المخزون السياسي في الشريعة

منذ 2014-04-06

قام الإسلام بعمليات استصلاحية للنظم الفاسد في الجاهلية كنظام البيع ونظام الزواج وغيرهما وأتى بنظم بديلة عنها ومن المستبعد عقلا أن يقوم الإسلام بذلك ثم لا يقوم باستصلاح النظام السياسي ولا يقدم فيه بديلا يسعد الناس به

من المبادئ المستقرة لدى كل المسلمين: أن الله تعالى أكمل لهم الدين وأتم عليهم النعمة بحيث أنه لم يبق شيء يحتاجه المسلمون في الجانب التشريعي إلا وقد بُين لهم على أكمل وجه.

فالشريعة الإسلامية كاملة في جميع جوانبها وتامة في سائر أنظمتها فالكمال ضارب فيما يتعلق بالعبادات من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها ومتحقق فيما يتعلق بالمعاملات من البيع والشراء وأنواع العقود وحاصل فيما يتعلق بالأنكحة والمواريث وسائر المعاملات الاجتماعية.

والمجال السياسي من المجالات التي شملها الكمال والتمام في الشريعة الإسلامية؛ إذ هو ليس مختلفا في طبيعته عن سائر المجالات الحياتية الأخرى.

ومن المستبعد عقلا أن يتعهد الإسلام بالتشريع والتوجيه في مجالات البيع والشراء والربا والرهن والإشهاد وأحكام النكاح والطلاق وأحكام الذبح ونحوها ثم لا يشرع في المجال السياسي ولا يقدم رؤية شرعية تنضبط بها علاقات الناس فيما بينهم وتُحفظ بها حقوقهم.

والمراد بالكمال في الدين هو أن الإسلام وما تضمنه من نصوص ومبادئ كافٍ في هداية الأمة ووصولها إلى الرشد في عباداتها وعلاقتها بالله تعالى وفي معاملاتها وسياسيتها وأنظمتها في سائر عصورها، ويشرح الطاهر عاشور معنى الكمال في الشريعة فيقول: "إكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد التي لا يسع المسلمين جهلها، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحج بالقول والفعل، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي،كان بعد ذلك كله قد تم البيان المراد لله تعالى في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل من الآية:89] وقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل من الآية:44] بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة كافيا في هدي الأمة في عبادتها، ومعاملتها، وسياستها، في سائر عصورها، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها،فقد كان الدين وافيا في كل وقت بما يحتاجه المسلمون" (التحرير والتنوير [4/103]).

والمقتضى العقلي لثبوت الكمال في الدين هو أن الأمة إذا أعطت النصوص الشرعية حقها من النظر والبحث فإنها لن تحتاج إلى غيرها من الأمم في إقامة دينها ودنياها وستجد في المخزون الشرعي ما يحقق لها الكفاية في بناء النظم وحفظ الحقوق وضبط شؤون الحياة مما يتحقق بها الغنى التشريعي عن كل المنهاج والأنظمة المستوردة من الأمم الأخرى وها هو ابن القيم يشرح هذا المعنى فيقول: "وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها وهو مبنى على حرف واحد وهو عموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده وإنما حاجتهم إلى من يبلغهم عنه ما جاء به فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة إلى المرسَل إليهم وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه في أصول الدين وفروعه فرسالته كافية شافية عامة لا تحوج إلى سواها" (إعلام الموقعين 4[/375]).

وزيادة على ذلك فإنه لا يمكن لأمة من الأمم أن تصل إلى إحداث قوانين وأنظمة تشريعية تكون أفضل مما يمكن أن تُوصِلَ إليه نصوص الإسلام لو أعطيت حقها وهذه ضمانة شرعية بأن أمة الإسلام ستكون أعلى الأمم قدرا، وأنضجها سلوكا، وأحكمها نظاما وتشريعا، وأعلاها سياسة، وأن كل الأمم ستكون تابعة لها إن استثمرت المخزون الذي جاءت به الشريعة وهذا لا ينفي أن تتفوق بعض الأمم على أمة الإسلام إذا فرطت في استثمار المخزون الشرعي لديها.

وليس معنى التقرير السابق منع الأمة من الاستفادة من تجارب ومنجزات الأمم الأخرى وإنما معناه: أن استفادتها لا تكون عن احتياج وفقر في مرجعيتها وموروثها التشريعي ولا نضوب في مخزونها الديني وإنما يجيء الاحتياج ويصبح ضرورة واقعية حين تفرط الأمة في إعطاء النصوص الشرعية حقها وتفرط في دينها وتنصرف عن تحليل الموروث الشرعي والمعرفي التي تضمنته النصوص.

ضخامة المخزون السياسي الشرعي:

المادة السياسية في الإسلام مادة ضخمة ثرية بحيث إنها تستطيع أن تلبي حاجات الأمة الإسلامية على مر عصورها فقد اهتمت الشريعة اهتماما واسعا بالمجالات المرتبطة بحياة الناس ومعيشتهم وسعت إلى بناء الأحكام وتأسيس المبادئ التي تحقق لهم السعادة وتضبط لهم العلاقات المختلفة وقدمت في ذلك نصوصا كثيرة وقد توصل بعض علماء الإسلام إلى أن آيات الأحكام غير محصورة في عدد معين من القرآن وأن استنباط الحكم الشرعي خاضع لقوة القريحة وعمق التفكير ومنهم من حصرها في عدد معين وأوصلها إلى ثمان مئة آية وأما أحاديث الأحكام فقد أوصلها بعضهم إلى أربعة آلاف حديث من غير المكرر وبعضهم زاد على ذلك وبعض نقص عن هذا العدد.

وكذلك هو الحال في المجال السياسي فإن اهتمام الشريعة به لا يقل عن غيره من المجالات ولأجل هذا فإن مصادر الشريعة من نصوص القرآن والسنة -أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتصرفاته- احتوت على قدر كبير من النصوص المتضمنة للمبادئ والأحكام التشريعية التفصيلية وهي تمثل ثروة هامة يمكن من خلالها تقديم رؤية ناضجة يسعد بها الإنسان في حياته السياسية.

وقد قام الإسلام بعمليات استصلاحية للنظم الفاسد في الجاهلية كنظام البيع ونظام الزواج وغيرهما وأتى بنظم بديلة عنها ومن المستبعد عقلا أن يقوم الإسلام بذلك ثم لا يقوم باستصلاح النظام السياسي ولا يقدم فيه بديلا يسعد الناس به وهو نظام مماثل لتلك الأنظمة في الطبيعة والحكم فضلا عن أنه من أكثر الأنظمة فسادا في الجاهلية وأعمقها تأثيرا في حياة الناس.

تجربة الخلافة الراشدة:

ويزيد من ضخامة الموروث السياسي وحيويته ويوسع من مخزونه ويقوي من قدرته على مواجهة المتغيرات وتلبية المتطلبات: تجربة الخلافة الراشد فهذه التجربة داخلة في صميم الموروث السياسي الشرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أضفى عليها الشرعية وزكاها ووصفها بأنها خلافة نبوة وأمر بإتباعها وجعلها سنة متبعة فقد قال صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون» (المسند [18430])، وقال صلى الله عليه وسلم: «أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» (الترمذي [2600]).

فنحن مأمورون من قِبَلِ الشرع بإتباع السنن التي كان عليها الخلفاء الراشدون سواء كانت السنن السياسية أو العبادية المحضة وذلك أن لفظ السنة عام يشمل كل ما كانوا عليه وسياق النصوص يؤكد على أن المعنى الأولي للسنة فيها هي السنة السياسية؛ لأن سياقها جاء في معرض الأمر بطاعة ولي الأمر والنهي عن مخالفته.

فمرحلة الخلافة الراشد تعد صورة زاهية في العقل الجمعي الإسلامي ونموذجا ملهما للأجيال المتطلعة للرقي السياسي ووقودا مفيدا في استنهاض الهمم الراكدة وهو النموذج الأكثر دقة، والأجمل صورة، والأروع منظرا، والأبهى حلة، والأقوى جاذبية، والأشد بنيانا، والأنقى منبعا،  والأبلغ تأثيرا.

وتبرز قيمة تجربة الخلاقة الراشد بالنسبة لأجيال الأمة اللاحقة بأمرين اثنين:

الأول: أنها تجربة بشرية فهي تشترك مع عموم الأمة بأنه لم تكن صادرة من المعصوم صلى الله عليه وسلم وإنما هي نموذج قائم على التطبيق البشري للتشريعات السياسية الإسلامية وهذا الحال يقربها من أجيال الأمة ويفتح الباب لتشوف الأمة إلى الإصلاح السياسي ويجعل ذلك أمر قريبا ومطلبا ممكنا ويسد المنافذ السلبية التي تصور الحكم السياسي الإسلامي بأنه غير متاح للتجربة البشرية.

