المدخل الفقهي للمشروع التغريبي

منذ 2014-04-04

منذ انتهاء حقبة الاستعمار العسكري المباشر على بلاد المسلمين تم تسليم المجتمعات الإسلامية لنخب فكرية علمانية تسعى إلى صبغ هذه المجتمعات بالصِّبغة الغربية في مجال السياسة والاقتصاد والأسرة والتعليم وغيرها من المجالات الاجتماعية.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

منذ انتهاء حقبة الاستعمار العسكري المباشر على بلاد المسلمين تم تسليم المجتمعات الإسلامية لنخب فكرية علمانية تسعى إلى صبغ هذه المجتمعات بالصِّبغة الغربية في مجال السياسة والاقتصاد والأسرة والتعليم وغيرها من المجالات الاجتماعية.


هذه الحقيقة العلمية والتاريخية لم تعد تخفى على المتابع، وليست من قبيل الأوهام أو عقدة المؤامرة كما يردده كُتَّاب المشروع التغريبي الذين آلمهم كشف المشروع وفضحه أمام المجتمع وتوعية الأمة بمخاطره، وخصوصًا بعض المجتمعات التي نشط فيها المشروع التغريبي في فترة متأخرة بعد أن قوي التدين وانتشر العلم وظهرت الدعوة الإسلامية ظهورًا كبيرًا وأقبل الناس عليها واستفادوا من منتجاتها النافعة.


وطبيعة المشروع التغريبي أنه مشروع خفي لا يظهر مقاصده وغاياته للناس مباشرة لأنه يعلم الموقف الطبيعي للمجتمع الإسلامي من فكره ومنهجه ونتائج مشروعه النهائية التي تتعارض تعارضًا جذريًا مع أصول الإسلام وحقائقه الكبرى، وهذا التخفي هو حال المنافقين الذي وضحه القرآن الكريم.


وأمام هذه الإشكالية المعيقة لتقدم المشروع فلا بد من اعتماد مداخل خفية على المجتمع تنقلهم بشكل تدريجي إلى الغايات دون الحاجة إلى مصادمة له لأن الخاسر الوحيد في حال الصدامات هو المشروع الدخيل والوافد الذي لا ينبع من تراث الأمة وهويتها واحتياجاتها الحقيقية.


وقد تعددت المداخل الخفية التغريبية على المجتمع الإسلامي وهي بشكل عام تعود إلى نوعين... مدخل فكري منهجي، ومدخل عملي تنفيذي، فمن النوع الأول: استخدام الشهوات للتغيير الفكري والاجتماعي، وخاصة شهوة المال والجاه والنساء، واحتواء الاتجاه العصراني وما يسمى بالتنوير الإسلامي وتوجيه نتائج منظومته الفكرية لتصب في وعاء المشروع وإنائه، وتغطية المشروع ببعض المفاهيم الشرعية والمسائل الفقهية واستخدامها كمطية للتوصل إلى أهدافهم، والتركيز على المرأة، وإضعاف التدين وهيبة الشريعة في النفوس، ومن النوع الثاني: التغيير النظامي والقانوني وخاصة السياسات العامة، والتأثير الإعلامي، والتنسيق مع الجهات الأجنبية الرسمية وغير الرسمية، ونحوها من الوسائل العملية.


وفي هذه الخاطرة الوجيزة سيكون التنبيه على المدخل الفقهي للمشروع التغريبي.


الخلاف مع المشروع التغريبي ليس خلافًا في مسائل فقهية، أو في النظر في الأدلة، ومناقشة الراجح والمرجوح، وأقوال العلماء، بل الخلاف معهم في أصول الدين، والرضا بحاكمية الشريعة الإسلامية وهيمنتها على كل أجزاء الحياة والمجتمع؛ فالمشروع التغريبي يريد أن يفرض على الأمة منهجًا فكريًا، ونمطا اجتماعيا، وسلوكا أخلاقيا مستندًا إلى الفكر الغربي.


