رحمة النبي بالأسرى

منذ 2014-04-09

بعد أن دخل الصليبيون مدينة لقدس واستتب لهم الأمر نما إلى علمهم وجود مجموعة من الأهالي دفعهم الخوف من الصليبيين إلى الاختباء داخل مسجد قبة الصخرة, فاقتحم عليهم الصليبيون المسجد وأبادوهم جميعًا.

تعامل رسول الله مع الأسرى في حال الاحتفاظ بهم :

أعاد محمد العظيم للعالم ما فقد من العدل والحرية والتسامح والفضيلة[1].
بعد أن دخل الصليبيون مدينة لقدس واستتب لهم الأمر نما إلى علمهم وجود مجموعة من الأهالي دفعهم الخوف من الصليبيين إلى الاختباء داخل مسجد قبة الصخرة, فاقتحم عليهم الصليبيون المسجد وأبادوهم جميعًا, الشيوخ والنساء والأطفال, وقد طاف الجامع بالدماء إلى حد الرُّكَب[2]!!

هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر!!
الإسلام دين واقعي يتعامل مع الأحداث ومع الواقع, ولا يذهب في تشريعاته مع الخيال أو المثالية غير القابلة للتحقيق, ومن ثَمَّ كان من الطبيعي أن يتعامل مع قضية الأسرى كواقع يفرض نفسه على الحياة, لا أن يتجاهلها, أو يفرض لها حلاًّ عاطفيًّا غيرَ واقعيٍّ, لذلك فإنه يتعيّن على المسلمين في بعض الظروف أن يحتفظوا بالأسرى, وأقرب الظروف إلى الذهن أن يكون العدو قد أسر من المسلمين رجالاً يلزم أن نُبادلهم بأمثالهم.

فكيف كان رسول الله r يُعامل الأسرى في حال الاحتفاظ بهم؟
لقد كانت القاعدة العامة التي حَثَّ عليها الرسول في أوّل غزوة غنم فيها المسلمون أسرى هي: «استوصُوا بهم -أي بالأسرى- خيرًا»[3].
لكن المهم في الأمر أن هذه المعاملة الحسنة التي أمر بها رسول الله للأسرى لم تكن مجرّد قوانين نظرية ليس لها تطبيق في واقع الحياة, ولكنَّها تمثّلت في مجموعة من المظاهر التي تُنبئ عن قلوب ملأتها الرحمة, وعن مشاعر فاضت بالعطف والحنان, وسوف نتناول إن شاء الله هذه المظاهر من خلال النقاط الآتية:


إطعام الأسرى :
قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]. في هذه الآية الكريمة من الدستور الإسلامي القرآن الكريم يحثُّ الله تعالى عباده المؤمنين على الإحسان إلى أسراهم وإطعامهم, ويعِدُهم بذلك النعيمَ في الآخرة.
قال ابن عباس: أمر رسول الله  أصحابه يوم بدر أن يُكرموا الأُسَارى, فكانوا يُقَدِّمُونهم على أنفسهم عند الغداء, وهكذا قال سعيد بن جبير, وعطاء, والحسن, وقتادة[4].
ويعلق ابن جريج[5] على نفس الآية فيقول: لم يكن الأسير على عهد رسول الله إلا من المشركين, قال أبو عبيد: فأرى أن الله قد أثنى على من أحسن إلى أسير المشركين[6].
ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يقدمون للأسرى ما بقي من طعامهم بل كانوا ينتقون لهم أجود ما لديهم من طعام, ويجعلونهم يأكلونه عملاً بوصية رسول الله بهم, وها هو أبو عزيز شقيق مصعب بن عمير  يحكي ما حدث يقول: "كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر, فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خَصَّوْني بالخبز, وأكلوا التمر لوصية رسول الله إياهم بنا, ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها؛ فأستحي فأردّها فيردّها عَلَيَّ ما يمسّها!
قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث[7]. أي أنّه لم يكن شخصية عادية, بل كان من أشدّ المشركين على المسلمين, فلا يحمل اللواء إلا شجعان القوم وسادتهم! ولكن هذا لم يغير من الأمر شيئًا, لأن الرحمة بالأسير أصل من أصول التعامل لا يجوز التخلي عنه تحت أي ظرف.

كسوة الأسرى :
لم يقتصر المسلمون على إطعام أسراهم من المشركين؛ بل إنهم كانوا يُقدّمون لهم الملابس أيضًا, وهذا ثابت في الصحيح, فقد جعل البخاري رحمه الله بابًا في الصحيح سمّاه: باب الكسوة للأُسارى, وذكر فيه أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "‏لَمَّا كَانَ يَوْمَ ‏ ‏بَدْرٍ ‏أُتِيَ بِأُسَارَى وَأُتِيَ‏ ‏بِالْعَبَّاسِ ‏وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ فَنَظَرَ النَّبِيُّ ‏‏‏لَهُ قَمِيصًا فَوَجَدُوا قَمِيصَ ‏عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ‏‏يَقْدُرُ عَلَيْهِ فَكَسَاهُ النَّبِيُّ ‏‏‏إِيَّاهُ" الحديث[8].
وورد أيضًا أن رسول الله أمر لأسرى هوازن بالكساء فقد أمر رجلاً أن يَقْدُمَ مكة فيشتري للسبي -الأسرى- ثياب المُعَقَّد[9], فلا يخرج الحرُّ منهم إلا كاسيًا[10].

توفير المأوى لهم :
حتى يتمّ النظر في شأن الأسرى كان المسلمون يجعلونهم في أحد مكانين إما المسجد وهو أشرف مكان عند المسلمين, وإما بيوت الصحابة.
وكان المستهدف من إبقاء الأسرى في المسجد أن يَرَوْا أخلاق المسلمين وعبادتهم لعلهم يتأثّرون بها, فيدخل الإيمان في قلوبهم, وقد حدث هذا بالفعل مع بعضهم كثمامة بن أثال[11].
وأما إبقاء الأسرى في منازل الصحابة فكان هذا إكرامًا كبيرًا من المسلمين لهؤلاء الأسرى؛ فعن الحسن البصري أن رسول الله كان يُؤتَى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: «أَحْسِنْ إليه», فيكون عنده اليومين والثلاثة, فَيُؤْثِرُهُ على نفسه[12].

عدم التعرّض لهم بالأذى :
الفطرة السليمة تأبى التعذيب للنفوس البشريّة, بل إنها لا ترضى بتعذيب الحيوان أو الطير, وقد ربَّى الرسول صحابته الكرام على الرحمة, فقد روى جرير بن عبد الله أن رسول الله قال: «‏مَنْ لا يَرْحَمْ النَّاسَ لا يَرْحَمْهُ اللَّهُ»"[13].
فكان الصحابة رضوان الله عليهم نماذج عملية في الرحمة ببني البشر جميعًا مسلمين وغير مسلمين, وقد ذُكِر قبل ذلك إنكار الرسول ضرب غلامي قريش في أحداث بدر وقوله: «إِذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا, وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا, صَدَقَا وَاللهِ إِنَّهُمَا لِقُرَيْش»[14], مع أن هذين الغلامين اللذين ضُرِبَا من الجيش المعادي جيش المشركين، ويمدَّان الجيش بالماء.
بل إن شريعة الإسلام تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك, حيث تمنع تعذيب الأسير للإدلاء بمعلومات عن العدو, وقد قيل للإمام مالك: أَيُعذَّبُ الأسيرُ إن رُجِيَ أن يدلّ على عورة العدو؟ قال: "ما سمعت بذلك"[15].

الرفق بهم, واللين معهم :
من أخلاق الإسلام أيضًا في التعامل مع الأسرى الرفقُ ولين الجانب, حتى يشعروا بالأمن والطمأنينة, وقد كان من أخلاق رسول الله أنّه كان يردُّ على استفسارات الأسرى, ولا يسأم أو يَمَلُّ من أسئلتهم, مما يُوحِي بسعة صدره, وعمق رحمته التي شملت البشر جميعًا.
ففي صحيح مسلم بسنده عن عمران بن حصين قال: "كَانَتْ ‏ثَقِيفُ ‏‏حُلَفَاءَ ‏لِبَنِي عُقَيْلٍ ‏فَأَسَرَتْ ‏‏ثَقِيف ‏رَجُلَيْنِ مِنْ ‏‏أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ‏ ‏‏وَأَسَرَ ‏أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ‏رَجُلاً مِنْ ‏بَنِي عُقَيْلٍ وَأَصَابُوا مَعَهُ‏ ‏الْعَضْبَاءَ[16] ‏فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏وَهُوَ فِي الْوَثَاقِ قَالَ: يَا ‏مُحَمَّدُ, ‏فَأَتَاهُ فَقَالَ: ‏«مَا شَأْنُكَ؟».

فَقَالَ: بِمَ أَخَذْتَنِي وَبِمَ أَخَذْتَ ‏سَابِقَةَ ‏الْحَاجِّ؟[17] فَقَالَ: «إِعْظَامًا لِذَلِكَ أَخَذْتُكَ ‏بِجَرِيرَةِ ‏حُلَفَائِكَ‏ ‏ثَقِيفَ». ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا ‏مُحَمَّدُ, ‏يَا ‏مُحَمَّدُ, وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏رَحِيمًا رَقِيقًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: «مَا شَأْنُكَ؟» قَالَ: إِنِّي مُسْلِمٌ.
قَالَ: "لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلاحِ" ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا‏ ‏مُحَمَّدُ,‏ ‏يَا ‏مُحَمَّدُ, ‏فَأَتَاهُ فَقَالَ: «مَا شَأْنُكَ؟» قَالَ: إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي وَظَمْآنُ فَأَسْقِنِي, قَالَ: «هَذِهِ حَاجَتُكَ»[18].
فهذا التردد على الرجل كلما نادى عليه -وهو القائد الأول للدولة الإسلامية- ومناداته باسمه مجرّدًا يدلّ على مدى الرحمة والإنسانية التي يحملها الرسول في قلبه لكل البشر.
وأعطى رسولُ الله لأبي الهيثم بن التيّهان أسيرًا, وأمره بالإحسان إليه, فأخذه أبو الهيثم إلى منزله, ثم قال: إن رسول الله أوصاني بك خيرًا, فأنت حُرٌّ لوجه الله, ورُويَ أنه قال له: "أنت حُرٌّ لوجه الله, ولك سهم من مالي"[19].

احترام مشاعرهم الإنسانية :
إن الإسلام يرفع من قيمة البشر, ويحترم المشاعر الإنسانية احترامًا كبيرًا, سواء مع المسلمين أو مع غيرهم, وقد وجدنا تطبيقات عمليّة كثيرة لهذا الأمر في حياة النبيّ, ويظهر هذا الأمر بوضوح في أوقات الشدائد وبعد الحروب خاصّة, فنجد النبي يوجِّه أصحابه الكرام توجيهات إنسانية راقية في شأن التعامل مع الأسرى من النساء والأطفال؛ فينهى عن التفريق بين الأم وطفلها؛ فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[20].
ولعلّ القصّة التالية تكون خاتمة جميلة لهذا المقال, حيث تظهر فيها رحمة الرسول في أبهى صورها, فقد أتى أبو أُسَيْدٍ الأنصاري بسبي من البحرين فَصُفُّوا, فقام رسول الله, فنظر إليهم؛ فإذا امرأة تبكي؛ فقال: «ما يُبْكِيكَ؟» فقالت: بِيعَ ابني في بني عبس؛ فقال رسول الله r لأبي أسيد: «لَتَرْكَبَنَّ فَلَتَجِيئَنَّ به», فركب أبو أسيد فجاء به[21]!
لقد رَقَّ قلب رسول الله للمرأة الأسيرة فأرسل أحد جنوده إلى بلد بعيد ليأتي لها بابنها, حتى يهدأ بالها, وتجفّ دموعها!

