أخي أنت حر وراء السدود - (1) أخي أنت حُرٌ وراء السدود

منذ 2014-04-04

"أخي أنت حُرٌ وراء السدود" قصيدة كتبها الأستاذ سيد قطب رحمه الله في سجون الطاغية عبد الناصر، فعبَّرت عمَّا بداخله من يقينٍ بالله، وثقة بوعده، وتمسُّك بمنهاجه وشريعته، وتطُّلع إلى الغاية العظمى رضوان الله وجنَّته...

بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه...

وبعد؛

"أخي أنت حُرٌ وراء السدود" كلمات عبَّرت عن صاحبها... ذلك الرجل الذي لم يكن خطيبًا مُفوَّهًا تسأل عنه المنابر وتفتقِده ساحات الجهاد ومواطن مقاومة الطواغيت! وإنما كان رجلًا صادِقًا -نحسبه والله حسيبه- برَّهن على كلماته بُرهانًا عمليًا؛ فحمل همَّ الدين، ورفع راية الشريعة جاعلًا الدفاع عنها هدفًا وحيدًا يناضل لأجله.

فعاش في ظلال القرآن يكتب نبضًا حيًّا ينبض به قلبه، وتَصدُقه دعوته، وتتحمَّل لأجله جوارحه... فدفع ثمن ذلك راضيًا محتسبًا واثقًا بربه، فلقي الله خاشعًا يأبى أن يحني جبهته لغير الله، فعاشت ذكراه ذكرى عذبة...

وبقيت دعوته تُؤتي أُكلها كل حينٍ بإذن ربِّها... تُنغِّص على أعداء الدين، وكارهي الشريعة، فيتزلّف بحربها منافق يرجو بها أمانًا من طاغوت، ويتعالَم عليها جاهل، ويتربَّص بها حقود، ويُحقّر من شأنها من حُرِمَ الإنصاف، فلم يشعر بنبضها، ولم ير أنوارها، لكنها بقيت عزيزة في قلوب المؤمنين الذين شاركوا صاحبها هَمَّه وتألَّموا لمِثل الذي تألَّم لأجله.

فنقَّوا ما بها من شوائبٍ بميزان الإنصاف بغير تعسُّف، والتمسوا لصاحبها العذر فيما زلَّ بميزان الشرع بغير تكلُّف، وحفِظوا له جهاده والتقطوا دررًا تناثرت في كلماته، وبقيت صلة المحبة والتقدير باقية له ولكل من جاهد في سبيل إعلاء دينه، ورفعة شريعة الله الغراء.

"أخي أنت حُرٌ وراء السدود" قصيدة كتبها الأستاذ سيد قطب رحمه الله في سجون الطاغية عبد الناصر، فعبَّرت عمَّا بداخله من يقينٍ بالله، وثقة بوعده، وتمسُّك بمنهاجه وشريعته، وتطُّلع إلى الغاية العظمى رضوان الله وجنَّته...

ولأنه عاش فى ظلال القرآن؛ فقد جاءت كلماته كأنما تُفسِّر للقارئ آيات الكتاب الذي عاش في ظِلاله، ولا عجب فـ"كل إناء ينضح بما فيه"...

ولقد لقيت هذه القصيدة قبولًا عند كثير من المسلمين، خاصةً من حمل مثل همّ صاحبها، فأردتُ أن أُلقِيَ الضوء عليها.. بما يسَّره الله بفضله...

فأبدأ مستعينًا بربي، راجيًا فضله... قال صاحب الظلال رحمه الله:

أخي أنت حُرٌ وراء السدود *** أخي أنت حُرٌ بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما *** فماذا يضيرك كيد العبيد

فالمؤمن عبدٌ لله وحده، ليس لهواه ولا لشهواته؛ لا يُذِلُّ نفسه لغير الله، ولا تُخفَض هامته إلا سجودًا لمولاه، لا يَعتمِد بقلبه على أحد سواه...

فتعِسَ! عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الكرسى، وعبد الفرج والشهوة... تعِسُوا جميعًا؛ فكلهم مقيَّدون بأغلالِ الذُّلِ إلى الأرض التي اثَّاقلوا إليها {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد من الآية:12].

أما المؤمن فتحرَّر من كل ذلك؛ يجاهد نفسه ليُحرِّرها من أسرِ شهواته، ليسير في طريقه إلى الله معتزًّا بربه، متوكلًا عليه، لا يضرّه أن كادته السموات والأرض ومن فيهن؛ بل هَمَّه إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضِيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة...

يكسِر أصنام العبودية لغير الله، ويُحطِّم ممالك طواغيت جعلوا شعار ممالكهم: {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى} [غافر من الآية:29]، وشعار قضائهم: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء من الآية:29]...

فلا يبالي أن يقول: {رَبّ السِّجْن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف من الآية:33]، بل يواجه ذلك بعِزَّة الواثق بربه {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء من الآية:62]...

وأما قيود الظالمين والطغاة؛ فيُقابِلها في الآخرة سلاسلًا وأغلالًا وسعيرًا، مُقرَّنين في الأصفاد يَكفُر بعضهم ببعض ويَلعن بعضهم بعضًا.. أما في الدنيا فقيودهم أهون عند المؤمن وأحقر من قيود النفس والهوى والشهوة والدنيا تلك القيود التي قيَّدت هؤلاء الطواغيت في الحقيقة فتعسًا لهم وأضلت أعمالهم..

أخي ستبيد جيوش الظلام *** ويُشرِق في الكون فجر جديد
فأطلق لروحك إشراقها *** ترى الفجر يرمقنا من بعيد

فـ {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة من الآية:257]، في {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور من الآية:40].

فجيوشهم جيوش الظلام، وأمرهم كله ظلام مهما ادَّعوا أنهم أهل التنوير والتحرير؛ بل هم أهل الرذيلة والفجور، وجيوشهم ما هي إلا جيوش الظلام، تحاول عبثًا أن تُطفئ نورًا لا طاقة لهم بإخفائه {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُور اللَّه بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّه إِلَّا أَنْ يُتِمّ نُوره وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].

وسعيهم فى ظلام ﻻ يقودهم إلا إلى هباء منثور {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال من الآية:36ِ]...

والمؤمن يزِن الأمور بميزانها الصحيح؛ وهو يرى الله العلي القدير، الملك الحق، لا راد لقضائه، ولا مُعقِّب لحكمه، وهو على ما يشاء قدير، يُدبِّر الأمر بحكمته، ويُحكِم الكون بعِزَّته وجلاله وكمال عِلمه ورحمته وعدله...

فلا تسقط ورقة إلا بإذنه، ولا تتحرَّك ذرة إلا بأمره، يُعِزُّ من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء، ويُؤتي الملك من يشاء، وينزِع الملك ممن يشاء، وكل شيء خلَقه بقدر..

والمؤمن يدرك ذلك؛ فيعلم حقارة الكافرين، والمنافقين والظالمين، والخونة، والمفسدين... يعلم أنهم أحقر من أن يملكوا لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، فكيف يخافهم وقد قال الملك الحق: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران من الآية:175].

وكيف يغتر بكثرة عددهم، وشدة بطشهم؛ وقد وعد من لا يُخلِف وعده سبحانه {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم من الآية:47]، فالنصر قادم لا محالة... ينتظر إشارة من الملك الحق في الوقت الذي يُقدِّره بحكمته، فله الحمد على تدبيره سبحانه.

فإن صفت الروح وتعلَّقت بربها؛ أشرق أمامها فجر الأمل، فبدَّد ظلام اليأس، وإشراقها يكون بصلتها بنور الوحي، فحينئذ ترى ما هو موجود وحجبته الغفلة!

أخي قد أصابك سهم ذليل *** وغدرا رماك ذراعٌ كليل
ستُبترُ يوما فصبر جميل *** ولم يَدْمَ بعدُ عرينُ الأسود

فسهام أعداء الله ذليلة مهما هملَجت بهم مراكبهم، وطقطقت بهم مواكبهم، فإن ذُلَّ الكفر والمعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه وذراعهم كليلة {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:18].

أما سهام المؤمنين فمُسَدَّدة مؤيَدة {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال من الآية:17]، وسهام دعائهم مجابة ممن {يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل من الآية:62].

وحسبهم الله من غدر الغادرين، وكيد الماكرين، فنِداء القرآن ينادي المؤمن {وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال من الآية:62]، ولا والله! ما كانت خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده حتى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]... أي حسبهم الله كذلك؛ فالأعداء يكيدون كيدًا، والله يكيد كيدًا، وهم يمكرون مكرًا كُبَّارَا، والله خير الماكرين يجعل عاقبة مكرهم عليهم {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر من الآية:43].

وما هو إلا الصبر الجميل، واليقين بموعود الله حتى تُبْتـَر يد الظالم، وينال المؤمنون إمامة حتمية {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].

أخي إنني اليوم صلب المِراس *** أدُك صخور الجبال الرواس
غدًا سأشيح بفأس الخلاص *** رؤوس الأفاعي إلى أن تبيد

فلا حول ولا قوة إلا بالله... والمؤمن يخرج من حول نفسه الضعيفة إلى حول الله وقوته، يتأيد بقوة من لا يُغلَب، ولا تكسِبه المِحن إلا صلابة.

فمواطن الخوف عند الناس والانكسار؛ هي مواطن القوة وزيادة الإيمان عند المؤمنين {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173-174].

فما هذه الصلابة إلا ثمرة الإيمان الذي فقده غيرهم فقالوا {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال من الآية:49]، فإذا جاء الخوف {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب من الآية:19]، وإذا رأوا علو الباطل وأهله قالوا {مَا وَعَدَنَا اللَّه وَرَسُوله إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب من الآية:12]...

أما أهل الإيمان فأبدًا وكلَّا، فما تزيدهم المِحَن إلا قوة وصلابة، ولقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في موطن الخوف حين حوصر هو وأصحابه وزُلِزِلوا زِلزالًا شديدًا فضرب صلى الله عليه وسلم بمعوله كدية -صخرة- استعصت عليهم في حفر الخندق ففلقها مُكبِّرًا قائلًا: «اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ... اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ... اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ...» (من حديثٍ رواه ابن حجر العسقلاني)...

فكأنها كانت رمزًا لكسر صخور جبال ظاهرها أنها رواسي، وحقيقتها أنها {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة من الآية:109]، ما أن تلاقي يقين المؤمن حتى تنهار إلى دركات السِّفال تحت قدم مؤمن يهتف: {هَذا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب من الآية:22]...

وللحديث بقية إن شاء الله!


 

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
 
المقال التالي
(2) فأي إيمانٍ يدعيه