والنظرة التجزيئية للمشروع التغريبي، أو حصر الخلاف معه في الخلاف الفقهي المجرد نقص في التصور الكلي للمشروع، فهو مشروع شمولي يعتمد على تغيير اجتماعي وسلوكي قائم على أساس فكري علماني، فهو ليس مشروع اختلاط أو حفلات غنائية أو غير ذلك مما يعد من المعاصي إذا أُخِذ بمعزل عن الرؤية الفكرية الكلية التي ينطلق منها.


وبهذه الرؤية الكلية يتضح أن القضية قضية عقدية مهمة يجب الإلمام بها، وعدم تقزيمها والاستخفاف بها، فصاحب المعصية الممارس لها أيًّا كانت معصيته إذا كانت دون الشرك والكفر معدود من أبناء المجتمع الإسلامي، وهو في خندق واحد مع بقية المسلمين المعظِّمين للشريعة في مواجهة هذا المشروع، وهو أحد المستهدَّفين به، وخلافنا العقدي ليس مع هذه الفئة من إخواننا، ولكن الخلاف مع من يتبنى الفكر الغربي منهجًا للحياة، ويرى أن النموذج الاجتماعي والفكري الغربي هو الأهدى سبيلاً، والأصلح للأمة الإسلامية المعاصرة.


ومن خداع الفكر التغريبي للأمة أن يحوِّل نظرها عن الرؤية الكلية لمشروعه ويفتتها إلى مسائل جزئية يدعي فيها الخلاف الفقهي الذي ينبغي فيه الإعذار، ويصور المسألة وكأنها اختلاف بين العلماء في مسألة فقهية.


ويجد هذا الفكر الدخيل من الفقهاء الذين وقعت في نفوسهم الهزيمة أمام ضغط الواقع ما يمكن أن يحتج به، فالفتاوى الشاذة المخالفة للإجماع، والفتاوى المغفلة من أقوى الأدوات والآليات التي يستعملها الفكر التغريبي في واقعنا المعاصر.


وقد جاء في الأثر: " ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، والأئمة المضلين"، وهذا الأثر ذو معنى عميق، وهو قاعدة علمية في المداخل الفكرية التي يستغلها الزنادقة في كل عصر لهدم الدين، وزلات العلماء تكثر في أزمان الهزيمة النفسية والفكرية؛ لأن أصحابها يبحثون عن مخرج يتعايش مع الواقع الصعب حسب ظنهم، ولهذا ينبغي أن ينتبه لهذا المنفذ الدعاة والمصلحون ويحسنوا سده على الأمة.


فزلة العالم، وأفعال الأئمة المضلين في ذاتها ليست أكثر من الذنوب المعتادة، ومع ذلك جاء التعبير في الأثر بأن مآلها ونتيجتها "هدم الدين"، لأنها مدخل موصل لهدم الدين.


ومن غرائب ألوان الهزيمة الفكرية التي يفتح بها بعض المنتسبين إلى العلم أبواب الشر على الأمة أن يفتي في مسألة متغافلاً عن مناط الواقع، ثم تُستغل فتواه، ويُروج لها لنشر الفساد والانحراف، وسواء قصد هذا أم لم يقصده فهي بوابة مشرعة للطاعنين في الدين والمفسدين للمجتمع.


فمثلا من يُسأل عن الغناء فيفتي بجوازه، وهو يريد الغناء الذي يذكره العلماء قديما من تحسين الصوت، أو على قول من يبيح بعض المعازف، والناس لا تعرف إلا الكليبات الراقصة المثيرة للشهوات وهي التي تُمارس في الواقع، والتي لو أفتى أحد بجوازها تحديدا لكان كافرًا خارجًا عن دائرة الإسلام، أما ما يُتحدث عنه فلا يعرفه الناس، ولا يرونه، وليس هو محل الأسئلة المعاصرة.


