الإسلام والمسؤولية الفردية في إطار العمل الجماعي

منذ 2014-04-07

إن طبيعة الإسلام تفرض على معتنقيه، أفرادًا كانوا أو جماعات أو هيئات ومؤسسات، قدرًا معينا من الالتزام الأخلاقي والأدبي والمادي تجاه بعضهم بعضًا، فلا تستقيم وتيرة الحياة إلا بتوافر هذا القدر، الذي هو بالنسبة إلى المجتمع من الضرورات بمكان كبير..

في ترتيبات المنطق الإيماني للحساب أن الإنسان وإن كان سيبعث وحده {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95]، وسيسأل وحده عما سعى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، وسيتحمل وحده تبعات ما اكتسب {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:15]، لكن هذا الإنسان لا يمكن أن يحيا وحده على أي حال، فهو لم يزل محتاجًا إلى غيره، بل ومضطرًا إلى التفاعل مع الآخرين، سلبًا وإيجابًا، أخذًا وعطاء، إشارة واستشارة، نفعًا وانتفاعًا، إعانة واستعانة، إغاثة واستغاثة، ذلك لأن المكون الاجتماعي للظاهرة الإنسية إنما يفرز نوعا من (الحراك والدينامية البشرية بين الذات والعالم، وهو ما يفيد بأن تكريم الله للإنسان باستخلافه في الأرض لم يكن مبعثه إلا لتحمله مسؤولية نفسه وغيره" (1)، ومن ثم، فإنه: "لا يمكن للإنسان أن يعيش وحده كما يعيش الوحش، فلا بد له أن يعيش مع الناس؛ ليعرف بعضهم مراد بعض فيحصل التعاون" (2)، وذلك لأن: "الإنسان مطبوع على الافتقار إلى جنسه، واستعانته صفة لازمة لطبعة وخلقة قائمتين في جوهره" (3).

ثم إن المسؤولية الإيمانية في مستوى تالٍ من مستويات التفاعل البشري، تقتضي أن يتقلد كل إنسان في عنقه قدرًا معتبرًا من الالتزام الأخلاقي والأدبي تجاه الأفراد الآخرين، وتجاه المجتمع الذي يعيش فيه، والحكومة والدولة والأمة التي ينتمي إليها، إذ إن "الهوية الفردية لا تكتمل إلا بالاندماج في وعي جماعي، حينئذ يشعر الإنسان بقيمته كفرد مجرد، وقيمته كفرد في جماعة أو مجتمع، لأن فلسفة الحياة تكمن في أن ينظر الإنسان لغيره كما ينظر لنفسه، واعتبار ذلك من صميم الإيمان" (4)، وهنا ينبغي أن نشير إلى أن مجرد الإيمان بالله تعالى إنما يعزز التواضع، ولين الجانب، وخفض الجناح، وبسط الوجه، وسخاء النفس، وجود الطبع لدى الإنسان، وهو يجعله ميالا بدوافعه الإيمانية إلى الناس، راغبًا فيهم، مقبلاً عليهم، مؤثرًا مخالطتهم ومشاركتهم حياتهم، أفراحهم وأتراحهم، همومهم وقضاياهم، وهو ما يحقق التوازن في نفسية الإنسان وشخصيته بين كونه فردًا له حظوظه وحقوقه.. وبين موقعه الاجتماعي على خريطة الاستخلاف باعتباره لبنة في بناء مجتمعي لا يستغنى عنه بأية حال من الأحوال.

الالتزام الأخلاقي:
وإن طبيعة الإسلام تفرض على معتنقيه، أفرادًا كانوا أو جماعات أو هيئات ومؤسسات، قدرًا معينا من الالتزام الأخلاقي والأدبي والمادي تجاه بعضهم بعضًا، فلا تستقيم وتيرة الحياة إلا بتوافر هذا القدر، الذي هو بالنسبة إلى المجتمع من الضرورات بمكان كبير، والشواهد على ذلك كثيرة، وهي في مجملها تمثل خلفية ثقافية وأخلاقية تعزز وازع المسؤولية الأخلاقية وثقافة المشاركة الوجدانية والاجتماعية، والسياسية والاقتصادية على مختلف مستويات التمثيل الاجتماعي للأمة، ونعني هنا بالمشاركة الوجدانية أن يكون المؤمنون في حالة من التعاطف، والانسجام الوجداني، وكأنهم مشتركون في وجدان واحد، فاذا تألم واحد منهم تألم الآخرون، واذا فرح فرح له الآخرون، وهكذا في الحزن والهم والسرور، وفي المشاركة الوجدانية: "لا يفقد الفرد المؤمن شخصيته الفردية ضمن المجموع المركب من المؤمنين، وانما يوسع من دائرة روحه الاجتماعية وارتباطه النفسي بإخوته في الله تعالى، وفي القوم، وفي الوطن، وفي الإنسانية" (5).

فعلى مستوى المسؤولية الفردية، يأتي الوحي معززًا وازع تلك المسؤولية، أقوالاً وأفعالاً وأخلاقًا.. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم مؤكدًا الالتزام الفردي في سياق المشاركة الاجتماعية الوجدانية: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه" (6).

روح المسؤولية:
وفي سياق تحقيق المواساة الاجتماعية يركز الإسلام على المبادرات الفردية، فيقول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه، أو قال: لجاره، ما يحب لنفسه» (7)، ويقول: «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع» (8)، أي لا يكون إيمانه كاملاً من يبيت شبعان وهو يعلم بجوع جاره وحاجته، وكان صلى الله عليه وسلم يمتدح الأشعريين لكونهم متواسين فيما بينهم فقال: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم» (9).

ثم تتجلى روح المسؤولية الفردية عن تعزيز المسار الصحيح للنشاط الاقتصادي للمجتمع والدولة فيما رواه الحاكم في المستدرك عن اليسع بن المغيرة، قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل بالسوق يبيع طعامًا بسعر هو أرخص من سعر السوق، فقال: «تبيع في سوقنا بسعر هو أرخص من سعرنا؟» قال: نعم. قال: «صبرًا واحتسابًا؟» قال: نعم. قال: «أبشر، فإن الجالب إلى سوقنا، كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا، كالملحد في كتاب الله»" (10).

وعلى مستوى الأمن القومي، فإن المسؤولية الفردية عن تأمين المصالح العليا للبلاد إنما تتعاظم في أزمنة تفشي الظلم والجور، وظهور الفساد وانعدام الأمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، حيث تضحى الأمة مغلوبة على أمرها، ويبقى التعويل على أهل المروءات والنخوة فيها {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116]، ولعل التأكيد على أن استشعار المسؤولية الفردية عن التغيير الاجتماعي، والتحرير الوطني الاجتماعي والتعمير المدني من شأنه أن يعزز بواعث المشاركة الإيجابية في النفس البشرية، ويقوي وازع المبادرة إلى الحركة والتفاعل المثمر البناء "فليس لمسلم أن يعتزل الحياة والناس، ويقول: نفسي نفسي! ويدع نار الفساد تلتهم الأخضر واليابس من حوله، فإن هذه النار إذا تركت وشأنها لم تلبث أن تحرقه هو، وتحرق كل ما يحرص عليه" (11)، ولهذا يقول تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25].

الوظائف الاجتماعية:
إن هذا ليعني أن مجرد التستر على الجرائم وعدم الأخذ على يد المجرمين أو التساهل معهم، والإغضاء عنهم من شأنه أن يجلب على المجتمع النقمة وأن يوقعه تحت طائلة الهلاك، قال صلى الله عليه وسلم: «فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (12)، وإن المتأمل في الوظائف الاجتماعية للشعائر العبادية، يجد أنها على الرغم من كونها تعكس مدى استجابة الإنسان لأمر ربه، بيد أنها تنطوي على مضامين فردية اجتماعية من شأنها تعزيز سبل ارتباط الفرد بروح التعاون الإحساني الخلاق مع الآخرين ورعاية حرماتهم، والتصدق عليهم وخدمتهم، وتقديم العون والمساعدة كلما اقتضت حاجتهم ذلك، رعاية لحق الله المعبود وابتغاء مرضاته!

- فالصلاة مثلاً وإن كانت حالة يعيشها الإنسان بين يدي ربه، لكنها في كل الأحوال تربط هذا الإنسان بصف وجماعة يصلون ويتواصلون خمس مرات في اليوم الواحد، ومحال ألا ينبني هذا التواصل على أساس مسؤولية هؤلاء الأفراد عن تفقد أحوال بعضهم بعضًا، وتعاهد مصالح بعضهم بعضًا وتخولهم بالرعاية والتكافل الأدبي والمادي، فالصلاة كعمل مشترك يعكس نوعًا من المسؤولية الاجتماعية المشتركة، والالتزام المتبادل بين الناس وتعاهد الناس بعضهم بعضًا.

- والملكية الفردية في المعاملات "تقتضي من الفرد التزامًا ماديًا باستعمال ما يحوزه من مال في المحافظة على التضامن الاجتماعي وفي تنميته، فعلى كل فرد التزام بأن يقوم في المجتمع بأداء وظيفة معينة مستمدة مباشرة من المكان الذي يحتله، فليس ثمة قانون إنساني يحمي حقًا مزعومًا للمالك، إنما يضمن حرية هذا المالك في أداء ما يقع عليه من وظيفة اجتماعية" (13)، تأتي مقتضياتها في صورة زكاة وصدقات وأوقاف وتبرعات وفدية وكفارة وغير ذلك..، مما يجعل أحد الجوانب المهمة للملكية الفردية تتلخص في مدى تحقيقها لوظيفتها الاجتماعية التضامنية أو تجسيدها للعلاقة التكاملية التكافلية بين الفرد والمجتمع.

- والجهاد بما فيه من ضمانات توفير الحماية للمستضعفين، وتقرير حرية الاختيار العقدي والفكري، ووقاية المجتمع من شغب العدوان الخارجي، وتأمين حدود الدولة ليتفرغ أهلها لمعاشهم، هو في الأصل مسؤولية فردية عينية يتحلل منها الأفراد في حالة وجود جيش في مستوى المسؤولية الكفائية.

الفروض والواجبات:
وفيما ذكرنا من مسؤوليات فردية، فإنه على الرغم من تفاوت درجات وجوبها ولزومها في سلم التكاليف الشرعية من فروض الأعيان إلى الكفايات، بيد أن هذه المسؤوليات وغيرها قد تتحرك من دائرة الفروض والواجبات الكفائية إلى دائرة الفروض العينية، فتتحول تلقائيا من المجال الفردي إلى المجال الجماعي بمقتضى الحال التي يعيشها المجتمع المسلم، وذلك حتى تسترد الأمة عافيتها من داء الفساد وتستوفي شروط النجاة والصلاح، والقدرة على تجاوز أزماتها وتحمل مسؤولياتها..

فإذا كانت: "مسؤولية كل فرد واضحة جلية عن العمل الذي يقوم به، سواء كان هذا العمل من أجل نفسه أو من أجل الغير، إذ هو لا يتحمل تبعة عمل إنسان غيره، لكنه مسؤول عن الطريقة التي أتى بها هذا العمل أو ذاك بعد أن علم وتعلم سبل الخير والشر، إلا أن هذه المسؤولية الفردية لا تمنع الفرد أن يكون مسؤولا عن انحراف مسلك أقرانه، فعليه أن يتدخل بوسائل مشروعة ليمنع الجماعة من التمادي في الأعمال التي تضر المجتمع الإسلامي، وهنا تتحول المسؤولية إلى مسؤولية ذات طابع جماعي، حيث إن هذه الجماعة ما هي إلا مجموعة الضمائر التي تربت في أحضان المدرسة الإسلامية الحقة، فأوجدت المجتمع المتكافل والمتعاون الذي يعمل من أجل الخير والسلام" (14).

وهنا تبدو المعالم المشتركة بين المسؤولية الفردية والمسؤولية الاجتماعية واضحة؛ فإذا كانت الأخلاق الفردية هي بمنزلة نزعة إيثارية، تسعى إلى تأويل الوازع الاجتماعي تأويلاً غيريًا باعتبًاره ضميرًا جمعيًا نزوعًا إلى: "مذهب الخير الذي يجعل غاية سلوكنا الفردي: نفع الناس ودفع الضر عنهم" (15)، فإن الأخلاق الجماعية هي: "الأخلاق التي تدعو إلى انسجام قوى النفس، وانسجام المصالح الفردية في المجتمع" (16).

هذه كانت معالم المسؤولية الفردية في إطار المسؤولية الاجتماعية، التي لا تحابي أحدًا على حساب القيم الحاكمة للمجتمع، ولا تمالئ مهما بدا شأنه عاليًا أو مهما تعبأ بمال أو تغشى بهالة من متاع الحياة الدنيا.. كلا، إنها مسؤولية لا اعتبار لأحد إزائها إلا بحق وعدل.

 

عطية الويشي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:
(1) عزالدين السلاوي: أسئلة الذات والعالم والوسطية في الإنسان المسلم (مقال منشور بمجلة دعوة الحق المغربية، الرباط، العدد 334، ذو الحجة 1418هـ) ص106.
(2) أبو عبدالله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي بن قيم الجوزية: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، تحقيق: علي بن محمد الدخيل الله (دار العاصمة، الرياض، 1418هـ/ 1998م) ص641. وانظر: بن قيم الجوزية: الفوائد (دار الكتب العلمية، بيروت، 1393هـ/1973م) جـ1، ص231.
(3) علي بن محمد بن محمد بن حبيب الماوردي (ت: 450هـ): أدب الدنيا والدين (دار مكتبة الحياة، بيروت، 1986م) ص 129.
(4) عباس الجراري: الإنسان في الإسلام.. ماهيته وحقيقة وجوده (مطبعة الأمنية، الرباط، منشورات النادي الجراري، 1408هـ/1997م) ص 37.
(5) حسن معن: الإعداد الروحي (مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت، 1992م) ص 173- بتصرف.
(6) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ للبخاري، حديث:6475.
(7) أخرجه البخاري عن أنس بن مالك، حديث رقم:13.
(8) رواه البخاري في الأدب المفرد، حديث رقم:112.
(9) أخرجه البخاري عن أبي موسى، حديث رقم:2486.
(10) حديث رقم:2167.
(11) يوسف القرضاوي: الخصائص العامة للإسلام (مكتبة وهبة، القاهرة، 1409هـ، ط 4) ص:54.
(12) أخرجه مسلم عن عائشة "رضي الله عنه"  - حديث رقم: 4429.
(13) Duguit:Système de politique positive (1892، T. I) p 156 et،S.
(14) محمد ممدوح محمد علي العربي: الأخلاق السياسية في الفكر الإسلامي (دار المعارف، القاهرة، 1992هـ) ص:220، 221.
(15) جميل صليبا (ت: 1976م): المعجم الفلسفي (الشركة العالمية للكتاب، بيروت،1414هـ/1994م) 1/178.
(16) جميل صليبا (ت: 1976م): المعجم الفلسفي، مرجع سابق،1/161.

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي