وقفات منهجية تربوية - (15) الوقفة الثانية عشرة: قصة صلح الحديبية

منذ 2014-04-14

من مواقف رجوع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الحق.. هذا الموقف الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

وفي الحقيقة إن هذا الحدث من أعظم الأحداث. ذلك أن كثيرًا من العقول تأباه وترده في بداية الأمر وعند النظرة الأولى الظاهرة. وناهيك عما جاء في الروايات من أن عمر رضي الله عنه استبشع هذا الأمر في أوله وتكابر أن يكون هذا.. لكنه كعادته سرعان ما رجع إلى الحق عندما تبين له.

يأتي كفار قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويملون عليه شروطهم ومنها: (يا محمد من جاءك منّا مسلما ترده إلينا، ومن جاءنا منكم كافرا لا نرده لك). لو أن هذا الشرط قُرئ على ملايين من المسلمين ولم يكن عند بعضهم خبر الحديبية لأنكره الجميع، ومع ذلك وافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك

فجاء عُمر مستنكرًا هذا الشرط. وقال: يا نبي الله! ألست نبي الله حقًا؟ قال: «بلى». قال: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: «بلى». قال: فلِمَ نعطي الدَّنية في ديننا إذًا؟ قال: «إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري»، قال: يا رسول الله! ألم تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى. فأخبرتك أنا نأتيه العام؟» قال: لا. قال: «فإنك آتيه ومطوف به».

فذهب عُمر إلى الصّديق لعل الأمر يتغير وسأله كما سأل النبي، لكنّ الصّديق أجابه بما أجابه النبي وكان الجواب متطابقًا، قال ابن القيم: "وتطابق العبارات، يدل على تطابق القلوب".

فما صبر عُمر لأنه كان شديدًا على الحق رضي الله عنه.. فالعقل لا يقبل هذا الصلح مع المشركين ولا هذا الشرط الذي في ظاهره أنه حيف وظلم وجور، لكن العاقبة للمتقين. وتأمل سير القصة وانظر كيف سلّم عُمر وأذعن ولم يتردد؛ لأن هذا أمر شرعي لا مناقشة فيه ولا مجادلة. وهنا يأتي الامتثال لقول الله تعالى:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب:36]، وفي الآية الأخرى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:56].

فقد تأتي الأدلة الشرعية من خلال كلام أهل العلم تخالف ما في النفوس من الشهوات، وتخالف ما في العقول من القناعات، فينبغي على صاحبها أن يأطرها أطرًا، وأن يقودها إلى حظيرة الحق، وأن يسوقها سوقا جميلا. وفي مواطن الفتن الكبيرة والنوازل قد تأتي بعض الفتاوى من كبار أهل العلم لا تقبلها النفوس. صحيح أنه قد يصعب على بعض الناس، ولكن يبقى الأدب الشرعي مع العلماء، ويبقى الأدب في المخالفة إن كان ولا بد أن تبدي وجهة نظرك، لكن الطامة والمصيبة أن يُطعَن في النيات وأن تُتهم المقاصد فهذا يهدم المجتمع ولا يبني ولا يصلح.

وفي صلح الحديبية كان الشرط الذي في ظاهره حيف وظلم كان في صالح الإسلام والمسلمين وجاءت قريش بنفسها راغمة ذليلة تسعى وتطلب من النبي صلى الله عليه وسلم إلغاء هذا الشرط

لِمَ؟ لأن المسلمين الذين أسلموا أقاموا في منطقة أخرى بعيدا عن النبي وكانوا يقطعون على قريش طريق التجارة؛ فجاءوا صاغرين يطلبون إلغاء هذا الشرط الذي لا يقبله العقل في بادي الأمر. لكن من تأمل في النصوص، وفي مقاصد الشريعة، وأنها مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد وضحت له كثير من الصور جلية لا غبار فيها. قال ابن عقيل الحنبلي: "لو تمسك الناس بالنصوص الشرعية كما يتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم لصلح كثير من أمورهم". وفق الله الجميع للتمسك بالنصوص.

 

ملخص من كتاب: وقفات منهجية تربوية دعوية من سير الصحابة.

 

المقال السابق
(14) الوقفة الحادية عشرة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المقال التالي
(16) الوقفة الثالثة عشرة: التحذير من القول بلا علم