إن إبراهيم كان أمة - (8) الأمر بذبح إسماعيل عليه السلام وفداؤه بالكبش

منذ 2014-04-04

وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}

بعد أن رزق الله سبحانه وتعالى نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام بولدٍ من هاجر هو إسماعيل عليه السلام، أحبه إبراهيم عليه السلام حبًا شديدًا وتعلق قلبه به.. فأراد الله سبحانه وتعالى أن يختبر نبيه إبراهيم عليه السلام فأمره أن يذبح ولده الوحيد وفلذة كبده إسماعيل بعد أن كبر.. وقد جاء هذا الأمر في رؤيا رآها إبراهيم عليه السلام في المنام: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102].. ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي.

 

فذهب إبراهيم عليه السلام لولده وأخبره بما أمره الله به، فما كان من هذا الولد الصالح ابن السيدة التي وكلَّت أمرها لله تعالى في السابق إلا أن يستجيب لوالده ولأمر الله تعالى بكل حب وطواعية صابرًا محتسبًا، مُرضيًا لربه، وبارًا بوالده؛ قائلاً: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].

 

وانظروا معي أحبائي الكرام إلى تمام العبودية وكمال الامتثال لأمر الله تعالى سواء من الأب الذي أُمِر أن يذبح ولده الوحيد الذي طالما تمناه وبعد أن رزقه الله به على كبر، ومن الابن الذي لم يتذمر ولم يرفض بل هانت عليه نفسه إرضاءً لله تعالى، وأخبر والده أنه مُوطن نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة اللّه تعالى، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة اللّه تعالى.

 

ولما استسلم إبراهيم وولده لأمر الله تعالى وفوضا أمرهما إليه.. ذهبا سويًا إلى مكانٍ بعيدٍ وخلع إسماعيل قميصه ليكفنه والده فيه، وأضجع إبراهيمُ ولدَه على وجهه لئلا ينظر إليه فيشفق عليه.. وفي هذه اللحظات التي تُسكَب فيها العبرات، وتُحتَبس من أجلها الأنفاس داخل الصدور، فلا ترى إلا المدامع في العيون، وضع إبراهيم عليه السلام السكين على رقبة ولده ليحزها، فسُلِبَت السكين حدها كما سُلِبت النار من قبل إحراقها.. وجاءت البشرى فنودي إبراهيم عليه السلام: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:104- 106].

 

يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (الداء والدواء): "ليس المراد من الابتلاء أن نُعذب، ولكنا نبتلي لنُهذب، وليس العجب من أمر الخليل بذبح ولده، وإنما العجب من مباشرة الذبح بيده، ولولا استغراق حب الأمر لما هان مثل هذا المأمور".

 

وإذا بكبشٍ عظيم أبيض اقرن قد بعثه الله تعالى فداءً لإسماعيل عليه السلام {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107]. وأصبح هذا اليوم يومُ عيدٍ للمسلمين وأصبح ذبح الأضحية نُسكًا يُتقَرب به إلى الله تعالى إكرامًا لذكرى إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام.

 

وقد يتبادر إلى الذهن سؤال وهو ما الحكمة من الأمر بذبح إسماعيل عليه السلام؟ ثم ما السبب في رفع هذا الأمر وفداء إسماعيل؟

 

لنستمع إذًا إلى كلام شيخنا ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (زاد المعاد) يقول: "لما سأل إبراهيم عليه السلام ربه الولد ووهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته. والله تعالى قد اتخذه خليلاً؛ والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها. فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل فأمره بذبح المحبوب. فلما أقدم على ذبحه وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد، خلُصَت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة فلم يبقَ في الذبح مصلحة إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس عليه فقد حصل المقصود فنُسِخ الأمر، وفُدِي الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرب.

 

ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار إنما حصل عند أول مولود ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الأمر بذبحه وهذا في غاية الظهور. وأيضا فإن سارة امرأة الخليل صلى الله عليه و سلم غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة فإنها كانت جارية، فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة فأمر الله سبحانه أن يُبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة لتبرد عن سارة حرارة الغيرة وهذا من رحمته تعالى ورأفته فكيف يأمره سبحانه بعد هذا أن يذبح ابنها ويدع ابن الجارية بحاله!!

 

هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وجبره لها فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟! بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها وتتبدل قسوة الغيرة رحمة ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتًا هذه وابنها منهم، وليري عباده جبره بعد الكسر ولطفه بعد الشدة وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة.

 

وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".

 

سدرة المُنتهى

المقال السابق
(7) إبراهيم وهاجر وولدهما إسماعيل عليهم السلام
المقال التالي
(9) ضيف إبراهيم، والبشرى بإسحاق