ولعلّ السؤال الأبرز الذي يخطر على بالنا الآن: هل هناك قائد عسكريٌّ في العالم ينتصر في معركة فيشغل نفسه وجنوده لإسعاد امرأة أسيرة بسيطة لا يعرفها أحد؟!!
إن الإجابة التي يعرفها الجميع هي أن ذلك أبدًا لا يكون!!
إلا أن يكون هذا القائد هو محمد رسول الله !! وصدق الله إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (إدوارد ورمسي) مستشرق أمريكي: في دراسة له عن العالم قبل بعثة النبي, دائرة المعارف البريطانية.
[2] مكسيموس مونروند: (تاريخ حرب الصليب [173-172]).
[3] أخرجه الطبراني في (الكبير [977]), وفي (الصغير [409]), وقال الهيثمي في (المجمع: إسناده حسن من حديث أبي عزيز بن عمير [10007]).
[4] ابن كثير (تفسير القرآن العظيم [4/584]).
[5] هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي (70هـ - 150هـ) مولى بني أمية, كان أحد أوعية العلم, وهو أول من صنَّف التصانيف في الحديث. انظر: (الصفدي الوافي بالوفيات [1/2752], وانظر: الزركلي: (الأعلام [4/160]).
[6] البيهقي (شعب الإيمان [6/526]).
[7] ابن كثير (السيرة النبوية [2/475]).
[8] البخاري: كتاب الجهاد والسير, باب كسوة الأسرى [2846], ورواه البيهقي في (سننه الكبرى [18570]).
[9] ثياب المعقد: المُعَقَّدُ: ضَرْبٌ من بُرُودِ هَجَرَ. انظر (تاج العروس [1/2130]).
[10] البيهقي: (دلائل النبوة [5/264]).
[11] البخاري: كتاب أبواب المساجد, باب الاغتسال إذا أسلم [450], ومسلم: كتاب الجهاد والسير, باب ربط الأسير وحبسه [1764], ورواه أبو داود [2679], ورواه النسائي مختصرًا [712], ورواه ابن خزيمة في صحيحه [252].
[12] الألوسي (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني [29/ 155]), والحديث من مراسيل الحسن البصري.
[13] البخاري: كتاب التوحيد, باب قول الله: "قل ادعوا الله" [6941], ومسلم: في الفضائل, باب رحمته بالصبيان [2319], والترمذي [1922], وأحمد [19189].
[14] ابن هشام (السيرة النبوية [1/ 616] [617]), وانظر الصالحي الشامي (سبل الهدى والرشاد [4/27]), والسهيلي (الروض الأنف [3/58]).
[15] محمد بن يوسف المواق: (التاج والإكليل [3/353]).
[16] هي ناقة رسول الله.
[17] سابقة الحاج: أراد بها العضباء فإنها كانت لا تسبق أو لا تكاد تسبق معروفة بذلك.
[18] مسلم: كتاب النذر, باب لا وفاء لنذر في معصية الله [1641], وأبو داود [3316], وابن حبان [4859], والشافعي [1490], والدارقطني [37], والبيهقي في سننه [17845], وأبو نعيم في (الحلية [8/651]).
[19] الإمام البيهقي (شعب الإيمان [4606]).
[20] الترمذي [1566], وقال: حديث حَسَنٌ غريب, وأحمد [23546], وقال شعيب الأرناءوط: حسن, والحاكم [2334] وقال: هذا حديث صحيح, والطبراني في (الكبير [4080]), والبيهقي في سننه [18089] وقال الألباني: صحيح. حديث [6412] في صحيح الجامع.
[21] الحاكم [6193], وقال: هذا حديث صحيح الإسناد, ولم يخرَّجاه, ورواه سعيد بن منصور في سننه [2654].

المصدر: قصة الإسلام

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.