ومن هذه الفتاوى الغريبة من يُفتي بممارسة الفتاة للرياضة في المدارس بصورة محتشمة وهو يشاهد المطالبات والصراع المحتدم على رياضة الفتاة لتأهيلها للأولمبياد، وجعل الرياضة النسائية مشروعًا متكاملاً كما هو الحال في الرياضة للشباب، ففي مثل هذه الحالة؛ فإن من الغفلة الاستدلال بمسابقة عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم، أو محاولة التأكيد على الفوائد الطبية للرياضة، فالمناط متعلق بأمر آخر، ولا يُخدع بهذا إلاّ متغافل أو مغفل لا يمتلك الوعي الكافي لمعالجة الأمور.


وهذه الفتاوى المغفلة تُعد بوابة مشرعة للفكر التغريبي في تغيير صبغة المجتمع الإسلامي تدريجيًا حتى يصبح مجتمعا شهوانيًا يسهل تحويله فكريا الى الفكر الغربي الجاهلي.


ليس الغاية من هذا الإيراد اتهام من زل من العلماء بأنه تغريبي أو غيرها من التهم معاذ الله، ولكن الغاية هو الانتباه للتغطية الفقهية التي تنتج عن هذه الفتاوى المغفلة التي لا تراعي مآلات الخطاب، ونهايات الأقوال.


وأمام هذه التغطية التغريبية للمشروع الفكري والاجتماعي فإنه من الواجب العمل على مواجهة هذا المدخل من جهتين:


الأولى: الكشف عن حقيقة التعامل التغريبي مع المسائل الفقهية وخصوصا مع كثرة من يترخص من دعاة التيسير والتعايش، وربط الجزئيات بالأهداف الكبرى لهذا المشروع، وتوضيح خداعه ومناوراته الفقهية.


الثانية: التبيين لخطأ من وقع في مخالفة للإجماع، أو أفتى في أمر خارج مناطه مما يسهل عملية التوظيف التغريبي لها، ومناقشة الأدلة التفصيلية والرد عليها، ورد الأمور إلى صورتها الكلية التي يريدها الفكر التغريبي.


فالمشروع التغريبي لا ينتظر فتوى شرعية، أو مسألة فقهية، ولكنه يوظف كل ما من شأنه التأثير على المجتمع المسلم الذي لا يقبل أمرًا من الأمور إلا بعد معرفة حكم الله تعالى فيه.


وهناك حالة مرتبطة بهذا الموضوع تحتاج إلى تأمل وتحليل وهي حالة الاحتقان في مجتمعنا من بعض المسائل المعدودة من المسائل الفقهية، والمثير للاستغراب أن ذلك ليس في كل المسائل الفقهية، والمحاولات التفسيرية لهذه الحالة كثيرة، فالبعض يرى أن السبب أحادية الرأي، أو عدم معرفة آداب الخلاف، بينما التفسير الأقرب أن هذه المسائل جاءت في سياقات معينة أوجبت التعامل معها وفق سياقها، ويدل لذلك عدم التعامل مع نظائرها التي لم يتم توظيفها لغايات فكرية خرجت بها عن كونها مسائل جزئية إلى رؤى فكرية أصولية شاملة.


ولا يكاد توجد مسألة من المسائل الفقهية التي حاول التغريبيون توظيفها إلا وهي معدودة عند العلماء من المسائل الشاذة المخالفة للإجماع والنصوص الصريحة ومقاصد الشريعة والقواعد الكبرى، حتى لو قال بها بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي، ففي مرحلة ما بعد الاستعمار ظهر فقهاء ومفتون جاءوا بآراء غريبة ليس لهم فيها دليل واضح، ولا عالم مقتدى، مثل إباحة الربا، وشرعية القوانين الوضعية، وجواز الانضمام لجيش كافر يقاتل المسلمين بحجة الحاجة الوظيفية!!، وغيرها من الفتاوى الغريبة، خاصة ذات الارتباط بضغوط الواقع، والاستسلام له، والتعايش معه، وتبريره.

 

29 محرم 1432هـ

عبد الرحيم بن صمايل السلمي

عضو مركز الدعوة والإرشاد بجدة.