الثاني: إنها تجربة غزيرة التطبيقات فقد شهدت مرحلة الخلافة الراشدة مشاهد سياسية جديدة وتغيرات كبيرة في طبيعة المجتمعات الداخلة تحت نطاق الحكم السياسي وتنوعات واسعة في العلاقات بين طبقات تلك المجتمعات واختلافات ظاهرة في ثقافتهم وأديانهم وتصوراتهم وسلوكياتهم وتعددات كبيرة في عرقياتهم وبلدانهم.

وهذه الغزارة ساعدت على توسيع المادة السياسية في تلك التجربة وعلى استيعابها لكثير من الإشكاليات فإذا أراد الباحث المعاصر أن يتحقق من تلك الغزارة فإنه سيجد شاهد ذلك في كمية القضايا السياسية التي ثارت في ذلك الزمن وسيقف فيها على أجوبة وحلول لكثير من القضايا التي هي محل بحث ومثار جدل في عصرنا.

ومن أمثلة القضايا التي نجد لها حلا في تلك التجربة: طبيعة العلاقة بين الحكام والمحكوم، وتحديد الدوائر التي يسمح فيها للحاكم بالتحرك، ودور الأمة والشعب في الشأن السياسي، والموقف من التعددية السياسية والدينية، وحكم إنشاء الأحزاب والمجالس النيابية، والموقف من الترجيح بالأكثرية، وتحديد مفهوم المواطنة وضوابطها، وإيضاحا تاما لقضية الحقوق والأموال العامة، وغيرها من القضايا.

فإذا اجتمعت هذه المادة الغزيرة مع الموروث الشرعي المعصوم فستكَوِنُ مخزونا شرعيا وسياسيا ضخما تستطيع الأمة من خلالها أن تبني مشروعا سياسيا ناضجا يخرجها مما هي فيه من الانحطاط السياسي ويرتفع بها إلى مستويات عالية من الرقي.

 

أنواع الموروث السياسي:

ينقسم الموروث السياسي الذي تتناقله الأمة عن العهد النبوي والعهد الراشدي إلى قسمين:

القسم الأول: الموروث الذي يحمل الطابع التشريعي وهذا النوع يأخذ أوصاف الأحكام العبادية الأخرى كأحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج من حيث وجوب الالتزام به ولزوم الاستمساك بصفته وحدوده وضوابطه.

فالتشريع السياسي في الإسلام ليس مجرد قضايا كلية فقط كالأمر بالعدل والمساواة والشورى وإنما يتضمن قضايا تفصيلية تتعلق ببعض شؤون السياسية ومتعلقاتها الجزئية.

وهذا الأمر ليس غريبا في التشريع فقد الشريعة جاءت في باب المعاملات بأصول كلية ومقاصد عامة تضبط الجزئيات الداخلة في نطاقها كالنهي عن الجهالة والغرر والربا ومع ذلك فقد جاءت بأحكام تفصيلية ملزمة تتحقق بها تلك المقاصد وتزيد من تأكيدها كالحال في شروط البيع وأنواع المبيعات وضوابط الإقراض والعقود ونحوها.

وكذلك هو الحال في المجال السياسي فهو لا يختلف عن غيره من المجالات الحياتية فالمادة التشريعية فيه ليست كلية فقط تشترك فيها كل المجتمعات وإنما فيها قدر كبير من المواد التفصيلية الملزمة.

ومما يدل على ذلك: أن مبدأ الحرية ليس مطلقا في الإسلام كما هو الحال في كل الأنظمة الأخرى وإنما هو مقيد بقيود تفصيلية تتوافق مع أصول الإسلام وأحكامه وقد حددت النصوص الشرعية تلك القيود وهذا نوع من التشريع التفصيلي الملزم في المجال السياسي.

وكذلك هو الحال في مبدأ المساواة فإن هذا المبدأ ليس مطلقا وإنما لا بد فيه من اعتبار الضوابط التي دلت عليها نصوص الشريعة ومقاصدها وهذا نوع من التشريع التفصيلي.

بل إن طبيعة العقد الذي بين الحاكم والمحكومين يأخذ في بعض تفاصيله الطابع التشريعي؛ لأنه عقد وكالة وهو من العقود التي جاءت الشريعة فيه بأحكام تفصيلية ملزمة.

وكذلك بينت الشريعة الأحكام التفصيلية المتعلقة بحكم الجمعة والجماعات والجهاد مع الحكام وضوابط الطاعة له والخروج عليه.

وقد ضيف بعض الإسلاميين دائرة الجانب التشريعي في المجال السياسي وتوصل إلى أن الإسلام لم يأت فيه إلا بأصول كلية ومبادئ عامة فقط كالأمر بالعدل والمساواة والحرية والشورى.

ونحن إذا رجعنا إلى الموروث السياسي في الشريعة نجد أنه احتوى على مادة تشريعية تفصيلية كبيرة تساعد على انتظام المجال السياسي مع الأنظمة الأخرى التي جاءت بها الشريعة فهي لم تترك كل ضوابط الحرية لتجارب الناس يقيدونها كيف شاؤوا على حسب تجاربهم وإنما أقامت ضوابط عديدة تجعل الحرية المتاحة منسجمة مع المجالات الأخرى ومتوافقة معها.

القسم الثاني: الموروث الذي يحمل الطابع الإجرائي وهو عبارة عن الأمور التي دخلت في الخطاب السياسي لأجل مصلحة تنفيذ الحكم الشرعي وانضباطه لا لأجل الإلزام به فهي أمور لم يرع فيها الجانب التشريعي وإنما روعي فيه الجانب التنفيذي.

ويدخل في هذا النوع القضايا المتعلقة بالشكل التطبيقي للدولة والآليات التنفيذية والتراتيب والوسائل التي تتحقق بواسطتها الأحكام التشريعية والمقاصد الكلية.

فشكل الدولة وآليات التنفيذ فيها ليست أمورا توقيفية ملزمة وإنما هي مصالح مرسلة راجعة إلى مراعاة الموارنة بين المصالح والمفاسد وهي أمور متروكة لقدرات الأمة ومهاراتها على التطوير والتجديد والبحث على المناسب والمفيد.

وليس معنى هذا إغلاق باب الاستفادة من الأمور الإجرائية التي كانت في العهد النبوي والراشدي وإنما غاية ما يدل عليه كشف طبيعته وبيان منزلته فقط.

وعدم التمييز بين هذين النوعين التشريعي والإجرائي يعد أحد أهم الأسباب التي أدت إلى كثير من الالتباس والاضطراب في تحرير الخطاب السياسي في الإسلام وأضحت كثير من القضايا مثار جدل ومحل اختلاف نتيجة تلك الرؤية الملتبسة التي لم تستطع أن تميز بين طبيعة الأنواع الداخلة في الموروث السياسي وهذه الإشكالية كان لها حضور مؤثر منذ زمن بعيد في الفكر الإسلامي وقد ذكر ابن القيم طرفا من الخلاف فيها ثم وصفها بوصف بليغ يكشف عن مدى خطورتها وأثرها فقال: "وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام وهو مقام ضنك ومعترك صعب" (الطرق الحكمية [13]).

ويتطلب الإنقاذ السياسي قدرا كبيرا من إدراك الفوارق المؤثرة بين النوعين التشريعي والإجرائي ومهارة فائقة في الموازنة بينها والبلوغ إلى هذا التمييز يعد أحد المرتكزات الأساسية للوصول إلى النموذج السياسي الملهم ومتى ما بقيت الصورة في حالة الالتباس فإنه ستتحول بعض القضايا التشريعية إلى أمور مصلحية غير لازمة وتغدو بعض القضايا الإجرائية المصلحية أمورا تشريعية ملزمة وهنا يقع الخلط والاختلاط والتضارب في الرؤية الإسلامية السياسية.

المكتسبات الرفيعة:

الانطلاق في الإنقاذ السياسي للعالم العربي والإسلامي من المخزون السياسي الشرعي يحقق مكاسب عالية الجودة ورفيعة المستوى وبالغة القدر وعميقة التأثير والمكاسب التي يمكن استخلاصها متعددة الفروع ولكنها ترجع إلى ثلاثة مكاسب رئيسة.

المكتسب الأول: الظفر بالقوة الدافعة: تحتاج المشاريع التي تقصد إلى التغيير الجذري في البنى المجتمعية إلى مادة روحية عالية التأثير وقوية الإشعاع حتى تتمكن من أداء وظيفتها على المستوى المطلوب ومتى ما فقدت تلك المشاريع المادة الروحية فإنها ستتحول إلى قوالب جامدة قليلة التأثير أو عديمته وقد شهد التاريخ نماذج تؤكد هذه النتيجة فإن أنظمة الشيوعية لم تتجذر في المجتمع؛ لأنها ألغت كل القوى الروحية الدافعة للعمل والداعية للاقتناع بالتنظيمات فكان مصيرها الفشل الذريع.

والحالة في هذا الارتباط حالة طردية، فكلما ازدادت المادة الروحية جمالا وقوة وعلوا وحيوية ازداد تأثيرها وفعاليتها في النفوس ودفعتها إلى العمل والامتثال للقيم والمبادئ.

وهنا تبرز خاصية الإسلام في صياغة أنظمته المجتمعية فهو لم يقدمها جافة فارغة وإنما شبعها بالروح الدينية الدافعة التي تحقق القناعات الذاتية لدى أفراد المجتمع وتسيره نحو امتثال قوانينها وتشريعاتها بقوة داخلية لا خارجية. جاء الإسلام بتلك الروح التي تحمل كينونة خاصة تخاطب الوجدان الإنساني وتمتاز بالحيوية والنشاط والإيحاء بالحقائق الكبرى وتخاطب الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذها.

إن المنطلق الديني الذي يختزنه الموروث الشرعي السياسي هو المنطلق الذي قلب أحوال العرب في الجاهلية وانتزع منهم رواسب الظلم والجهل والبغي والاستبداد وحولهم إلى نماذج مختلفة في تصوراتها وسلوكها وعلاقاتها.

إن الروح التي استطاعت فعل ذلك تستطيع أن تؤثر في المجال السياسي لدينا فتخرج لنا النموذج الملهم.. النموذج الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

فالقوة في المخزون السياسي ليست منحصرة في الجانب المعرفي والقيمي فقط بل تتعدى ذلك إلى الجانب الروحي فهو يمتلك طاقة روحية عالية تسيطر على القلوب والأرواح وتدفعها نحو الامتثال والإصلاح وتدعوا الأمة إلى أن تقول كلمة الحق وتنصح للحاكم وتحاسبه وتقومه إذا اعوج ولا تخاف في الله لومة لائم. فالانطلاق من عدل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين أبلغ في التأثير في نفوس الناس من الانطلاق من النظام الديمقراطي والابتداء من حفظ النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين للأموال العامة أعمق في الأثر من الابتداء من النظام الديمقراطي.

إن إبراز هذه النماذج العالية في الموروث الشرعي يحقق الضمانات القوية في المحافظة على الحقوق والأموال العامة لما يمتلكه من القوة الروحية مما لا يوجد في غيره من الأنظمة.

وقد أثار عدد من المفكرين العرب سؤالا عن مقدار الضمانات التي يمتلكها النظام الديمقراطي للمحافظة على مقدرات الشعوب وعلى امتثال العدل في الممارسات الفعلية وتوصل د/ راشد الغنوشي إلى أن المبادئ الديمقراطية لم تستطع "كبح جماح الفئات القوية الضاغطة عن التحكم والإفساد وتسخير السلطة لإفراغ جملة الضمانات التي قدمتها الديمقراطية من محتوياتها" (الحريات العامة [2/10]).

وأكد على أن النماذج الغربية للديمقراطية تمارس استبدادا ناعما وفداحة كبيرة في النهب المنظم لأموال الناس وقال: "رغم أهمية الآليات الديمقراطية ومبادئها فإنها لئن وضعت حدا لكثير من ضروب العنف السافرة كالتي كانت عليها الأنظمة الديكتاتورية فإنها لم تضع حدا بل لم تخفف إن لم تكن فاقمت من ضروب العنف الخفية" (السابق [2/11]).

وكل هذا يؤكد لنا خطورة الفراغ الروحي الذي يعاني منه النظام الديمقراطي ويؤكد أهمية البعد الديني والروحي الذي تشبع به المخرون السياسي في الشريعة وضرورة استحضاره في الإصلاح.

ومتى ما ابتعدنا عن الخطاب الشرعي المشبع بالروح الدينية وذهبنا نعتمد على الأنظمة الفارغة من تلك الروح وغدونا نظهر للناس ونبشرهم بأنظمة مفتقرة إلى تأسيس شرعي في أصلها ومحتاجة إلى الامتداد التاريخي الديني نكون في الحقيقة قد تخلينا عن نقطة القوة في الإصلاح السياسي ومنبع الاقتداء وشرط النجاح.

إننا بحاجة ملحة في هذا العصر الذي شُوه فيه الخطاب السياسي في الإسلام وغيبت فيه كثير من معالمه وصوره وأقيمت في طريق الوصول إليه عقبات وعقبات نحن في حاجة أن نعود إلى الروح الدافعة التي بثها النبي صلى الله عليه وسلم في الوجود ونسعى إلى التشبع منها وبثها في الواقع مرة أخرى.

المكتسب الثاني: الوقوف على النموذج الملهم: إن التوجه نحو المخزون السياسي الشرعي سواء النبوي منه أو الراشدي والحرص على استيعابه وجمع كل مفرداته وتطبيقاتها المشرقة وإعمال النظر في نصوصه والبحث في كنوزه والتنقيب عن أصوله سيوصل إلى النموذج الصافي من كل ما يكدر صفوه.

وبذلك تتحقق الركيزة الأولى من الركائز التي يقوم عليها الإصلاح السياسي في المجتمع المسلم فكما أن التجديد في مجالات البيع والشراء والمعاملات لا يبدأ من الاعتماد على النماذج الخارجية وإنما يتطلب أولا إبراز النموذج التشريعي الكامل وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم تحاكم إليه النماذج والتجارب الأخرى ليحصل بينها التلاحق والتبادل، فكذلك الحال في المجال السياسي فإن الخطوة الأولى في مشروع تجديده وإنقاذه لا تكون بالانطلاق من النموذج الديمقراطي أو غيره وإنما تبتدئ أولا من إبراز النموذج السياسي الذي قدمته الإسلام وتحديد معالمه ومبادئه وتفصيلاته التشريعية والإجرائية ثم بعد ذلك يتم التوجه نحو تجارب الأمم الأخرى ليحصل بينها وبين ما قدمته الشريعة من تلاحق وتبادل.

والوصول إلى النموذج الملهم يحقق لنا من جهة أخرى الشروط التي يجب توفرها في المشاريع المتعلقة بمصير الأمة فإن هذا النوع من المشاريع يجب أن يكون متصفا بوضوح المنطلق وسلامة المأخذ وقوة الأدلة وانضباط المصطلحات ووضوح المقدمات وجلاء المآلات لأنها لا تقبل أنصاف الحلول ولا الضبابية ولا الإجمال؛ إذ هي متعلقة بمصير الأمة ومن أكبر من يحق لنا تلك الشروط:

هو أن نقف على النموذج البنوي والراشدي في المجال السياسي بصورته الحقيقية وبإدراك ناضج واعٍ مستوعب لحدوده ومعالمه وضوابطه.

وفائدة أخرى نكتسبها من الوقوف على النموذج الكامل وهي إبراز النموذج العادل الذي أسعد الناس وحافظ على حقوقهم من أقوى ما يكشف زيف الأنظمة المستبدة الظالمة, ومن أصلب ما يرفع الستر عن خوائها الداخلي ويقلل من مشروعيتها فتلك النماذج الكاملة تمثل كابوسا مخيفا للمستبدين وغصة في حلوقهم وشهادة تاريخية على إفلاسهم وقد ذكر ابن كثير في تاريخه أن الحجاج وسيده عبدالملك بن مروان كانا ينهيان عن ذكر سيرة عمر بن الخطاب ويقولان:" إنها مرارة للأمراء ومفسدة للرعية" (البداية [9/66]).

وهذا الحال يدعونا على مراجعة صادقة لمنطلقاتنا الإصلاحية السياسية وغيرها, ويدفعنا إلى الإلحاح بالسؤال: هل من الأفضل أن تعلق الأمة بالنماذج الكاملة التي تمثل البعد الشرعي وتحقق الامتداد التاريخي لها, أم تعلقها بالنموذج الديمقراطي الذي يعاني من انفصام نكد بين النظرية والتطبيق ويتألم من تشويهات تطبيقية عديدة على أكثر من صعيد وفي أكثر من بلد.

المكتسب الثالث: تحقيق التوازن الإصلاحي: الانطلاق من المادة السياسية في الإسلام تعد ضمانة من أقوى الضمانات لإدراك التوازن في العملية الإصلاحية فالذهنية المنطلقة من ذلك الموروث تكون عادة متوجهة نحو الشمول والاستيعاب وسالمة من الاختزال والضيق في المجال الإصلاحي لأن الإسلام عقد ترابطا شديدا ومعقدا بين أنظمته فكل مجال منها متداخل مع غيره تداخلا كبيرا ومنسجما معه انسجاما عاليا بحيث تُكَوِّن في النهاية لحمة واحدة تمثل التصور الإسلامي للكون والحياة.

وقد ألمح عبدالوهاب خلاف إلى هذا التداخل حين قال: "العقيدة لها أثرها في إحسان العبادة والعقيدة والعبادة لهما أثرهما في تكوين الأخلاق والأخلاق لها أثرها في حراسة التشريع والتشريع له أثره في حماية الدولة ورفعتها والدولة لها دورها في الحفاظ على العقائد والعبادات والأخلاق والتشريعات فكل هذه الأمور يؤثر بعضها في بعض ولا يستغني بعضها عن بعض فلا بد من العناية بها جميعا إذا أردنا أن نقيم حياة متكاملة متوازنة كما أمر الله" (علم أصول الفقه [37]).

وهذا الكلام يؤكد على أن عربة الإصلاح لا تسير على عجلة واحد وإنما لا بد فيها من عجلات متعددة حتى يمكنها أن تسير باتزان وفي طريق مستقيم وتحقيق الاتزان وإقامة ذلك الترابط الذي يقيم الحياة كما أمر الله يقوم أول ما يقوم على إدراك الموروث الشرعي والانطلاق منه في مسيرة الإصلاح.

ولا نعني بالتوازن الإصلاحي هنا: إلغاء التخصص في مجال من المجالات ولا نعني به أيضا المنع من كثرة الاهتمام به دون غيره ولا نعني به المطالبة بالمساواة بين كل المجالات في كل الأحوال في الدعوة والاهتمام كل هذه المعاني غير مقصودة وإنما نعني به إعطاء كل مجال ما يتطلبه من إصلاح مع عدم التحقير والتقليل بالقول أو بالممارسة من الجمالات الأخرى.

ومتى ما افتقد المشروع الإصلاحي التوازن فإنه يظل في حالة من السلبية والعدمية وهذا ما وقع فيه الفكر العربي المعاصر فلو قمنا بعملية تحليلية للمشاريع الإصلاحية التي قدمت في الفكر العربي المعاصر فإنا نجدها تعاني من الاختزال الشديد في تصور فكرة الإصلاح نتيجة افتقادها للتوازن المنضبط فبعض تلك المشاريع تصور أن الإنقاذ الحقيقي يكون بالإصلاح الثقافي والفكري دون غيره, وبعضها يتصور أن الإنقاذ الحقيقي يكون بالإصلاح السياسي دون غيره,

وبعضها يحدد مجالات أخرى مختلفة وبقليل من سعة الأفق والهدوء في المعالجة يتبين لنا أن الركيزة الأولى في الإصلاح هي في التوازن بين كل تلك المجالات وإعطاء كل مجال ما يستحقه من جهد وبحث وتأصيل.

الخطوات العملية لاستثمار المخزون السياسي:

تضمن الموروث السياسي في الشريعة إشارة هامة إلى العودة الحميدة للنظام السياسي الرشيد ووعدا صادقا به فقد قال صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» (المسند [18430]).

فهذا الخبر يفتح الآمال أمام الأمة لتسعد بجمال الأنظمة الإسلامية ولكن من المستحيل عقلا أن ترجع الخلافة الراشدة بنفسها من غير جهد أو عناء ومن المستبعد عقلا أن تقوم خلافة النبوة في الواقع مع جهل الناس بها وبمعالمها وبتفاصيلها وبقلة وعي الناس بها.

وهذا كله يستدعي من الأمة حرصا شديدا على معرفة معالم الخطاب السياسي في الإسلام وتحديدا واضحا لمبادئه وأقسامه ومحتوياته واهتماما واسعا بمفرداته وملامحه وغوصا عميقا في بحار واستخراج كنوره.

وأحسب أن استثمار الخطاب السياسي في الشريعة يقوم على ثلاث خطوات:

الخطوة الأولى: الجمع والتصنيف: ما زال المخزون السياسي مبعثرا في المصادر الإسلامية ولم يحظ بمشروع يجمع شتاته ويؤلف بين متفرقه فهو مبعثر في القرآن وكتب السنة من الصحاح والسنن والمسانيد والمصنفات وكتب الحديث الأخرى وكذلك هو مفرق في كتب التاريخ والتراجم فهو يحتاج إلى قدر كبير من البحث والتنقيب ليجمع في مكان واحد كما فعل الفقهاء في نصوص الأحكام ويتبع ذلك القيام بتمييز الصحيح من الضعيف منها ثم يعقب ذلك تبويبها وتقيمها على الأبواب والمسائل.

والمتابع للكتب المؤلفة في فقه السياسة يجد عزوفا ظاهرا عن الاستناد إلى المخزون الشرعي في السياسة واعتمادا كبيرا على الاجتهاد والتخريج والاستنباط الشخصي وقد قام الدكتور/ حاكم المطيري بعملية استقرائية استطاع من خلالها الكشف عن قدر كبير من ضخامة الموروث السياسي في الشريعة ولو قمنا بالمقارنة بين ما جمعه وبين ما في كتب فقه السياسة سواء المتقدمة منها ككتاب المارودي وأبي يعلى أو المتأخرة والمعاصرة فإن سنجد بينها فارقا شاسعا في كمية المخزون السياسية التي تم استحضاره واستثماره في بناء التصورات السياسية وهذا الحال يكشف لنا أحد الإشكاليات المنهجية في تلك المؤلفات.

 

الخطوة الثانية: الدراسة والتحليل: لا يكفي في استجلاء الصورة الحقيقية للخطاب السياسي في الإسلام مجرد جمع المادة السياسية فيه فقط بل تحتاج مع ذلك إلى دراسات علمية معمقة تعتمد على مهارات التحليل المنهجي البليغة وتستند إلى آليات البحث الفقهي المتقن حتى يمكننا التوصل إلى حقيقة ما كان عليه الخطاب السياسي في المرحلة الكاملة ويمكننا التمييز بوضوح بين الجانب التشريعي منه والجانب الإجرائي ويمكننا أيضا تحديد الضوابط التشريعية بشكل واضح وجلي.

ومما يساعد على إنجاز تلك الدراسة المعمقة للمخزون السياسي: التخلص من الخطاب الفردي والتوجه نحو الرؤية الجماعية فمن المهم أن يتحول البحث السياسي ليكون بحثا مؤسسيا يحمل رؤية جماعية وذلك عن طريق عقد الندوات وإقامة المؤتمرات وحلقات النقاش وتبني المراكز البحثية لهذا الموضوع فقد غدت المنهجية الجماعية ضرورة واقعية نتيجة تعقد الواقع وتشابك القضايا السياسية في واقعنا المعاصر وازدياد ترابطها وتداخلها مما يستدعي ضرورة التخلص من الرؤية الفردية والانتقال إلى الرؤية الجماعية.

 

الخطوة الثالثة: الدعوة والتوعية: تحتاج المشاريع التي تقصد إلى التغيير الجذري إلى قدر كبير من الدعوة الجماهيرية وتتطلب جرعة عالية من تنمية حس الوعي الحقوقي بها وبأهميتها وفائدتها فلا يكفي في الإصلاح السياسي أن يكون هما خاصا بالنخبة أو فكرا محدودا في الدائرة المثقفة وإنما لا بد أن ينتقل إلى الجماهير ليكون رأيا عاما وهما مشتركا بين كل الفئات.

والمخزون السياسي في الإسلام يمتلك قوة عالية من التأثير ورؤية واضحة توصل إلى درجة عالية من الوعي الحقوقي يمكن من خلالها تكوين القوة الضاغطة على الواقع لتغييره وتبديله.

وفي ختام هذه الجولة في المخزون السياسي وبعد اكتشاف ضخامته وأهميته وجودة مكتسباته يبدو أن سؤالا ملحا غدا يلوح في الأفق وهو: من المسئول عن تغييب المخزون السياسي الشرعي وعن خفوت أثره في الواقع المعاصر؟!

المصدر: الدرر السنية

سلطان بن عبد الرحمن العميري

( جامعة أم القرى - قسم العقيدة )