وقفات منهجية تربوية - (4) الوقفة الأولى: التثبت من الأخبار قبل إصدار الأحكام

منذ 2014-04-10

إن أعظم القضايا التي فيها دروس وعبر هي قضية موت النبي صلى الله عليه وسلم وما تبع الوفاة في ذلك الوقت.

موقف الصحابة في قضية موت النبي صلى الله عليه وسلم:

إن أعظم القضايا التي فيها دروس وعبر هي قضية موت النبي صلى الله عليه وسلم وما تبع الوفاة في ذلك الوقت. وقد وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها المجتمع المسلم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "بقي المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الظلماء الشاتية بالأرض المسبعة ليس لها راع"، وهذا تشبيه بليغ؛ إذ إنهم فقدوا قائدهم ومعلمهم وموجههم صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن الصدمة عنيفة والمصيبة شديدة.

 

ولما حدثت هذه الفاجعة الكبرى انقسم الصحابة رضوان الله عليهم إلى ثلاثة أقسام:

قسم مصدق بالخبر: وهم من كان عند النبي صلى الله عليه وسلم عندما فاضت روحه الطاهرة.

وقسم شاك متردد: وهم سواد الصحابة،،

وقسم ثالث: مكذب الخبر برمته وعلى رأس هؤلاء الفاروق عمر رضي الله عنه.

فما كان موقف الصديق رضي الله عنه؟؟

تذكر الروايات أن الصّديق رضي الله عنه عندما كان ما كان من خبر الوفاة كان في مكان من عوالي المدينة، فلما ترامت الأنباء إلى مسامعه جاء إلى المدينة ووصل المسجد، ولم يكلم أحدًا، ودخل إلى بيت عائشة ودلف إلى حجرتها ثم رأى النبي صلى الله عليه وسلم مسجى وعليه بردة حبرة، فكشفها عن وجهه الشريف ثم قبّله وقال: "طبت حيًا وميتًا" (رواه البخاري).

إذن:

تبين للصّديق رضي الله عنه أن خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كالشمس في نحر الظهيرة، ليس دونها سحاب، والآن سيبني الصّديق على ذلك حِكمًا وأحكامًا، وعمر رضي الله عنه ما زال يكلم الناس مهددًا متوعدًا بقتل من يقول بموت النبي صلى الله عليه وسلم.

ولنتناول بعض الدروس المستفادة من هذا الحدث الكبير، وموقف الصّديق والصحابة رضي الله عنهم.

 

الوقفة الأولى: التثبت من الأخبار قبل إصدار الأحكام

فحين بلغ الصّديق رضي الله عنه خبر الوفاة لم يكلم أحدًا وجاء من أعالي المدينة، لأنه كان هناك وقت الوفاة النبوية، ودخل بيت عائشة والناس يموجون، وعمر يخطب في الناس، ولم يتدخل في القضية حتى وقف على علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. وكل هذه الأمور تحققت له والرفق لم يفارقه في معالجة الموقف.

ولهذا لاحظ ما يحصل من بعض الناس من العجلة في الأمور، والبت فيها دون روية أو تثبت أو تأكُد. وهذه العجلة مذمومة؛ لأن مثل هذه الأمور العظام ينبغي التأني قبل الجزم بها، خاصة في أوقات الفتن والنوازل الفاجعة، ويكون كما قالوا: يكسر القلم، ويكف اللسان، ويكون الإنسان على تثبت وتؤدة. قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيءِ إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه» (رواه مسلم).

فعلى المرء عامة والداعية خاصة أن يتثبت من أي خبر يأتيه، ولا يحدث بكل ما يسمع، حتى لا يكون داخلا تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع» (رواه مسلم). وقوله عليه السلام: «بئس مطية الرجل زعموا» (رواه أحمد). وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، وفي قراءة متواترة: {فَتَثَبَتُوا}.

ومنهج طالب العلم منهج الصحابة الذين لا يقبلون الإشاعات بمجرد سماعهم لها، ولا يلتفتون إليها حتى يتأكد الواحد منهم من صحتها، فيبني عليها أحكامه وحكمه. لأن الإشاعات لا تُصدق بمجرد سماعها؛ فكم من إشاعة رفعت باطلا وخفضت حقًا، وكم من إشاعة برأت متهما واتهمت بريئًا، وكم من إِشاعة أماتت حيًا وأحيت ميتًا؟ ثم لما تكشّفت الأمور أصبحت تلك الأخبار كسراب بقيعة!! إذن أول موقف من الإشاعة هو التثبت منها ومن الأخبار عامة، والحذر من بناء الأحكام عليها قبل ثبوتها.

وشاهد المقال أن : الصّديق رضي الله عنه لما بلغه الخبر لم يكلم أحدًا، لماذا؟

لأنه كانت لديه القدرة على التحقق من الأمر بالمشاهدة بعد ما جاءه أمر القصة عن طريق السماع، وأنت تعلم أن الخبر لا يرقى إلى مستوى العيان، ولذا قال الشاعر:

يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما *** قد حدثوك فما راءٍ كم سمعا

إذن من أعظم الأمور المنهجية أن يتريث الشخص عند سماع الإشاعات، وأن يتقي الله تعالى من العجلة في تصديقها، وبناء الأحكام عليها قبل ثبوتها. لكن إن ثبتت بها الأخبار، وجاءت القرائن تقطع بوقوعها بوسائل معروفة فنعم، أما مجرد أن تتلقفها أذناه فيبني عليها حكمًا فيأمر وينهى، ويغضب ويرضى، فهذا ليس من المنهج الدعوي السليم.

وانظر إلى فقه الصّديق رضي الله عنه كيف تأنى وتروى في قبول تلك الإشاعة مع أن الصحابة كانوا حوله، وكان يستطيع أن يسألهم؛ ولكن لما كان قادرًا على أن يقف على الحقيقة بنفسه رأى أن المصلحة لا تكون إلا بذلك، فبادر ليتأكد بنفسه، فلما رأى الصّديقُ النبيَ صلى الله عليه وسلم قد مات علم أن تلك الإشاعة أصبحت حقًا لا مرية فيه، تلك الساعة ما الذي فعله الصّديق رضي الله عنه؟؟

هذا ما سنعرفه في الوقفة الثانية بإذن الله تعالى...

 

ملخص من كتاب: وقفات منهجية تربوية دعوية من سير الصحابة.

المقال السابق
(3) تعريف الصحابي وفضل الصحابة
المقال التالي
(5) الوقفة الثانية: الرضا بقضاء الله تعالى وقدره