لا قيتم، وأصعب مما قاسيتم لكنهم صبروا، وأخبرهم بذلك ليقوّي صبرهم على الأذى ويعينهم على طول الطريق، فليصبروا على أمر الدين كما صبر من سبقكم من المؤمنين بقوة اليقين، ولينتظروا الفرج من الله، فإن الله مُتِمُّ هذا الأمر، ومُمَكِّن سلطانَ هذا الدين بنصره وإظهاره على الدين كله، وتقوية شوكته وبسط نفوذه وتطبيق أحكامه، فينتشر الأمن والأمان في الأرض ببركة الإسلام، حتى يسير الراكب هذه المسافة البعيدة الموحشة آمنا مطمئنا لا يخشى لصا ولا قاطع طريق، وقد صار الأمر كما أقسم النبي عليه الصلاة والسلام.

    وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واثقا من نصر الله بينما كان يرى أصحابه يبطحون في رمضاء مكة، ويعذَّبون أمام عينيه، ويٌقتل منهم أحب الناس إلى قلبه، لكنه على ثقة من وعد ربه له، وحتى حين لم يكن قد أسلم معه إلا أربعة: مولى، وشيخٌ، وصبيٌ، وامرأة!

    ونحن والله أعجل من الصحابة لنزول نصر الله وحلول فرجه!
    والاستعجال فطرة بشرية، فالنفس مولعة بحب العاجل؛ والإنسان عجول بطبعه، وجعلها الله من سجيته وجبلّته حتى جعل القرآن العَجَل كأنه المادة التي خُلِق منها الإنسان:
    {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ[الأنبياء: 37].

    فإذا أبطأ على الإنسان ما يريده نفد صبره، وضاق صدره، ناسيًا أنَّ لله في خلقه سننًا لا تتبدل، وأنَّ لكل أجل كتاب، وأنَّ الله لا يعجل بعجلة أحدنا، وأن لكل ثمرة أوان تنضج فيه فيحين قطافها، والاستعجال لا ينضجها قبل وقتها، والعجلة قال فيها الراغب: "العجلة: طلب الشّيء وتحرّيه قبل أوانه"[1].

    وفصَّلها أبو حاتم العجلة حين قال: "العَجَل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعدما يحمد، ويعزِم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم"[2].

لا تعجلنَّ فربّما *** عجِل الفتى في ما يضُرّه
ولرُبَّما كِرَه الفتى *** أمرا عواقبه تسرُّه


وفي الآية ما يفيد أن الآدمي معذورٌ على الاستعجال لأنه له كالأمر الطبيعي الذي لا بد منه، فلم رتب الله عليه النهي بقوله: {فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}؟
والإجابة: أن في هذا تنبيه على أن ترك العجلة حالة شريفة وخصلة عزيزة، وأولى الناس بها أصحاب الرسالات السامية والمهام العظيمة والآمال الشامخة، وقد ركَّب الله في الإنسان الشهوة وأمره أن يغلبها.
قال تعالى: {سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}، أي إن نقمتي ستصيبكم لا محالة، فلا تتعجلوا عذابي، واصبروا حتى يأتى وعد الله الذي لا يُخلِف الميعاد.

 

  • نوعا الاستعجال:
  1. استعجال النتائج: نوح عليه السلام دعا ألف سنة إلا خمسين عاما ولم يستجب له إلا قلة قليلة، فإذا لم ير الداعية نتيجة عمله وأمره ونهيه فربما استحسر وترك العمل، مع أنه يعمل لوجه الله، ولا يريد من الناس جزاء ولا شكورا، لذا فعليه ألا يستعجل، وليربط قلبه بأجر الله ومثوبته، وأما النتائج الدنيوية فإن لم تأت اليوم أتت غدا، وإذا ما جاءت على يديك فستأتي على يد غيرك من الدعاة.
     
  2. استعجال خطوات الإصلاح: الصورة الثانية من الاستعجال أن بعض الناس قد يتعجل في الخطوات في ميادين الإصلاح، وربما تسبب هذا التعجل في قطع الطريق على الإصلاح، وأفسد من حيث أراد أن يصلح، وهذه الطريقة تؤدي إلى كثرة العداوات والخصومات، ويستفز الناس فيقفون ضده، وبالتالي لا يستطيع أن يواصل طريقه.
     
  • واسمعوا الإمام البنا يخاطب إخوانه قائلا: "أيها الإخوان المسلمون! وبخاصة المتحمّسون المتعجِّلون منكم، اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع : إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده، ولست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم للوصول. أجل قد تكون طريقا طويلة ولكن ليس هناك غيرها. إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخيرٌ له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات، ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف، فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين: إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة.
    أيها الإخوان المسلمون: ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعّة العقول بلهيب العواطف، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلّابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحوِّلوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقّبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد".

     
  • من التاريخ نتعظ!
    ولكن .. كم مضى على اليهود وهم مشردون مضطهدون في ربوع الدنيا؟
    قرونٌ طويلة وهم أقليات مطاردة مشرَّدة في كل بلاد العالم, لكن هل دام بهم هذا الحال؟!
    كلا .. بل صار لليهود اليوم دولة في مصاف الدول المتقدِّمة، ولهم أقوى نفوذ في الغرب وأمريكا، وكلمتهم اليوم مسموعة مطاعة، ولهم قوة ناعمة تتجاوز أبعد الحدود، مع أنهم ملايين خمسة ليس غير، لكن هل سيدوم هذا الحال؟!
    كلا .. والله بل قوتهم إلى زوال، وتوقعات زوال دولة إسرائيل خلال عقد أو عقدين من الزمان على الأكثر متواترة عبر استقراءات قرآنية ونبوءات تلمودية وبحوث استراتيجية، ومع هذا كله البشارات النبوية، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «
    لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم .. هذا يهودي ورائي فاقتله»[3].

    ولا نرجم بالغيب بعد كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولا نشك مقدار لحظة في الوحي، وقد قال عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: 
    «وَاللَّهِ مَا كَذَبْنَا وَلَا كُذِبْنَا».
    ونحن نردِّد من ورائهم هذا القول، واثقين في وعد النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى.
     
  • تأخر النصر .. لماذا؟!
    يقول سيد قطب رحمه الله تعالى كلاماً رائعاً عجيبا في أسباب تأخير النصر أو بطئه: "والنصرقد يبطىء على الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله".
    قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها, ولم يتم بعد تمامها ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكا لعدم قدرتها على حمايته طويلا !

    وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزا ولا غالبا، لا تبذله هينا رخيصا في سبيل الله.

    وقد يبطئ النصر حتى تجرِّب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر. إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله.

    وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل، ولا تجد لها سندا إلا الله، ولا متوجها إلا إليه وحده في الضراء، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله.

    وقد يبطيء النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئا من المشاعر الأخرى التي تلابسه.

    كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصا، ويذهب وحده هالكا، لا تتلبس به ذرة من خيرتذهب في الغمار!

    وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماما، فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريا للناس، ويذهب غير مأسوف عليه منذي بقية!

    وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار، فيظل الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه!

    من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام. مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية[4].


    [1] التوقيف على مهمات التعاريف عالم الكتب 1/236
    [2] روضة العقلاء ص216
    [3] صحيح: رواه الشيخان عن أبي هريرة كما في صحيح الجامع رقم: 7414
    [4] في ظلال القرآن تفسير سورة الحج ص 2426، 2427 

خالد أبو شادي

طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة

المقال السابق
النبع الثاني والعشرون: {فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس...}
المقال التالي
النبع الرابع والعشرون: {إنا لله وإنا إليه راجعون}