وقفة مع إصلاح الأمة

منذ 2014-04-07

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "مَن ولِي مِن أمر المسلمين شيئًا فولَّى رجلًا لمودَّة أو قرابة بينهما، فقدْ خان اللهَ ورسولَه والمسلمين".

الحمدُ لله وحْده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعْدَه:

 

في وقت تُعاني فيه أمَّتُنا الإسلامية من أزمة حقيقيَّة في كافة المستويات، تتعمَّق في ظلِّ التحديات الكبيرة داخليًّا وخارجيًّا، والتي تعمل كمعاول هدْم في بنيان حضارتها، وتعرقل مسيرةَ العمل الإسلامي، فهي أحوجُ ما تكون إلى عُلماء ومفكِّرين ربانيِّين، يَدْعون من ضلَّ إلى الهُدى، ويَصبرون معهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فغياب دور هؤلاء الزبدة أو تغييبه خطرٌ عظيم على الأمَّة، فإنَّ الثغرة التي هم عليها لا يسدُّها غيرهم، فعليهم أن يتقدَّموا لسدِّ هذه الثغرة، وأن يَتولَّوا زمامَ المبادرة بأنفسهم، وأن يكونوا قريبين مِن الناس قبل الفِتن.

 

وفي أثنائها وفيما بعدَها تحليلًا وشرحًا وتوجيهًا، فمتى تأخَّروا تقدَّم غيرُهم ممَّن ليس أهلًا لسدِّ مكانهم، ولا بدَّ للناس مِن قادة يُرشدونهم ويوجِّهونهم؛ "حتى إذا لم يَجِدِ الناس عالِمًا اتَّخذوا رؤوسًا جهَّالاً، فسألوهم فأفتَوْهم بغير عِلم، فضلُّوا وأضلُّوا"، ولا بدَّ أن تصبَّ جهودهم حيث تعظُم الحاجة، بتقويم ما اعوجَّ من حال الأمَّة، ولَمْلَمة ما تبعثر منها.

 

وهذه كلمات مَنَّ الله بها علينا نسأله سبحانه وتعالى أن يجعلَها لبنةً لتحصيل هذا الغرَض الشريف:

إنَّ أي مشروع إصلاحي يرتكِز ويبدأ بتغيير الإنسان، فالجماعة، ثم بالتنظيم، فالنقد البنَّاء، وتبدأ عمليةُ التطور مِن الإنسان بما أوْدَع الله فيه مِن العقل والفِطرة، وأيَّده بالرِّسالة، فكان أهلًا لقيادة حرَكة البناء، وتحقيق قَفَزات نوعية؛ تمهيدًا لظهورِ الحضارة، ثم إذا كان منهجُ الرِّسالة يقتضي تغييرَ ما في النفوس أولًا فما حولها؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ‌ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُ‌وا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فعندئذٍ يجب على الإنسان أن يعرِف نفسه، وأن يعرِف غيره، وألاَّ يتعالى عليهم أو يتجاهلهم، بل يتعاون معهم، وعليه أيضًا أن يحيط علمًا بعصره ومستجدَّاته، وأن يخضَع هو وغيرُه للمنهج العِلمي العَملي؛ حتى يتخلَّصوا مِن كل رواسبِ القابلية للباطِل والخرافة، والتخلُّف والتقهقُر.
 

فالحل منوطٌ بتكوين الإنسان العارِف بالحقِّ والخلْق، الحامِل لرِسالته في التاريخ، والغني بأفكاره على حسابِ أشيائه؛ لذلك باتتْ منظومة القِيم والأخلاق ضروريةً إلى أبعد حدٍّ لإعداد مِثل هذا الفرد، والمشكلة مشكلةُ أفكار في النهاية؛ لأنَّنا بها نصلح خطأَنا، ونُنظِّم خُطانا ونثبتها، وندفع طاقتَنا وأهليتنا في إمضاء ما عزَمْنا عليه، ونحشد وسائلَنا في إنجاز مقوِّمات التمكين، فننتزع حريتنا واحترامنا بيْن الأمم، ونتخلَّص مِن التداعي علينا الواقِع كما تداعَى الأكَلَةُ على قصعتها.

 

إنَّ لكل حضارة نمطَها وأسلوبَها وخيارَها، وخيار العالَم الغربي ذي الأصول الوثنية قد جَنَح بصرُه إلى ما حوله ممَّا يُحيط به من المادة، بينما الحضارة الإسلاميَّة تستمدُّ أصولها مِن عقيدة التوحيد، المتَّصلة بالرِّسالة السماوية، فتجمع بيْن الغائب والشاهد، بيْن الرُّوح والمادة، بين الحقوق والواجبات وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، هذه الحضارة يتحرَّك أفرادها تبعًا للعلاقة بيْن العناصر الثلاثة المتحرِّكة: الأشياء والأشخاص والأفكار، تحكُمها شريعةٌ واحدة مصدرها واحِد، فهناك توازن بيْن هذه العناصِر لا بدَّ مِن إدراكه والثبَات عليه، فإذا ما استبدَّ واحد منها، وطغى على حساب العنصرين الآخرين، تولَّدتْ أزمةٌ حقيقيَّة في المسيرة الحضارية للأمَّة، تُلقي بها خارجَ التاريخ فريسةَ طغيان الشيء، أو طغيان الشخص، أو طغيان الفِكر (الفِكر غير السَّوي).

 

فطغيان الشيءِ بسبب وجودِه ونُدرته على السواء، فإذا نفَق الشيء دفَع الإنسان إلى الجري خلفَه؛ ليصبح لا همَّ له إلا إدراكه وتحصيله، وإذا توافَر أنتج بسبب وفرتِه نوعًا من الإشباع، فيدفَع الإنسان نحوَ صِراعات الموضة في كلِّ شيء، لكن طغيان الشخص ينتُج عنه استبدادٌ وتسلُّط يؤدِّي إلى فسادٍ سياسي واجتماعي واقتصادي، يهدم بنيانَ الفكرة وأصحابها وأشياءَهم، ولا ننسى طغيانَ الفِكر بتقديسه، فتقديمه على نصِّ الوحي القطعي الصحيح الصريح.

 

للأسف، الكثير مِن مثقَّفي الأمَّة اليوم يردُّون تخلفها إلى عدمِ مُواكبتها للأُمم الأخرى المتقدِّمة في المجال الصناعي والاقتصادي، وهذه العُقدة التي لازمتْهم طويلاً -ولا تزال- بسبب الهوَّة بين المسلمين والغرْب لم تتعدَّ نِطاق عالَم الأشياء، وهنا مكْمَن الداء، والعاقل لا يُنكر أنَّ المسلمين لا بدَّ لهم مِن تحصيل أسباب القوَّة، وفي جميع مجالات الحياة، لكنَّه شرطٌ لازمٌ غير كافٍ؛ ذلك أنَّ تخلف المسلمين اليوم وبتفكير دقيق مرجِعُه الحقيقي إلى انحطاط المستويات الفكريَّة والخلقيَّة، وخير دليلٍ ما نراه في جسد الغرْب وقد نخره المسخُ الأخلاقي وانهيار القِيم، حتى إنَّ الإنسان عندَهم أصبح له ثمنٌ، وثمن زهيد، سواء كان امرأةً أو رجلًا، وهذا مع تقدُّمهم المذهل في شتَّى علوم العصْر وتقنياته، لكن ثَمَّة رجحان الأشياء على الأشخاص والأفكار.

 

والمقصود أنَّ التطور المنشود دائمًا يرتكِز اعتماده على المقاييس الفِكريَّة لا المقاييس الشيئيَّة، والمشكلة الفِكرية في جوهرها مشكلةُ توجيه الأفكار بعدَ تنقيحها في ميزان الشَّرْع لتنقيتها وتصفيتها، هذا التوجيه عمومًا هو قوَّة في الأساس، وتوافق في السَّير، ووَحْدة في الهدف.

وبتعبير آخر:

أولًا: الأخْذ بالأسباب التي جعلَها الله أسبابًا لنيل المطلوب، والعزم فالتوكُّل على الله تعالى.

ثانيًا: التعاون والتكامُل والتكافُل، وعدم الاختلاف والبغي والعدوان.

ثالثًا: أن تكونَ الأهداف ساميةً، مِن إعلاء كلمة الله في الأرض، وأن يعبد الله وحده وألا يُشرك به شيئًا، وإعزاز المسلمين ورفْع الأمَّة الإسلاميَّة إلى طليعة الأمم في كافَّة المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وخصوصًا الفِكرية والخُلُقيَّة، ومِن البديهة أن رواد هذا التوجيه والميزان هم علماءُ الأمَّة ومفكروها ومثقَّفوها، ثم أصحاب المناصب والمسؤوليات والحُكم في الدولة، فمِن المفترض أنَّهم هم الأقدرُ والأكفأ للتعاوُن بغرَض إصلاح ما فسَد في الأمَّة.

 

إنَّ من مشكلات الأمَّة التي تعيق سيرَها نحو الأهداف الراقية مشكلة المنصِب والكفاءة؛ إذ إنَّنا لو وضعْنا سُلَّمًا للقيم العِلمية والفِكرية جنبًا إلى جنب مع السُّلم الاجتماعي، لَقَرَّرْنا مبدئيًّا أنَّ السُّلمين يتَّجهان في الاتجاه نفْسه مِن الأسفل إلى الأعْلى؛ أي: إنَّ المراكز الاجتماعية تكون تلقائيًّا موزَّعة حسب الدرجاتِ العِلميَّة والفِكرية؛ أي: إنَّ المناصب في هرم الدولة حسبَ الكفاءات:

الرجل المناسِب في المكان المناسب، لكن في مجتمعاتنا اليوم والذي بلَغ ما بلَغ من التخلُّف، فإنَّ السُّلمين ينعكسانِ انعكاسًا كليًّا تصبح معه القاعدة الشعبية -على الأقل بمحافظتها على الأخلاق- أثْرَى ثقافيًّا مِن قيادتها، فمَن يرقى درجاتِ السُّلَّم ويأخذ مكانَه ودوره الاجتماعي في العالَم المتخلِّف ليس مِن أهل الدرجات العِلميَّة الفكريَّة، بل مَن يرضى عليه أولو الأمر في السلطة، فإمام المسجد مثلًا ليس أهلًا لأن يُفتي الناس ويُعلِّمهم، ومع ذلك فهو الذي يسوس الناسَ في أمورِ دِينهم مِن الطلاق والزواج والأموال، وخصوصًا العقائد، ومدير الشركة لا يقدِر حتى على إدارة أُسرته، لكن له الحق في تعيين هذا وعزْل الآخَر، وهو الذي يتصرَّف في الأموال حسبَ هواه، والحاكِم قدْ فارق العدْل وفارقَه العدل، وأحاط نفْسه بطانةُ السُّوء والمنكر، والجميع لا همَّ لهم إلا الدنيا وغرورها.

 

ولقدْ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "مَن ولِي مِن أمر المسلمين شيئًا فولَّى رجلًا لمودَّة أو قرابة بينهما، فقدْ خان اللهَ ورسولَه والمسلمين"، وقال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى: "فإنْ عدَل عن الأحق الأصْلَح إلى غيره؛ لأجل قرابةٍ بينهما، أو ولاء عتاقة أو صَداقة، أو موافَقة في بلدٍ أو مذهب أو طريقة أو جِنس، كالعربيَّة والفارسيَّة، والتركيَّة والروميَّة، أو لرِشوة يأخذها منه مِن مال أو منفعة، أو غير ذلك مِن الأسباب، أو لضغنٍ في قلْبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقدْ خان اللهَ ورسولَه والمؤمنين، ودخَل فيما نهي عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]"، والمقصود أنَّ الواجِب إصلاح دِين الخَلق، الذي متى فاتَهم خسِروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعْهم ما نَعِموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدِّين إلا به مِن أمر دُنياهم.

 

إنَّ القناعة التي يجب أن نصِلَ إليها هي أنَّ مفاتيح حلِّ المشكلات هي في الذات لا عندَ الآخَر، بالمبادرة إلى التخلُّص مِن الجدل العقيم، والتوقُّف عنِ التركيز على الجزئيَّات على حسابِ الكليَّات، وترْك البحْث عن نِقاط الاختلاف بدلَ نِقاط الالْتِقاء بين المسلمين، واجتناب العصبيَّة النتنةِ والشِّعارات الرنَّانة، وتقديم الأحقّ والأصلح والأكفأ، والأمثل فالأمثل في أمورِ الدِّين والدنيا.

 

ولقدْ بات مِن الضروري مدُّ جسور الحوار والتواصُل المعرفي مع جميع أطياف أهل السُّنة والجماعة، دون الذوبان في الآخَر وفقدان المقوِّمات الحقيقيَّة للذات وللأمَّة، ولا يتمُّ ذلك إلا بتبنِّي مبدأ الرأي والرأي الآخَر، مرتكزين في ذلك على الفحْص الدقيق والنقْد البنَّاء، الخالي مِن السخرية مِن الآخر أو تقزيمه، والموسومة بالنصيحة دون التعيير، وَفْق المنهج العِلمي الصحيح، المبنيِّ على الدليل مِن الكتاب والسُّنة والإجماع؛ مِن أجل بناء صَرْحٍ متين وشامِخ للأمَّة الإسلاميَّة بين الأُمم الأخرى، ولأهل السنَّة والجماعة بيْن طوائف الأمَّة، والله أعلم.

 

والحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحْبه ومَن والاه.

 

فتحي عيساوي