دروس من الحج
منذ 2007-11-26
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة على خير النبيين وإمام المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأما بعد..
فإنّ الحج مدرسة إيمانية عظيمة، يتلقى فيه المسلمون الدروس العظيمة والفوائد الجليلة والعبر النافعة في شتى المجالات، وفي جميع أبواب الدين (العقائد والعبادات والسلوك) ويتفاوتون في قوة تحصيلها وحسن اكتسابها تفاوتاً عظيماً بين مقلٍّ ومستكثر؛ والتوفيق بيد الله وحده.
ولذا رأيت أن من المفيد استخلاص جملة من الدروس العظيمة المستفادة في الحج والمتعلقة بجانب الاعتقاد خاصة، إذ هو الأساس والأصل الذي تبنى عليه الأعمال، ويقوم عليه الدين كله، وهي مجرد إشارة إلى بعض الدروس المستفادة فيه، وإلا فإن ما يستفاد فيه من دروس وفوائد أمر يفوق الحصر، ولا يبلغه العدّ.
وقد بلغ عدد هذه الدروس المستخلصة هنا ثلاثة عشر درساً، راعيتُ أن تكون متجانسة في حجمها وطريقة طرحها، والله أسال أن ينفع بهذا الجهد وأن يتقبّله بقبول حسن إنه نِعمَ المجيب.
الأول: بيان أن الحج مدرسة عظيمة..
لا ريب أنّ الحج من أفضل الطاعات، وأجلّ القربات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه تعالى، بل هو عبادة من العبادات التي افترضها الله وجعلها إحدى الدعائم الخمس التي يرتكز عليها الدين الإسلامي الحنيف، والتي بيّنها رسول الله بقوله في الحديث الصحيح: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت».
وثبت عنه في أحاديث كثيرة ترغيب أمته في الحج وحثّهم على هذه الطاعة العظيمة، وبيّن لهم ما يغنمونه في الحج من أجور عظيمة وثواب جزيل وغفران للذنوب.
روى مسلم في صحيحه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه عند إسلامه: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟».
وروى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه».
وروى مسلم من حديث هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ... والحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنّة ».
وقد حجَّ صلوات الله وسلامه عليه بالنّاس -في السنة العاشرة من الهجرة النبوية- حجته التي رسم فيها لأمته عملياً كيفية أداء هذه الفريضة العظيمة، وحثّ على تلقّي كل ما يصدر منه من أعمال وأقوال، فقال عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني مناسككم فلعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا» ؛ فسُمِّيَتْ حجة الوداع، وفيها نزل على رسول الله قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}[المائدة:3].
إنّ الواجب على كل مسلم قدِم لأداء هذه الطاعة العظيمة أن يجتهد تمام الإجتهاد في معرفة هدي النبي صلى الله عليهخ وسلم في الحج، وكيفية أدائه لمناسكه ليسلك منهجه وليسير على طريقه، وليقتفي أثره وليأخذ عنه مناسكه، وليتأتى له بذلك الإتيان بالحج على التمام والكمال؛ إذ لا كمال في هذه الطاعة -وفي غيرها من الطاعات- إلاّ بالاقتفاء لآثار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والسير على منهاجه.
لا ريب أنّ كل مسلم على وجه الأرض تتحرك نفسه في هذه الأيّام المباركة شوقاً لأداء هذه الطاعة العظيمة، وطمعاً في تحقيق هذا النُسك الجليل، ومحبة لرؤية بيت الله العتيق إذ أنّ المسلمين جميعهم صلتهم ببيت الله الحرام وثيقة، وهي تنشأ منذ بدء انتماء المسلم لدين الإسلام وتستمر معه ما بقيت روحه في جسده. فالصبي الذي يولد في الإسلام أول شيء يطرق سمعه من فرائض الإسلام أركانه الخمسة التى أحدها حج بيت الله الحرام، والكافر إذا أسلم وشهِد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله، أول ما يوجه إليه من فرائض الإسلام بقية أركانه بعد الشهادتين وهي: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام، وأول أركان الإسلام بعد الشهادتين: الصلوات الخمس التي افترضها الله على عبادة في كل يوم وليلة، وجعل استقبال بيته الحرام شرطاً من شروطها.
قال الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}[البقرة:144]، فصلة المسلم ببيت الله الحرام مستمرة في كل يوم وليلة، يستقبله مع القدرة في كل صلاة يصليها، فريضة كانت أو نافلة كما يستقبله في الدعاء..
