{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (3) - (6) السعادة الحقيقية
نواصل مع هذه الحلقات مع هذه السورة العظيمة مع سورة الكهف التي فيها النجاة من الفتن جميعًا، نبدأ اليوم ومع هذه الحلقة مع آياتها، وكما ذكرت في حلقة ماضية أنني لن أستطيع أن أقف مع كل آية فيها، وإنما سأحاول أن أربط بعض الموضوعات ببعض بإذن الله وتوفيقه.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته..
أيها الإخوة الصائمون أيها الإخوة المؤمنون: نواصل مع هذه الحلقات مع هذه السورة العظيمة مع سورة الكهف التي فيها النجاة من الفتن جميعًا، نبدأ اليوم ومع هذه الحلقة مع آياتها، وكما ذكرت في حلقة ماضية أنني لن أستطيع أن أقف مع كل آية فيها، وإنما سأحاول أن أربط بعض الموضوعات ببعض بإذن الله وتوفيقه.
ابتدأت السورة كما تعلمون بقول الله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا} [الكهف:1]. الحمد: هو الثناء بالجميل على الجميل، في أصح أقوال المفسرين، فنحن نحمد الله جل وعلا ونثني عليه في مطلع هذه السورة، الذي أنزل لنا هذا الكتاب الذي هو القرآن {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا . قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ}.
أيها الإخوة، أيها الأحبة: نبدأ بالحمد، لأن هذا الكتاب وقد بدأ الحمد في عدد من السور، وهي خمس سور في القرآن: الفاتحة التي هي أم الكتاب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، سورة الأنعام أيضًا بدأها بالحمد، سورة الكهف، سورة سبأ، سورة فاطر. الحمد أيها الأحبة أمره عظيم وهو يتناول موضوعات دلائل عدة.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} دعونا نتأمل في هذا الكتاب، دعونا نعيش مع هذه الحلقات مع كتاب الله جل وعلا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89]، بشرى للمؤمنين، بشرى للمسلمين، هذا الكتاب العظيم، ألا يستحق هذا الكتاب أن نحمده.
أحبتي.. أقول لكم في هذه الساعة العظيمة: والله إنني أتمنى السعادة لكل واحد منكم، وها أنا من واجبي الشرعي أذكركم بها وإلا فهي لا تخفى عليكم. السعادة أين؟ كلنا يريد السعادة، كل مخلوق يريد السعادة، وأنا في الطريق في شدة الحرّ، وجدت حيوانًا أليفًا في وسط الطريق في شدة هذا الحرّ يجلس في مكان فتعجبت! لماذا يجلس في مكان في وسط الطريق؟ في شدة هذا الحرّ، فإذا هو جلس في مكان فيه شيء من الماء، فوجد أن هذه المنطقة هي أبرد مكان يجلس فيها ليتقي بعض الحر، وهو حيوان، فهو يبحث عن سعادته، يبحث عن المكان البارد المناسب له. فكيف بالإنسان؟
كل إنسان يبحث عن السعادة، لكن من الذي يوفق لها؟ {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]. السعادة أيها الإخوة هي للمؤمن، هي للمسلم، السعادة الحقيقية في قوله تعالى: {طَه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1، 2].
أحبتي إخوتي.. الذين ترونهم يروحون ويغدون صباح مساء، ويتحملون المشاق، بحثًا عن السعادة، لكن هناك سعادة حقيقية وهناك سعادة موهومة، هناك سعادة أبدية وسعادة زائلة، القرآن يدلنا على السعادة كما في نصّ هذه الآيات: {مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} كما في سورة الكهف، وفي آخرها: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:108]، وقبل ذلك هي سعادة في الدنيا، {طَه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}، لا يمكن أن يكون المؤمن مع القرآن حقيقة ويشقى، أبداً.
لكن متى؟
عندما يكون في قلبه: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة:97]، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:193، 194]، كما رأينا في سورة البقرة والشعراء، إذا كان القرآن في قلبك، وأنت تؤمن إيمانًا حقيقيًا، بأنه هو مفتاح السعادة فلن تشقى {طَه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}! {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه:123] في نفس سورة طه.
القرآن يؤكد هذه الحقائق أيها الإخوة، ويقول الله جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. حياة طيبة، وأجر للآخرة، العجيب في هذه الآية في سورة النحل، فيها لفتة تدبرية، هل وقفتم عليها؟ هل تأملتموها؟ بعد هذه الآية مباشرة والله جل وعلا يقول في هذه الآية: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، بعدها مباشرة: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، إذًا السعادة في القرآن!
ولكن حتى تتحقق هذه السعادة وهذه الحياة الطيبة، العاجلة أو الآجلة {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} لأنه يجعلك تقرأ وأنت لا تفهم، كم منا يقرأ القرآن في هذه الأيام وفي غيرها، لكن قد يمر بالسورة ويخرج منها لم يتدبر آية واحدة منها، والعبرة بالإيمان واليقين كما قال عمر رضي الله عنه: "والله إنني لا أحمل همّ الإجابة، ولكنني أحمل همّ الدعاء". فنحن إذًا لا نحمل همّ تحقق هذا الوعد، ولكن هل تكون قلوبنا حاضرة؟ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ.
بهذا يكون: {طَه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] شفاء من كل الأمراض الحسية والمعنوية.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا . قَيِّمًا} فنفى وأثبت، نفى أن يكون فيه عوج، وأثبت أنه قيّم، وهو القائم على شؤون العباد. وهذا من التفسيرات التي ذكرها العلماء فقالوا: {قَيِّمًا}: أي مستقيمًا، وذكروا من أوجه ذلك أنه قيم على ما قبله من الكتب وقيم على شؤون العباد، فإذا كان قيمًا على شؤون العباد فإنه في هذه الحالة سيحقق كل ما يريده العباد بإذن الله، إذا أيقنا بهذه الحقيقة.
إخوتي الكرام.. هذا هو كتاب الله جل وعلا ينذر ويبشر، في البشرى، كما في هذه الآيات {قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} فهو ينذر ويبشر، فنحن أمام نذارة وبشارة، فمن أقبل على هذا الكتاب بصدق، وإخلاص وإيمان فإن الله يحقق له هذه.
إذا أقبلنا على هذا الكتاب بتدبر، فإننا سنجد فيه الإنذار، وسنجد فيه البشرى، وسنجد فيه الأجر العاجل والآجل، سنجد فيه الشفاء، سنجد فيه السعادة.
إخوتي أحبتي.. يقول الشاعر:
كالعيس في البيداء قتلها الظمأ *** والماء فوق ظهورها محمول
وأصدق من ذلك هو قول الله جل وعلا عن اليهود: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] لو حملت على الحمار كتبًا، هل يستفيد منها؟ أبدًا، لأنه لا يقرأ لا يفهم، فهؤلاء اليهود شبههم الله، بأسوأ مثل؛ فهم معهم علم معهم التوراة، لكنهم لا يعملون بها، بل يعملون ضدها، فهم كمثل الحمار، هذا المثل ليس خاصاً باليهود، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175] شبهه الله جل وعلا كالكلب: {مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} [الأعراف: 176] أسوأ مثلين في القرآن هو ما في سورة الأعراف. لاحظوا أتبعه الشيطان! وليس هو اتبع الشيطان! كأنه سبق الشيطان بعمله والعياذ بالله، لأنه انسلخ من هذه الآيات، ومثل اليهود.
فكذلك الله جل وعلا هنا يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا . قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} إذا لم يستفد الإنسان من البشارة والنذارة ولم يتدبر كلام الله جل وعلا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] المنافقون يقرأون القرآن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « »، لكنهم لا يتدبرون القرآن، فشبههم الله أن على قلوبهم أقفال.
من أجل أن نحقق السعادة التي هي بين أيدينا الآن في هذا الكتاب {طَه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، ومع ذلك نجد ناس يشقون؛ لأنهم أعرضوا عن كتاب الله جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124- 126] نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء.
غداً نواصل بإذن الله مع هذا الكتاب العجيب، ومع هذه السورة، نسأل الله أن ينفعنا بذلك، ولا تنسوا دعوة صالحة عند فطركم، وعند سحوركم، وفي صلاتكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ناصر بن سليمان العمر
أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقا
- التصنيف:
- المصدر: