حرس الحدود والمسلك الأبق

منذ 2014-03-31

ملاينة أهل البدع، والاعتذار لأهل الأهواء، والتكلّف في تبرير شكهم وشطحهم..

المتغيرات تتلاحق، والضغوط بشتى صورها تتابع، والنفوس البشرية يعتريها الضعف والفتور، واستملاح الدّعة والترهل، والتنصل من تبعات الدعوة والنكوص عن مدافعة الشهوات والشبهات..


هذا الواقع الرديء صار مرتعًا خصبًا لظهور مسلك أبلق، لا أبيض ولا أسود، هو أنموذج للتلوّن، والمحافظة على "طرائق التذبذب"، فأصحاب هذا المسلك لديهم من الديانة والعقل ما يحفظهم من الانحدار إلى غثاثة التزلف، والتصنع والنفاق، وهم في نفس الوقت لديهم من "الحسابات" و"القناعات". ما يجعلهم في عافية عن المواقف الواضحة! وفي منأى عن الاحتساب والمدافعة..


هذا المسلك يتحرى أن لا يقلق الأنظمة والحكومات، إذ يمكنه أن يقدِّم الدين والسنة بما لا يزعج ولايقلق الحكومة.
ومن مقاصد هذا المسلك: ملاينة أهل البدع، والاعتذار لأهل الأهواء، والتكلّف في تبرير شكهم وشطحهم.. كما أن أرباب هذا المسلك يلوكون ألفاظًا حادثة ومصطلحات جديدة كالحوار والإنسانية والمصلحة الوطنية.. وآخرها محاربة الطائفية.. وفي نفس الوقت يتوارى أحدهم عن اللغة الشرعية والمصطلحات الدينية والنبوية.. فإذا تحدث أحدهم فلا تدري أهو محلل سياسي -فاته القطار- أم ناشط حقوقي -أخطأه الصواب-!


أما تخصصه الشرعي فقد غيّبه مُجاراةً للعصر ومواكبة للتطور! وأما عن مدافعة المنكرات المتوالية.. فقد يلوذ أصحاب هذا المسلك بالصمت متدثرين بالتعقل وبعد النظر، وإظهار الرزانة والثقل.


بعد هذه المقدمة ندلف إلى مناقشة مقال كتبه الشيخ الدكتور / حاتم العوني بعنوان طويل: (إذا أصبح حرسُ الحدود الطائفية يمارسون وظيفة حرس الحدود بين الإسلام والفكر) في ملحق الرسالة في جريدة المدينة الخميس 13 / 2 / 1431 هـ. استهل الشريفُ مقاله بالتحذير من "الإحتقان الطائفي".. و"التأزم الطائفي".. وكان المتعيّن ابتداءً أن يحرر مصطلح (الطائفية) وما فيه من الإجمال وأن يُعنى بالتعرّف على ملابسات هذا المصطلح وظروف نشأته، دون هذا الانسياق في التحذير منه بإطلاق، ومجانبة التبعية و المجاراة للواقع السياسي والأمني بعُجَره و بُجَره، ففي الآونة الأخيرة برزت مصطلحات وافدة كإنسانية ووطنية.. ومعالجة الطائفية.. ثم إن بعض المتمشيخة يرفعون عقيرتهم بهذه العبارات بل ربما كانوا أكثر حماسًا و اندفاعًا من دعاة الإنسانية والوطنية أنفسهم!


- إنها انهزامية مكرورة، قد يكون باعثها مجاملة الواقع الحاضر، و إظهار الدراية... بقضايا العصر، وحتى لا يتهم الشيخ بالجهل أو ضيق الأفق..
ثم ينجرف هؤلاء المتمشيخة في نفق هذه المصطلحات بحلوها ومرها وزيفها وبريقها.


- أعجبني ما خطّه يراع الكاتب المبدع إبراهيم السكران تحت عنوان: (وما العيب في الطائفية؟!) وأَجتزأ منه هذه السطور الآتية: (تحولت هذه اللافتة.. كلام طائفي) إلى مبرر كافٍ لإدانة أي فتوى ضد الطائفة التي ضلت عن شيء من الشريعة، بمعنى لا تحتاج إلى أية أدلة في نقض الفتوى، بل يكفي فقط أن تثبت أنها فتوى طائفية، بعد ذلك أصلح حنجرتك لترتل لطميات النياحة ضد هذه الفتوى، لماذا؟ لأنها فتوى طائفية! برغم أن إدانة أي طائفة ضلت عن شيء من الشريعة هذا مبدأ قرآني، وسنأخذ مثالًا قرآنيًا لذلك يشابه واقع الطائفة الشيعية اليوم، فقد جاء طائفة من المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وقامو بـ "سب الصحابة" فقالوا عنهم: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنة"، فأنزل الله عليهم تكفيرًا طائفيًا، فقال تعالى في سورة التوبة: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة:66] فهذه إدانة على أساس الطائفة، وبيّن أنهم كفروا بعد إيمانهم، بمعنى أنهم كانوا مسلمين قبل ذلك، لكن بسبهم أصحاب النبي كفروا، وكان تكفيرهم على أساس الطائفة.


- من عبارات الشريف حاتم التي يكثر من تردادها: الولع بتهذيب الحماس وتشذيبه، والوله بـ (الحماس المنضبط)، وساق عبارة هلامية (بَلْقاء): (لن تنتصر دعوة ما ولو كانت دعوة للاعتدال بغير حماس منضبط..) فلم يحدد فضيلته ضابط الحماس المنشود! أهو التسليم للشرع المنزل؟ أم الاستسلام للواقع والاستجابة لضغوطه!

فدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله حققت انتصارات، فهل يعني أنها حظيت بالحماس المنضبط الذي يروق للشريف؟!.


كان الشريف -في حلقة بثتها قناة المجد منذ سنوات- متوترًا و"محتقنًا" جرّاء فتوى أصدرها المشائخ الفضلاء (ابن جبرين رحمه الله، والشيخ عبدالرحمن البراك، والشيخ عبدالعزيز الراجحي) بشرعية مقاطعة المنتجات الدانمركية، لما حصل التطاول على مقام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، بل إن حماسه (المنضبط) أفضى إلى تحجيم وتقليل جدوى هذه الفتوى و المقاطعة! والتشبث بسراب الحلول الدبلوماسية ومشتقاتها.


فهل من الحماس المنضبط أن يُخاصم هؤلاء العلماء وتختزل النصرة للنبي صلى الله عليه وسلم في بيانات الحملة المسالمة؟
لا أدري ماذا سيقول الشريف عن حماس ابن تيمية عندما قال رحمه الله: "فإن الكلمة الواحدة من سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُحتمل بإسلام ألوف من الكفار، وَلأَنْ يظهر دين الله ظهورًا يمنع أحدًا أن ينطق فيه بطعن أحبُّ إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتَهك مستهان" (الصارم المسلول 3 / 939).

بل ندعْ ابن تيمية، فإن توتر الشريف من دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب قد يطول ابن تيمية! و نسوق عبارة لأحد الأشاعرة -الذين أبدى الشريف دفاعه واعتذاره لهم- وهو السبكي رحمه الله لما قال في مطلع كتابه "السيف المسلول على من سبّ الرسول" عن سبب تصنيفه:

"وكان الداعي إليه أن فُتيا رفعت إليّ في نصراني سب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُسْلم، فكتبتُ عليها: يقتل النصراني المذكور، كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم كعبَ بن الأشرف، ويُطهّر الجناب الرفيع من ولوغ الكلب لا يَسلمُ الشرفُ الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانب الدم -إلى أن قال- وليس لي قدرة أن أنتقم بيدي من هذا الساب الملعون، والله يعلم أن قلبي كارهٌ منكر، ولكن لا يكفي الإنكار بالقلب ها هنا، فأجاهد بما أقدر عليه من اللسان والقلم، وأسأل الله عدم المؤاخذة بما تقصر يدي عنه، وأن ينجِّيني كما أنجى الذين ينهون عن السوء، إنه عفوّ غفور" ( السيف المسلول ص 13-14).


فماذا يقول الشريف وأرباب الحملة (الوديعة) عن حماس السبكي رحمه الله في النصرة والذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتمنى أن يحقق تصفية جسدية لهذا الكلب؟! فهل حماس السبكي منضبط عند الشريف؟ أم يُحذر منه؟ أو يُبَلّغ عنه؟! أو يعتذر له لأجل أشعريته؟


وهاك مثالًا ثالثًا في هذا السياق، فابن عابدين الحنفي يقول -عن شقي استطال على خاتم المرسلين- صلى الله عليه وسلم: "وإن كان لا يشفي صدري منه إلا إحراقه وقتله بالحسام" (رسائل ابن عابدين 1 / 293).
فابن عابدين وقد انتقد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب -كما في حاشيته الشهيرة- كما انتقدها الشريف حاتم، إلا أن مسألة سب الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة جلية.. ولذا اتفق أقوال العلماء على ذلك -سواءً ابن عابدين الحنفي، أو القاضي عياض المالكي، أو السبكي الشافعي، أو ابن تيمية الحنبلي- فالحماس المتأجج في صدر ابن عابدين لا يشفيه إلا قتله بالحسام وإحراقه! فهل هذا حماس منضبط في لغة الشريف حاتم؟.


ساق الشريف أسطورة خيالية استوعبت ثلث المقال، وجعلها مثالًا لتقريب مطلوبه، مع أن فحوى مراده ظاهر بيِّن دون حاجة إلى الإلغاز، أو تكلّف هذه الأسطورة التي أورثت خفاء وغموضاً. ثم إن هذه الحدود المفتعلة (إقليمية أو دولية)... يكتنفها محاذير شرعية بل إشكالات "وطنية " فمتى كانت مثالاً يقرِّب الواضح والبدهي؟.


- لما وضعت الحربُ أوزارها مع الحوثيين، فتوقف القتال، رفع الشريف صوته مطالبًا بالتوقف المؤقت عن خطر التقارب! فالشريف سامحه الله يحاول مواكبة العصر في لغته و مخاطبته.."نبذ الطائفية".. تقرير الاعتدال ... وهذا يتفق مع مقصود الملاينة والانفتاح والمرونة. لكن لا مانع لديه من التقهقر ونبش الدعوات المدفونة، مثل دعوة التقريب بين أهل السنة والرافضة، فهذه الدعوة المتعثرة قد أضحت أثراً بعد عين، و الباحث الكريم/ د. ناصر القفاري لما كتب أطروحته الرائعة عن فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة منذ أكثر من ثلاثين سنة، و زار دور التقريب في مصر، فإذا هي مقفرة ليس بها أنيس، قد أُوصدَت أبوابها، وسفتها الرياح والأعاصير.
وساق د. القفاري مختلف محاولات التقريب الفردية والجماعية، وما صاحبها من فشل و إحباط..

فالتقريب المزعوم مردود شرعًا، وغير واقع قدرًا، فعلام التعلّق بالوهم واللهاث خلف السراب؟! ولِمَ لا نبدأ من حيث انتهى الآخرون؟..


حبّ السلامة يثني عزم صاحبه *** عن المعالي ويغري المرء بالكسل


إنه الهروب عن الواقع؟ والنكوص عن الحقائق المرّة؟ ولو آل ذاك إلى أن تصم الآذان وتطمس العيون عن مكر الرافضة وكيدهم.
كنا نأمل من الشريف وقد وهبه الله علمًا وشرفًا أن ترقى الهمم إلى دعوة الرافضة وسبل إنقاذهم من الزندقة والشرك، وتحرير عقولهم من رق عبادة الأئمة.. وسبل مناظرتهم، وطرائق مجادلتهم بالحسنى، وبرامج عملية للمهتدين..


- يعمد الشريف إلى المغالطة وخلط الأوراق! فيوهم القارئ التسوية بين الأشاعرة والرافضة، وهذا جهل كثيف لا أظن الشريف تلبّس به، فأهل السنة أدرى الناس بمراتب الشرور وتفاوت البدع، وإنزال الناس منازلهم، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ولم يعرف عن جمهور السلف القول بتكفير الأشاعرة، كما هو مبسوط في كتبهم، و لندع هذا الاكتشاف النادر الذي عثر عليه الشريف، فتشبث بعبارة قالها عالم غير مشهور في تكفير الأشاعرة! فلا موجب للشغب والاستطالة على أهل السنة، والنوح على الأشاعرة، فهذا المحدث (مطيار!) قد جانب الصواب في ذلك، وليت هذه الغضبة (المضرية) من الشريف حاتم طالت الأشاعرة، كما طالت أهل السنة، ففي كتب الأشاعرة المعروفة (مثل شرح الكبرى للسنوسي، وشرح جوهرة الأشاعرة للباجوري، وشرح أم البراهين للدسوقي..) يسوقون قولهم بتكفير العوام وعدم صحة إيمان المقلد.. بل يلزم من إيجابهم النظر أن يحكموا على سلف الأمة بالكفر!!.


- وأما تشدق الشريف بإطلاق القول أن الأشاعرة من أهل السنة، فهذه المقالة وجه آخر من وجوه الملاينة، والتودد لأهل البدع. ثم متى يكفّ الشريف عن مجاملته التي يتهم بها الآخرين؟ والأشاعرة خالفوا أهل السنة والجماعة في جملة من مصادر التلقي والاستدلال، كما خالفوا في الكثير من مسائل الاعتقاد كالصفات والقدر والإيمان ودلائل النبوة.. وغيرها كما هو مبسوط في موضعه، ومقتضى العلم والعدل أن تذكر أوجه الموافقة والمفارقة بين أهل السنة والأشاعرة، ولعل الشريف وتلاميذه يلقون نظرة على كتاب وجيز في هذا الشأن، وهو ما سطّره قلم الشيخ المحقق سفر الحوالي في "الأشاعرة".


ثم لا موجِب للمغالطة والتباكي على علماء الأشاعرة، فأهل السنة يميّزون بين مقالات الأشاعرة، وبين أشخاصهم الذي ترد عليهم عوارض الأهلية من الجهل والتأول والغلط ونحوها..


- تتكرر -شجاعة- الشريف فهو يقول: "لن يجامل أحداً!.." لكنه يجامل الرافضة مجاملة فجة مُفْرِطة، فالشريف يقول: "لا أُكفِّر من كفّر عامة الصحابة رضي الله عنهم -مستثنياً بعضهم- ككثير من الإمامية..".

وإذا كان الشريف حاتم لا يكفّرهم، فإن عشرات الأئمة الأعلام والعلماء الكبار قد كفّروا الرافضة منذ مئات السنين، كالإمام مالك، والإمام أحمد، والإمام البخاري، و عبدالرحمن بن مهدي، و أبي زرعة الرازي، و ابن حزم، و أبي حامد الغزالي، و القاضي عياض، و ابن تيمية، وغيرهم كثير كما جاء سرد أقوال في مبحث مستقل (برسالة أصول الشيعة الاثني عشرية للدكتور ناصر القفاري).


ولم يقف د. القفاري على من لم يكفر الرافضة إلا الإمام النووي ظنًا منه أنهم لا يكفرون جمهور الصحابة.
مع أن القول بتكفيرهم قبل استفحال كتب الروافض، وظهور زندقاتهم الصلعاء، كما أن الرافضة المتأخرين أشد انحرافًا من أسلافهم.


و أخيرًا على الشريف أن يتخفف من هذا التوتر والنزق تجاه إخوانه أهل السنة، وأن يكف عن الاعتذار والتبرير لأهل البدع، فلا يكن للخائنين خصيماً، فأهل السنة يموتون ويبقى ذكرهم، وأهل البدع يموتون ويموت ذكرهم، فالأولون نصروا سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وأهل البدع أبغضوا السنة فلهم نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:3].

المصدر: الدرر السنية