ولهذا فإنّ هذه الصلة الوثيقة التي حصل بها هذا الإرتباط بين قلب المسلم وبيت ربه بصفة مستمرة، تدفع بالمسلم - ولا بد - إلى الرغبة الملحّة في التوجه إلى ذلك البيت العتيق ليمتع بصره بالنظر إليه، وليؤدي الحج الذي افترضه الله عليه إذا استطاع إليه سبيلا.
فالمسلم متى استطاع الحج بادر إليه أداء لهذه الفريضة ورغبة في مشاهدة البيت الذي يستقبله في جميع صلواته.. {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:97].
ولهذا فإنّ الواجب عليك أخي الحاج، أن تحمد الله كثيراً على نعمته العظيمة عليك، بالتوفيق لإداء هذه الطاعة، والقدوم لتحقيق هذه العبادة، والتشرف برؤية بيت الله العتيق، قبلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن تجتهد في تكميل أعمال الحج على أحسن وجه وأكمل حال دون إخلال أو تقصير، ودون إفراط أو تفريط. بل تكون على هدي قاصد وطريق مستقيم متّبعاً في ذلك رسولك الكريم صلى الله عليه وسلم، تبتغي بعملك هذا مرضاة ربك ونيل ثوابه ومغفرة الذنوب، ولتعود إلى بلادك بعد هذه الرحلة المباركة وذنبك مغفور، وسعيك مشكور، وعملك صالح متقبّل مبرور، بحياة جديدة صالحة مليئة بالإيمان والاجتهاد في طاعة الله.
إنّ الحج فرصة عظيمة للتزوّد فيه من زاد الآخرة بالتوبة إلى الله، والإنابة إليه والإقبال على طاعته، والسعي في مرضاته.
ومن خلال الحج ومناسكه، يتهيأ للحاج فرص كثيرة لتلقّي الدروس النافعة والعبر المؤثرة، والفوائد الجليلة والثمار الكريمة اليانعة في العقيدة والعبادة والأخلاق، بدءاً بأول عمل من أعمال الحج يقوم به العبد في الميقات، وانتهاءً بآخر عمل من أعمال الحج، بطواف سبعة أشواط يودع فيها الحاج بيت الله الحرام، وهو - بصدق - مدرسة تربوية إيمانية عظيمة، يتخرّج فيها المؤمنون المتّقون، فيشهدون في حجّهم المنافع العظيمة والدروس المتنوعة والعظات المؤثرة، فتحيى بذلك القلوب ويتقي الإيمان. يقول الله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ (27) لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ..}[الحج:27-28].
ومنافع الحج لا تحصى، وفوائده لا تستقصى، وعبره ودروسه المستفادة منه لا يحاط بها، وسوف نقف بإذن الله تعالى من خلال هذه الرسالة على جملة طيبة ومجموعة نافعة من الدروس العظيمة والمنافع الجليلة المسفادة من حج بيت الله الحرام، وبالله وحده التوفيق.
الثاني: في بيان جملة من منافع الحج
تقدم الكلام على فضل الحج ورفعة مكانته وأنّه من أجلّ العبادات وأعظم القربات، وأنّه ركن من أركان الإسلام العظيمة، وأساس من أسسه المتينة التي بها يقوم وعليها بنيانه. وتقدّم الإشارة إلى الحج فيه من الفوائد والمنافع الدينية والدنيوية ما لا يحصيه المحصون ولا يقدر على عده العادون، وفي ذلك يقول الله تعالى في القران الكريم: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ (27) لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} [الحج:27-29]، فالحج مليء بالمنافع العظيمة الدينية والدنيوية، واللام في قوله تعالى: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} هي لام التعليل وهي متعلقة بقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}، أي: أن تؤذن فيهم بالحج يأتوك مشاة وركباناً لأجل أن يشهدوا - أي يحضروا - منافع لهم، والمراد بحضورهم المنافع حصرها لهم.
وقوله تعالى في الآية {مَنَافِعَ} هو جمع منفعة، ونكّر المنافع لأنّه أراد مختصة بهذا العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات مجتمعة.
روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} قال: "منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة. فأمّا منافع الآخرة فرضوان الله عزّ وجل، وأمّا منافع الدنيا فما يصيبون من لحوم البدن في ذلك والذبائح والتجارات".
وروى عبد الرزاق عن مجاهد رحمه الله في قوله تعالى: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ}، قال: "التجارة وما أرضى الله من أمر الدنيا والآخرة".
وروى ابن جرير والطبري في تفسيره عن مجاهد رحمه الله: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ}، قال: "الأجر في الآخرة والتجارة في الدنيا"، فالمنافع التي يحصلها الحجيج ويجنونها في حجهم لبيت الله الحرام عديدة ومتنوعة؛ منافع دينية من العبادات الفاضلة والطاعات الجليلة التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية من التكسّب وحصول الأرباح الدنيوية، كما قال تعالى في سياق آيات الحج من سورة البقرة: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ..} [البقرة:198].
روى أبو داود وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "كانوا يتّقون البيوع والتجارة في الموسم والحج، يقولون: أيام ذكر، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}".
وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية أنّه قال: "لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده".
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}، أنّه ليس على الحاج إثم ولا حرج إذا ابتغى ربحاً بتجارة في أيام الحج، إن كان ذلك لا يشغله عن شيء من أداء مناسكه.
ومن المنافع الدنيوية أيضاً للحجاج، ما يصيبونه من البدن والذبائح كما قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، إلاّ أنّ ما يحصله الحاج من منافع دينية في حجه لا تقارن بهذه المنافع الدنيوية؛ إذ في الحج من الأجور العظيمة والثواب الجزيل ومغفرة الذنوب، وتكفير السيئات وغيره، ذلك ممّا لا يحصى من الفوائد الدينية العظيمة التي ينالها الحاج إن كان متقياً لله في حجه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
وأي خير أعظم وأي ربح أجلّ من أن يخرج الحاج من حجه كيوم ولدته أمه بلا إثم ولا خطيئة كما قال الله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} ألبقرة:203].
وقد اختار ابن جرير في تفسيره لهذه الآية، بعد أن ذكر أقوال أهل العلم في معناها، أنّ المراد {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} من أيام منى الثلاثة فنفر في اليوم الثاني، فلا إثم عليه لحط الله ذنوبه إن كان قد اتقى الله في حجه، فاجتنب فيه ما أمره الله باجتنابه وفعل فيه ما أمره الله بفعله، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدود، ومن تأخر إلى الثالث فلا إثم عليه لتكفير الله ما سلف من آثامه وإجرامه، إن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده".
ثم ذكر رحمه الله تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» وقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنّة» وقوله صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنّهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد».
فهذه النصوص تدل على أنّ من حج فقضاه بحدوده على ما أمره الله فهو خارج من ذنوبه كما قال جل وعلا: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} أي: اتقى الله في حجه بفعل الأوامر واجتناب النواهي. ولا ريب أن هذه فضيلة عظيمة ومنفعة جليلة تسارع في نيلها النفوس المؤمنة، وتطمع في تحصيلها النفوس الصادقة. فلله، ما أجلّها من فضيلة وأعظمها من منفعة عندما ينقلب الحاج إلى بلده بعد قضائه لحجه وذنبه مغفور، قد خرج من ذنوبه وآثامه طاهراً نقياً كيوم ولدته أمه، ليس عليه ذنب ولا خطيئة إذا كان متقياً ربه في حجه.
بل إنّ الرب سبحانه من عظيم كرمه وجميل إحسانه بعباده الحجيج، يباهي ملائكته بحجاج بيته الحرام عندما يقفون جميعهم على صعيد عرفة ويقول: «انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أنّي قد غفرت لهم».
وبهذا يتبين أنّ الحاج يعود من حجه بأكبر ربح وأعظم غنيمة ألا وهي مغفرة ربه لذنبه، فيبدأ بعد الحج حياة جديدة صالحة مليئة بالإيمان والتقوى، عامرة بالخير والاستقامة والمحافظة على الطاعة. إلا أن حصول هذا الأجر مشروط كما تقدم بأن يأتي بالحج على وجه صحيح بإخلاص وصدق وتوبة نصوح، مع مجانبةِ لما يخل به من رفث وفسوق، فإذا كان كذلك جب ما قبله وخرج الحاج بتلك الحال الرائعة كيوم ولدته أمه بلا إثم ولا خطيئة.
الثالث: الدلالات العقدية في الإهلال بالتوحيد
إنّ من أجلّ الدروس العظيمة التي يفيدها المسلم في حجه لبيت الله الحرام، وجوب إخلاص العبادات كلها لله وحده لا شريك له فالمسلم يبدأ حجه أول ما يبدأ بإعلان التوحيد ونبذ الشرك قائلاً: " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، يقولها ويرفع بها صوته، وهو في الوقت نفسه مستشعر ما دلّت عليه من وجوب إفراد الله وحده بالعبادة، والبعد عن الشرك.
فكما أن الله متفرد بالنعمة والعطاء لا شريك له، فهو متفرّد بالتوحيد لا ند له، فلا يدعى إلاّ الله ولا يتوكل إلاّ على الله ولا يستغاث إلاّ به، ولا يصرف أي نوع من أنواع العبادة إلاّ له.
وكما أن العبد مطالب بقصد الله وحده في الحج، فهو مطالب بقصده وحده في كل عبادة يأتيها وكل طاعة يتقرب بها، فمن صرف شيئاً من العبادة لغير الله أشرك بالله العظيم، وخسر الخسران المبين وحبط عمله، ولم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.
لقد جاء الإسلام بهذا الإهلال العظيم - الإهلال بتوحيد الله وإخلاص الدين له والبعد عن الشرك كله صغيرة وكبيرة دقيقة وجليلة - بينما كان المشركون عبّاد الأصنام والأوثان يهلّون في إحرامهم بالحج بالشرك والتنديد، فكانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"، فيدخلون مع الله في التلبية آلهتهم الباطلة، ويجعلون ملكها بيده وهذا هو معنى قول الله عنهم في القران الكريم {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف:106]، أي ما يؤمن أكثرهم بالله بأنّه الخالق الرازق المدبر إلاّ وهم مشركون معه في العبادة أوثاناً لا تملك شيئاً، وأصناماً لا تنفع ولا تضر ولا تعطي ولا تمنع، بل لا تملك من ذلك شيئاً لنفسها فضلاً عن أن تملكه لغيرها.
روى ابن جرير والطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال ؟ قالوا: الله، وهم مشركون".
وعن عكرمة أنه قال: "تسألهم من خلقهم ومن خلق السماوات والأرض فيقولون: الله، فذلك إيمانهم بالله وهم يعبدون غيره".
وعن مجاهد قال: "إيمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره". وعن ابن زيد قال: "ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله ويعرف أن الله ربه، وأن الله خالقه ورازقه وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)} [الشعراء:75-77]، أنّهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون، قال: فليس أحد يشرك إلا وهو مؤمن به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبّي تقول: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، المشركون كانوا يقولون هذا".
لقد كان المشركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم يقرّون بأن خالقهم ورازقهم ومدبر شؤونهم هو الله، ثم هم مع هذا الإقرار لا يخلصون الدين له بل يشركون معه غيره في العبادة، من الأشجار والأحجار والأصنام وغيرهم. وقد جلّى الله هذا الأمر وبيّنه في مواطن كثيرة من القران الكريم كقوله سبحانه {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "يقول تعالى مقرراً أنّه لا إله إلاّ هو، لأنّ المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنّه المستقل بخلق السماوات والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار، وأنّه الخالق الرازق لعباده ومقدر آجالهم، واختلافها واختلاف أرزاقهم، فتفاوت بينهم، فمنهم الغني والفقير وهو العليم بما يصلح كلاً منهم، ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك، فلم يعبد غيره ؟ ولم يتوكل على غيره ؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته، وكثيراً ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك".
وهذا المعنى يكثر في القرآن الكريم والاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبية الله جل وعلا على وجوب توحيده في عبادته وإخلاص الدين له، ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية والتقرير، فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنّه هو المستحق لأن يعبد وحده، ووبّخهم منكراً عليهم شركهم به غيره مع اعترافهم بأنّه هو الربّ وحده لأنّ من اعترف بأنّه الربّ وحده، لزمه أن يخلص العبادة كلها له. وبهذا يتبين أن الاعتراف بأنّ الله هو الخالق الرازق المنعم المتصرف المدبر لشؤون الخلق لا يكفي في التوحيد ولا ينجي من عذاب الله يوم القيامة، ما لم تخلص العبادة كلها لله وحده، فالله لا يقبل من عبادة توحيدهم له في الربوبية إلاّ إذا أفردوه بتوحيد العبادة، فلا يتخذون له نداً ولا يدعون معه أحداً ولا يتوكلون إلاّ عليه ولا يصرفون شيئاً من العبادة إلاّ له سبحانه، فكما أنّه سبحانه المتفرّد بالخلق فهو سبحانه المتفرّد بجميع أنواع العبادة. ولهذا قال تعالى للذين صرفوا العبادة لغيره مع أنّهم يعلمون أنّه خالقهم ورازقهم {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أي لا تشركون بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنّه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أنّ الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه".
وقال قتادة: " أي تعلمون أنّ الله خلقكم وخلق السماوات والأرض ثم تجعلون له أنداداً ".
إنّ النعمة على أمة الإسلام عظيمة بهدايتهم إلى توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، والنعمة عليهم عظيمة بتوفيقهم الإهلال بتوحيد الله بعد أن كان غيرهم يهل بالشرك والتنديد.. فله الحمد سبحانه على توفيقه وإنعامه وهدايته حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا الكريم ويرضى..
عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد
المصدر: طريق الإسلام
عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر
عضو هيئة التدريس بالجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
- التصنيف: