ملايين التلاميذ العرب لا يعرفون شيئاً عن لغتهم

منذ 2014-04-07

يُطلق عليه إعلاميون (شيخ التربويين الإسلاميين)، إنه واحد من الخبراء التربويين الجادِّين في عالمنا العربي، تشهد له مؤلفاته وأفكاره، ومسيرة عقود في بث الفكر التربوي، وفي هذا الحوار مع (الوعي الإسلامي)


يُطلق عليه إعلاميون (شيخ التربويين الإسلاميين)، إنه واحد من الخبراء التربويين الجادِّين في عالمنا العربي، تشهد له مؤلفاته وأفكاره، ومسيرة عقود في بث الفكر التربوي، وفي هذا الحوار مع (الوعي الإسلامي)، يكشف د.(سعيد إسماعيل علي)، أستاذ التربية بكلية التربية بجامعة عين شمس المصرية، عن أسرار مسيرته التعليمية، وما لاقاه من صعوبات حددت مسيرة حياته العلمية والفكرية، كما يقيّم دور الصعوبات في مسيرته، وكذلك أهميتها في حياة الشباب والأمة، كما يتناول أسباب واقعنا الحضاري اليوم، وكيف أسهم التعليم في هذا الواقع، وكيف يمكن أن يقودنا، خاصةً مع تضافره مع المعرفة والتكنولوجيا لنتبؤ موقعنا الحضاري من جديد.


 في البداية نريد أن نُلقي الضوء على طرف من نشأتكم وتكوينكم والصعاب التي لاقيتموها في سبيل الالتحاق بالتعليم، قبل مواصلة رحلتكم الشاقة مع العلم؛ لعل كثيراً من شبابنا يأخذون العظة والعبرة منها.


-ولدتُ عام 1937م بضاحية (المرج)  -الريفية آنذاك- من العاصمة المصرية القاهرة، وكان أبي يعمل خياطاً بلدياً، في حين كانت أمي سيدة أميّة، ولما كان أبي لم ينل قسطاً من التعليم على الإطلاق، فقد اجتمع كونهما، رحمة الله تعالى عليهما، أميّين، وكان التعليم الأولي هو السائد في مصر آنذاك، حيث يتعلم الصغار القراءة والكتابة وبعض العلوم، ولا يُبنى على هذا اللون من التعليم، أي إنه لا يُستكمل، وكدتُ للحقيقة أكتفي به، لولا أن علمت أن أحد أقاربنا من الصغار سيلتحق بالمرحلة الابتدائية، مع كونه غير سوي الإدراك، فأخذتني الغيرة الشديدة، وقلتُ في نفسي: إنني الأولى بإكمال التعليم، وكانت أمامي إشكالية كبرى آنذاك، إذ إنه ليس هناك في الأسرة كلها من يعرف أهمية مسيرة التعليم المعتادة، ولا دورها في الحياة، وفي نهاية رحلة التفكير هذه توصلتُ إلى أنه ليس من حل سوى أن أسرق شهادة ميلادي من والدي.

بعدها استعنت بأحد الكبار ورجوته أن يُحضر لي استمارة مدرسة الآداب الابتدائية في حي حدائق الزيتون، وكانت الأقرب إلينا، وبالفعل تقدمتُ وقبلتُ في المدرسة، وكانت بالنسبة إلي آنذاك كالفضاء الخارجي لتلاميذ اليوم، وكان تقدمي إليها في العام الدراسي 1947ـ 1948م، وكانت المشكلة الأولى والكبيرة آنذاك قد انتقلت من رفض الوالد الذي قبل الأمر، حتى حين، إلى الزملاء من التلاميذ، فقد كانوا يتضاحكون على بساطة ملابسي، ورقة حالي بوجه عام، بل كوني ريفياً لا أعرف تصرفاتهم المنتمية إلى المدينة، ولكن هذه المشكلة صارت حافزي إلى التقدم، بل التفوق الدراسي لإثبات أن بيئتي التي لم تكن تروق لكثير منهم سَتُخرج من هو أفضل.

كان المدرسون يشرحون آنذاك في الفصول، وهي الإشكالية الكبرى اليوم، فلم أحتج إلى دروس خصوصية، وفي نهاية العام جاء ترتيبي الأول على فصول المرحلة الابتدائية كلها، ولا أخجل من القول بأن أبي تضايق لما رأى الشهادة، إذ كان مقتنعاً بأني ينبغي أن أرث مهنته، ومن تلك اللحظة حتى تخرجي من كلية الآداب لم يعرف أبي في أي عام أدرس، إلا لما جاء أهل بلدتنا لتهنئته، فلما تعجب منهم أخبروه بأني نلت الشهادة الكبرى، كما كانت تُسمى آنذاك.

 

من يومها تعلمتُ أن أسير، بإرادة الله تعالى، بنفسي وبتوفيقه لي بحسن استثمار قدراتي، وبالتالي صرتُ في الحياة لا أنحني لأحد، مدركا أن الفضل في البداية والنهاية لله تعالى لا لسواه، وليت شبابنا اليوم يدركون أهمية هذا الدرس جيداً.

 

وهل استطعت الحفاظ على مسيرة التفوق هذه أمام تحديات الفقر وصعوبة الدراسة الجامعية في تلك الفترة المبكرة من حياتك؟

 

كان حب التفوق حافزاً لي لمزيد من التفوق، وكنتُ قد حصلتُ في الثانوية على 67%، وهو مجموع ضخم آنذاك، فاخترتُ الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، لكن مستواي لم يكن مناسباً في اللغة الإنجليزية، وكانت مدارس اللغات غير تابعة للدولة، فلم يكن التعليم أمُّم بعد، وكانت الإنجليزية في مدارس الدولة شبه إضافية، من هنا قررتُ ترك قسم اللغة الإنجليزية رغم أهميته آنذاك التي لم تكن تقل عن الطب والصيدلة، وانتقلت إلى قسم الفلسفة لحبي لعلم النفس الذي كان ملحقا بالقسم نفسه، ولكني بعد التخرج بتفوق وجدتني غير قادر على إكمال رحلة التعليم العالي، لأن كلية الآداب آنذاك لم تكن تعين معيدين، من هنا فور علمي بوجود كلية وحيدة للتربية في مصر هُرعتُ إليها لأنال دبلومتها وأكمل مسيرة التدرج فيها حتى اليوم، وكنتُ قد نلتُ درجة الأستاذية منها عام 1979م.

 

برأيك هل تفتقد الأمة العربية الإسلامية اليوم استنهاض روح التحدي لتبدأ رحلة الصعود من جديد؟

 

-برأي أحد فلاسفة التاريخ ويدعى توينبي إن نظرية التحدي والاستجابة تخص الشعوب والأمم كما تخص الأفراد، فكلما كانت المخاطر والمتاعب أمام قيام أو استرداد الحضارة -كما في حالتنا- هائلة، كان استنهاض الهمة أكبر، وفرص النهوض والتقدم أوفر، ومن هنا أتمنى أن يقدِّر الشباب مرة ثانية هذا الأمر جيداً.

فلا يستنعمون الحياة لوجود الأب والأم اللذين يوفران كل كبيرة وصغيرة، فلا يمضي الأبناء، مهما كبروا، في مسيرة الحياة إلا وهم متكاسلون، إلا من رحم ربي، وليدركوا أن في تكاسلهم هذا خذلاناً منهم للأمة كلها.

 

أنت أحد رواد التربية والتعليم في الوطن العربي.. ما دور التعليم حتى اليوم في بقاء الأمة العربية الإسلامية على ما هي عليه، ومن قبل قصور التربية ممثلة في وجوه متعددة من أسر ومؤسسات في القيام بدوره؟

 

-نعم هناك قصور في التعليم العربي اليوم  ولننظر إلى الانتشار المخيف للغة الإنجليزية في الدول العربية والإسلامية، ومساحة التعليم المجاني التي تتقلص، بل دخول الحكومات العربية في مجال التعليم بالإنجليزية، عبر ما يُسمى في مصر بـ(المدارس التجريبية)، وأثمر هذا كله عن ملايين التلاميذ والطلاّب لا يعرفون شيئاً لا عن دينهم ولا لغتهم، من هنا يجيء التحدي لجيل لا يعرف شيئاً عن عمالقة الشعر القديم: (البحتري)، (أبوتمام)، (المتنبي)، (امرؤ القيس)، وأقصى ما يعرفه المثقف منهم أسماء صحافيين مع الثقافة الغربية بلا حدود، فإذا ما اعترفنا بأن لدينا طرفاً من المتدينين من مدرسين ومدرسات، للأسف يسيئون تقديم صورة ديننا إلى صغارنا، علمنا خطورة وضعنا التعليمي الحالي على واقع الأمة كلها.

 

 عفواً يا دكتور لكن الأمر له علاقة بسنين طويلة وتراكم مجهودات لتقويض لغتنا العربية!

 

-هذا صحيح، للأسف الشديد، وأرى أنه بالتحديد عند استقلال كثير من الدول العربية الإسلامية كانت فرصة مواتية للقفز في نوعية التعليم المقدم لأبناء أوطاننا، لكن للأسف نجح المحتل قبل خروجه في أن يُدخل لدينا نفوذاً من نوع أشد، عبر الجامعات التابعة له، ونرى هذا في مصر ولبنان تحديداً، ومنذ العشرينيات من القرن الماضي، ومن هنا تخرج الآلاف ممن نضبت ثقافتنا لديهم.

 

ولكن هل أنت مع القائلين بوجود مؤامرة غربية مستمرة على ثقافتنا منذ سنوات بعيدة حتى اليوم؟

 

-لا أحب منطق القبول بالمؤامرة والصراع على الإطلاق، لكن ما أؤمن به أن العرب والمسلمين لم ينتبهوا للأمر الرباني في الآية الكريمة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}  [الأنفال: 60]، وقد ضرب الله تعالى المثل برباط الخيل؛ والمقصود، كما أفهمه، هو كل ما يؤدي إلى القوة من علم وتكنولوجيا، لأن العالم اليوم مبني على صراع قوى، وأهم وسائل هذه القوة هي المعرفة، وعدوك يتهيبك مادمت قوياً في المعرفة وتطبيقاتها، ومن هنا أعود إلى التعليم من جديد، فقد كنتُ في اليابان رئيساً لندوة هناك.

فقالوا لي: "إن الهوية اليابانية هي الأصل لديهم، ولذا يعرف التلميذ الإنجليزية، لكن اليابانية أولاً لديهم، حفاظاً على الهوية اليابانية التي تنمو معه حتى الدكتوراه، وهي الأهم في تكوينه، وبالتالي تعليمه وتعلمه المعرفة".

والتكنولوجيا ترى أين نحن من هذا؟

 

 لكن أليس أمر إعداد الغرب عائدا إلى سنوات أبعد، حتى قبل تطور العلم والتكنولوجيا؟


-هذا صحيح، فالحروب الصليبية بدأت منذ وقت مبكر، منذ القرن الحادي عشر الميلادي، كما أنه تاريخياً لدينا التفكك منذ ملوك الطوائف في الأندلس، وكان هذا إنذاراً بتفكك النسيج الحضاري للأسف، فإذا ما أضفنا القصور في الأخذ بأسباب العلم والتكنولوجيا، فيما بعد، علمنا أن سنُّن الله في الحضارات أنها دورات، كل فترة تعيش مدة ثم تغيب، وفي الغالب لن يستمر التفوق الحضاري الغربي لكن متى سيتم هذا؟ إنه في علم الله تعالى، لكني أتوقع أن تشرق شمس حضارتنا عندما نأخذ بسنُّن التطور الحضاري، وحرية التعبير والتفكير المعرفي وتطبيقاته التكنولوجية.


الإيمان العقلاني والأخذ بالمعرفة والتكنولوجيا سبيلنا لإعادة أمتنا لموقعها الحضاري المفقود.

 

محمد ثابت توفيق

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي