{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (3) - (1) رمضان شهر تدبر القرآن
المسلمون يقبلون على هذا الشهر العظيم، يقبلون بقلوبهم يقبلون بأفئدتهم، يقبلون بتلاوتهم، لكننا عندما ننظر لواقع كثير من الصوّام في كثير من المسلمين نلحظ أنهم يعنون بالقراءة دون التدبر.
رمضان شهر تدبر القرآن..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:10]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71].
أيها الإخوة المؤمنون أيها الإخوة الصائمون: فأهنئكم بدخول شهر رمضان المبارك، أسأل الله أن يجعله عام خير وبركة على الأمة الإسلامية جمعاء هذا الشهر العظيم {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، نعم! التقوى هي المرادة من هذا الصيام، وليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب والمفطرات جميعاً، وبمناسبة دخول هذا الشهر الكريم شهر الصيام {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، ولذلك فإننا بإذن الله في هذه الحلقات في العام الثالث على التوالي مع هذا البرنامج (ليدبروا آياته) سنعيش مع كتاب الله جل وعلا.
أحبتي الكرام أيها الإخوة المؤمنون أيها الإخوة الصائمون:
سرّ هذا الشهر هو القرآن، ولذلك كان جبريل عليه السلام يلقى النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فيدارسه القرآن، دعونا نقف مع هذه الكلمة -يدارسه- لم يقل ليقرأ عليه أو يقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والمدارسة من دلالاتها هو الوقوف عند الآيات والتدبر..
نعم! المسلمون يقبلون على هذا الشهر العظيم، يقبلون بقلوبهم يقبلون بأفئدتهم، يقبلون بتلاوتهم، لكننا عندما ننظر لواقع كثير من الصوّام في كثير من المسلمين نلحظ أنهم يعنون بالقراءة دون التدبر، بينما أنزل هذا القرآن كما قال الله جل وعلا: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]، فهل نحن ونحن نقرأ كتاب الله جل وعلا ونقبل على هذا الكتاب في هذا الشهر الكريم؟ هل نحن نتدبر كلام الله جل وعلا؟ أم أننا مجرد تلاوة دون معنى؟ اسأل نفسك أيها الصائم وقد مضى جزء كبير من هذا اليوم: هل وقفت تتدبر في كلام الله جل وعلا؟ هل جلست تتأمل فيما قرأت من آيات؟
إنني أخشى على كثير من الصائمين ومن الذين يتلون كتاب الله جل وعلا، أن يقعوا في مدلول هذه الآية -وحاشاهم من ذلك- {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وهذه الآية كما تعلمون في سورة محمد نزلت في المنافقين، لم يقل الله سبحانه وتعالى أفلا يقرؤون القرآن، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن المنافق قد يقرأ القرآن: «المنافقِ الذي يقرأ القرآنَ مثلُ الرَّيحانةِ، ريحُها طيِّبٌ وطعمُها مُرٌّ» (صحيح مسلم)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم شبهه فله رائحة طيبة لكنه طعمه مرّ، فقال الله جل وعلا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
إذاً العبرة بالتدبر ولذلك جاء في سورة المؤمنون: «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ..» [المؤمنون:68]، وفي سورة النساء: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، لن نستفيد من القرآن ومن تلاوتنا إلا إذا تدبرنا، لا شك أن التلاوة لها أجر عظيم، لكن دون تدبر! دون عمل! دون فهم! هذا يدخل في هجر القرآن، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَاالْقُرْآنَ مَهْجورا} [الفرقان:30]، قال كلاماً عظيماً كلاماً عجيبا دعونا نقف معه هذا اليوم ونحن في مقتبل هذا الشهر العظيم..
ونحن مقبلون على كتاب الله جل وعلا في شهر رمضان، في شهر القرآن، لو سألت كثيرا من المسلمين في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَاالْقُرْآنَ مَهْجورا} [الفرقان:30]، لقال هو الذي لا يقرأ القرآن، هذا تفسير ناقص يبين الإمام ابن القيم رحمه الله أن هجر القرآن -أي من يدخل ضمن هذه الآية- أضرب خمسة، يقول رحمه الله: "الذي لا يقرأ القرآن -أي يتلوا القرآن- قد هجر القرآن"، وهذا معروف عند عموم المسلمين.
ما هو الضرب الثاني؟
قال: "الذي لا يحكم القرآن" يقرأ القرآن لكن لا يحكم القرآن، سواء على مستوى الفرد -في بيته، في تجارته، في مجتمعه- أو على مستوى الدولة، فالذي لا يحكم كتاب الله جل وعلا فقد هجر القرآن: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
ما هو الضرب الثالث؟
قال: "الذي لا يعمل بالقرآن قد هجر القرآن" والعمل بالقرآن أعمّ وأشمل من تحكيم القرآن، التحكيم غالباً يكون بين طرفين يكون بين فردين، أما ما يتعلق بالعمل فهو في كل شيء، هل أنت الآن الذي في بيتك طبقت فيه كلام الله جل وعلا، هل عملت بمقتضى الأمر والنهي في القرآن، الذي لا يفعل يكون قد هجر القرآن.
النوع الرابع: "الذي لا يستشفي بالقرآن" والاستشفاء بالقرآن أعمّ من الرقية الشرعية، حل مشكلات الأمة، حل مشكلات المجتمع، مشكلات الأفراد، هذا استشفاء بالقرآن: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، الذي لا يستشفي بالقرآن لا يرجع لحل مشكلاته الخاصة والعامة وليس مجرد الرقية الشرعية، هذا قد هجر القرآن.
ما هو النوع الخامس؟
يقول رحمه الله: "الذي لا يتدبر القرآن قد هجر القرآن" يعني الذي يتلوا القرآن ويحكم القرآن ويعمل بالقرآن، ويستشفي بالقرآن لا بد أن يتدبر القرآن، بل إنه لا يمكن أن يعمل بالقرآن أو أن يحكم القرآن، أو أن يستشفي بالقرآن إلا إذا تدبره، لأنه دون التدبر سيغلق القلب {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]،
ولذلك أيها الأحبة في هذه الحلقات المباركة في هذا الشهر العظيم سنعيش بإذن الله مع كتاب الله جل وعلا، كنا فيما مضى من السنوات نأخذ آيات متفرقة من كتاب الله جل وعلا، أما هذه السنة بإذن الله فسنعيش مع سورة واحدة فيها الاستشفاء، فيها العمل فيها التدبر، ألا وهي سورة الكهف..
سنعيش مع سورة الكهف نتدبر في دلالاتها ومعانيها، ولن أستطيع أن أقف مع كل آية من سورة الكهف لماذا؟
لأن سورة الكهف سورة عظيمة جداً، سورة طويلة تحتاج منا إلى حلقات قد تصل إلى أكثر من مائة حلقة، نحن لا نستطيع أن نفعل ذلك، فهذا الشهر محدود بثلاثين حلقة أو تسع وعشرين حلقة، ولذلك سأختار موضوعات في سورة الكهف آيات نتدبرها، لأننا أيها الإخوة -كما سأبين بإذن الله- في حلقات قادمة نقرأ هذه السورة ليس فقط في رمضان، في كل جمعة كما ورد في الآثار، فهل نحن نقرأ هذه السورة بتدبر؟ أنا أخشى أن البعض منا يبدأ بقراءة السورة ثم ينتهي منها دون أن يقف مع الدلالات الكبرى من خلال تفسيرها وتدبرها.
بإذن الله سيكون حديثنا من خلال هذه السورة، ستكون وقفاتنا مع هذه السورة في موضوعات إما مستقلة أو موضوعات مترابطة، قد آخذ من أولها وآخرها، لأن فيها مقاطع وفيها موضوعات، وفيها علاج لمشكلات الأمة، فيها علاج لمشكلاتنا الخاصة والعامة، سورة عجيبة جداً.
ولهذا بإذن الله سأقف مع هذه السورة في الحلقات القادمة، وقفات تناسب الحال والمحل والوقت، وقفات تنير لنا الطريق لأن هذه السورة هي نور كما ورد في أثارها: "أنها تضيء وتنور للمؤمن" حتى نحقق هذا النور، حتى نحقق هذه الخيرية بإذن الله نقف معها متدبرين متأملين.
وأسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، ولا تنسوا الدعاء لإخوانكم عند فطركم -أيها الأحبة- ولأنفسكم ولوالديكم ولإخوانكم المسلمين في كل مكان خصوهم بالدعاء، أسأل الله أن ينفعنا بالقرآن وأن يزيدنا هدى وتقوى، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ناصر بن سليمان العمر
أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقا
- التصنيف:
- المصدر: