كلمة يدين لنا بها العالم!

منذ 2014-04-04

كلمة واحدة: إذا قلناها بألسنتنا، وأيقنت بها قلوبنا، وعملنا بها بجوارحنا، خضعت لنا الأمم، ودانت لنا الممالك، وعلا شأننا، وارتفع أمرنا، وعزّ مُلكنا، وأصبحنا ملوك الدنيا، وحكّام العالم، وجاءت إلينا الدنيا وهي راغمة!

الخطبة الأولى:

أيها المسلمون:

كلمة واحدة: إذا قلناها بألسنتنا، وأيقنت بها قلوبنا، وعملنا بها بجوارحنا، خضعت لنا الأمم، ودانت لنا الممالك، وعلا شأننا، وارتفع أمرنا، وعزّ مُلكنا، وأصبحنا ملوك الدنيا، وحكّام العالم، وجاءت إلينا الدنيا وهي راغمة!

نعم، تجيء الدنيا بخيراتها، وبركاتها، وثرواتها، إلينا!

إذا فعلنا ذلك: جاءنا الفرج من كل مكان، وتيسرت أمورنا، وكثرت خيراتنا، وتحسنت أوضاعنا.

فيا ترى ما تلكم الكلمة، التي هذا جزء يسير من خيرها، وفضلها؟!.

إنها كلمة: (لا إله إلا الله)

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي قريشًا، ويطالبهم بكلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) فإذا قالوها، دانت لهم بها العرب، وأدت إليهم بها العجم الجزية.

وقد تكفل الله جلّ جلاله لأهل لا إله إلا الله، تكفل لهم بالفتح والنصر في الدنيا والعز والشرف، يقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].

فهذا هو الشرط: {يَعْبُدُونَنِي}!، فالعبادة تكون لله الواحد الأحد.

{لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} أي شيء: أحجار أو أشجار، أو أنظمة أو قوانين، أو أولياء وصالحين أو غيرهم.

ولذا فإنّ ما نشاهده اليوم من ضعف وهوان، وتفرق وخذلان، من أعظم أسبابه: تخلي بعض المسلمين عن العمل بـ (لا إله إلا الله) وإشراكهم بالله عز وجل .

عندما دخل التتر بلاد الشام قام بعض الناس، يستغيثون بالموتى عند القبور، حتى قال قائلهم:
 

لوذوا بقبر أبي عمر *** يا خائفين من التتر


وذكر الشيخ رشيد رضا: "أنه عندما زحفت روسيا على مدينة بخارى، فزع الناس إلى الاستغاثة بحامي بخارى كما يسميه أهلها شاه نقشبند!، فلم يغنِ عنهم شيئاً".

وذكر رحمه الله أيضاً أنه: "انتشر بين أهل مراكش، عند حلول النوائب بهم، وتعدي الأجانب عليهم الاجتماع حول قبر الشيخ إدريس في فاس، طالبين أن يكشف ما نزل بهم من الشدة، تاركين ما تقتضيه حال العصر من التربية والتعليم والإعداد العسكري للأعداء." (دمعة على التوحيد، ص 80)

فكيف تنتصر أمة تتجه في وقت الشدة والمحنة إلى غيره سبحانه؟

وكيف ينصر الله أقوامًا يدعون غيره، ويتضرعون عند أبواب المقابر، ويرجون النصرة من الموتى؟

ولذا أيها المسلمون!

كلما قوي الإيمان والتوحيد في القلوب، كلما قرب النصر والتمكين بإذن علام الغيوب، هذه فضيلة من فضائل التوحيد.

ومن فضائله أيضًا أيها المسلمون، أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة، ودفع العقوبات، ودرء الشدائد والملمات، ولذا لما كان يونس عليه السلام في بطن الحوت: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]...استجاب الله له وفرج كربته، وأنجاه من شدته.

وهل يقارن العبد كربات الدنيا بكربات الآخرة؟

عندما تقف للحساب، وتواجه رب الأرباب؛ عندها تنسى كربات الدنيا، وتعلم فضل التوحيد، وما له من المكانة والمنزلة عند المليك المجيد، يقول صلى الله عليه وسلم: «يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر له تسعة وتسعون سجلًا، كل سجل مَدَّ البصر، ثم يقول الله عز وجل: هل تنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: أظلَمَتك كتبتي الحافظون؟ ثم يقول: ألك عن ذلك حسنة. فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك اليوم. فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. قال: فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات. فيقول: إنك لا تُظلم. فتوضع السجلات في كِفَّة والبطاقة في كِفَّة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة» (رواه الترمذي [2639] وحسنه، وابن ماجة [4300] وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم [1776])

أرأيت أيها المسلم؟

أرأيت فضل هذه الكلمة، التي يقولها الإنسان متجرداً من شهواته، صادقاً من قلب؟

أرأيت كم لها من الأثر يوم القيامة، في تفريج كربتك، ونجاتك من النار؟!. فنسألك اللهم أن تجعلنا موحدين يا رب العالمين.

أيها المسلمون:

ومن فضائل التوحيد: أنه سبب للأمن التامّ، في الدنيا والآخرة، والهداية إلى الصراط المستقيم، يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82].

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]. شقَّ ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، أيّنا لا يظلم نفسه؟ قال: «ليس ذلك؛ إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] ».

فـ {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}: لهم الأمن من المخاوف والعذاب والشقاء، ولهم الهداية إلى الصراط المستقيم.

وكلما كان العبد سليمًا من الإشراك بالله تعالى، سليمًا من الذنوب والمعاصي، كلما كان الأمن أتم، والهداية أكمل.

وإن سلم الإنسان من الشرك بالله تعالى، لكنه عمل السيئات، فإنّ من كرم الله ورحمته أنه يوفقه لأصل الهداية والأمن، وإن لم يحصل له كمال الأمن وكمال الهداية.

ولكن الذي يخلط إيمانه بالإشراك بالله تعالى؛ فيتعلق قلبه بغير الله، ويعظم غير الله كتعظيم الله تعالى، ويعصي الله جل جلاله، فهذا والعياذ بالله حظه الضلال والشقاء، والفزع في الدنيا وفي دار البقاء.

فهل أدركت الآن فضل صفاء التوحيد في قلبك؟ ومدى أثره في جلب الطمأنينة والسكينة على فؤادك، وأنّ هدايتك لكل خير تريده، ولكل حسن تحبه، مرهون بهذا التوحيد العظيم، بل إن من فضائل هذا التوحيد، أن من حققه في قلبه بأن امتلأ قلبه من الإيمان والتوحيد والإخلاص، وصدقته الأعمال بأن انقادت لأوامر الله طائعة منيبة مخبتة إلى الله، ولم يجرح ذلك بالإصرار على شيء من المعاصي- فهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم أن جزاءه دخول الجنة بغير حساب ويكون من السابقين إلى دخولها، وإلى تبوء المنازل منها، يقول النبي صلى اله عليه وسلّم في الحديث الطويل وفيه:
« ...فإذا سواد قد ملأ الأفق، قيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفًا بغير حساب»ثم دخل ولم يبين لهم، فأفاض القوم، وقالوا: نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله، فنحن هم، أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام، فإنا ولدنا في الجاهلية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج فقال: «هم الذين لا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون»(رواه البخاري [5705])

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يدخلون الجنة بغير حساب.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وبعد:

أيها المسلمون:

ومن أجلّ فوائد التوحيد: أنه يمنع الخلود في النار، إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل، وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار. فأَنطلق فَأَفْعَلُ». وفيه: «ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخرُّ له ساجداً، فيُقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تعطى، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي، وجلالي، وكبريائي، وعظمتي، لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله» (رواه البخاري [7510])

وشفاعة رسول الله صلى اله عليه وسلّم تكون أقرب لمن كَمُلَ توحيده لله رب العالمين، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قيل: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، أو نفسه» (رواه البخاري)

ومن أعظم فضائل التوحيد أنّ جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوِيَ التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت.

ومن فضائل التوحيد: أنّه إذا كَمُلَ في القلب حبّب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان وجعله من الراشدين.

ومن فضائله أيضًا: أنّه يخفف عن العبد المكاره، ويهون عليه الآلام، فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة.

ومن أعظم فضائله: أنه يحرّر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي، ويكون مع ذلك متألهاً متعبدًا لله؛ لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إياه، ولا ينيب إلا إليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه.

وأخيرًا: من فضائله التي لا يلحقه فيها شيء، أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققًا كاملًا بالإخلاص التام، فإنه يُصيّر القليل من عمل العبد كثيرًا، ويضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، كما في حديث البطاقة التي فيها لا إله إلا الله، والتي وزِنَت فرجحت بتسعة وتسعين سجلاً من الذنوب، كل سجل يبلغ مد البصر، وذلك لكمال إخلاص قائلها، وكم ممن يقولها في هذا الزمان ثم لا تبلغ هذا المبلغ، لأنه لم يكن في قلبه من التوحيد والإخلاص الكامل مثل ولا قريباً مما قام بقلب هذا العبد.

وما أجمل ما قاله الأديب الأريب مصطفى المنفلوطي حينما قال: "جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليرفع نفوس المسلمين، ويغرس في قلوبهم الشرف والعزة والأنفة والحمية، وليعتق رقابهم من رق العبودية، فلا يذل صغيرهم لكبيرهم، ولا يهاب ضعيفهم قويهم، ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان إلا بالحق والعدل، وقد ترك الإسلامُ بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى، فكانوا ذوي أنفة وعزة، وإباء وغيرة، يضربون على يد الظالم إذا ظلم، ويقولون للسلطان إذا جاوز حده: قف مكانك، ولا تغلُ في تقدير مقدار نفسك، فإنما أنت عبد مخلوق لا رب معبود، واعلم أنه لا إله إلا الله.

هذه صورة من صور نفوس المسلمين في عصر التوحيد، أما اليوم وقد داخل عقيدتَهم ما داخلها من الشرك الباطن تارة والظاهر تارة أخرى، فقد ذلت رقابهم وخفقت رؤوسهم، وضرعت نفوسهم، وفترت حميتهم، فرضوا بخطة الخسف، واستناموا إلى المنزلة الدنيا، فوجد أعداؤهم السبيل إليهم، فغلبوهم على أمرهم، وملكوا عليهم نفوسهم، وأموالهم، ومواطنهم، وديارهم، فأصبحوا من الخاسرين.

والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة وهناءتها إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد، وإن طلوع الشمس من مغربها، وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده، ما دام المسلمون يقفون بين يدي (الجيلاني) كما يقفون بين يدي الله، ويقولون للأول كما يقولون للثاني: أنت المتصرّف في الكائنات، وأنت سيد الأرضين والسموات.

إن الله أغير على نفسه من أن يسعد أقوامًا يزدرونه، ويحتقرونه، ويتخذونه وراءهم ظهريًا، فإذا نزلت بهم جائحة، أو ألمت بهم ملمة ذكروا الحجر قبل أن يذكروه، ونادوا بالجذع قبل أن ينادوه ..." إلى آخر رسالته القيمة النافعة.

أيها المسلمون:

فضائل التوحيد جمة، وآثاره متنوعة، وفوائده حسنة، فاحرص يا رعاك الله على هذا التوحيد الذي بين جنبيك، حتى تفوز بهذا الفضائل العظيمة، والخيرات الجسيمة.

اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم.

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي العظيم والمرشد 

محمد بن عبد الله الهبدان

إمام و خطيب جامع العز بن عبدالسلام في الرياض