فتح مكة وإهدار الدماء
عهد رسول الله إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم بدخول مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نفر سمَّاهم بقتلهم، وإن وُجِدُوا تحت أستار الكعبة، منهم عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وعبد العزى بن خطل، وعكرمة بن أبى جهل، ومقيس بن صبابة، وقينتا ابن خطل كانتا تغنيان ابن خطل بهَجْوِ رسول الله، وسارة مولاة لبنى عبد المطلب.
كيف لنبي الرحمة أن يهدر دماء رجال من قريش في فتح مكة؟
كان محمد رحمة حقيقة، وإني بلهفة وشوق إلى أن أصلي عليه وعلى أتباعه [1].
بعد أن نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في غزو أفغانستان قامت قواتها باقتياد 800 مقاتل من طالبان بعد استسلامهم إلى معتقل قلعة جانجي في أفغانستان ثم أمرت الطيران الحربي بقصف المعتقل مما خلف مئات الجثث المتفحمة، كما قامت القوات الأمريكية بشحن 3000 أسير أفغاني في حاويات نقل مغلقة بحجة نقلهم إلى سجن شبرقان بأفغانستان وتركتهم في العربات المغلقة في الصحراء وهم مقيدين ومعصوبي الأعين لمدة أربعة أيام مبتكرة طريقة جديدة للقتل البشع [2]!! هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر!!
سؤال يردده المشككون في رحمته.. وفي الإجابة عليه يجب أن يعرف أصحابه أولاً سبب هذه الغزوة (فتح مكة).. والأمر الجَليُّ هو أن قريشًا قد غدرت بصلح الحديبية ونقضت هذا الصلح، وذلك حينما أغار رجال منها مع بني بكر على خزاعة ليلاً، فأصابوا منهم رجالاً.. وكانت خزاعة قد دخلت في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما جعل الرسول يتحرك بالجيش الإسلامي نحو مكة، ليكون الفتح العظيم بعد أكثر من عشرين سنة من الاضطهاد والتعذيب له ولأصحابه.. وحينها يجتمع القوم الذين لم يُدركوا قيمة (العظيم) الذي كان يعيش بينهم.. ويتوقع الجميع يومًا داميًا يُنتقم فيه لآلام السنوات السابقة، ولدماء الشهداء الذين قتلتهم قريش، ويقف المتكبرون من أهل قريش في ذلة وصَغار أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون حُكمًا رادعًا بقتلٍ أو نفيٍ أو استرقاق.
وهنا يتساءل الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم في رقَّةٍ وتلطفٍ وتواضعٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُم؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وابْنُ أَخٍ كَرِيم. قال: اِذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ!! [3].
هكذا.. دون عتاب أو لوم أو تقريع!! وإنه لمن أعجب مواقف التاريخ حقًّا!! وقد تعجَّب الأنصار من هذا البِرِّ وتلك السماحة والرحمة غير المسبوقة، فقال بعضهم لبعض: "أمَّا الرجل [4] فأدركته رغبةٌ في قريته، ورأفةٌ بعشيرته" [5]!!
وكان رسول الله قد عَهِدَ إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم بدخول مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نفر سمَّاهم بقتلهم، وإن وُجِدُوا تحت أستار الكعبة، منهم عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وعبد العزى بن خطل، وعكرمة بن أبى جهل، ومقيس بن صبابة، وقينتا ابن خطل كانتا تغنيان ابن خطل بهَجْوِ رسول الله، وسارة مولاة لبنى عبد المطلب. فكان هؤلاء جميعًا أشد عداوة وبُغضًا للإسلام وللمسلمين ولسيد الخلق محمد، وكانوا شديدي الأذى له بمكة.
فأما ابن أبي سرح فكان قد أسلم وكتب الوحي ثم ارتد، فلما دخل رسول الله مكة وأهدر دمه فَرَّ إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان أخاه من الرضاعة، فلما جاء به ليستأمن له صمت عنه رسول الله ثم قال: نعم، وعفا عنه.
وأما عبد الله بن خطل فكان مسلمًا، وقد بعثه رسول الله مُصَدِّقًا [6]، وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولى له مسلمٌ يخدمه، فغضب عليه غضبةً فقتله، ثم ارتد مشركًا، وكان له قينتان، فكانتا تغنيان بهجاء رسول الله والمسلمين؛ فلهذا أهدر دمه ودم قينتيه، فقُتِلَ، وقُتِلت إحدى قينتيه واستُؤْمِن للأخرى.
وأما مقيس بن صبابة فكان قد قتل قاتل أخيه خطأ بعد ما أخذ الدية، ثم ارتد مشركًا. وأما سارة مولاة لبني عبد المطلب ولعكرمة بن أبى جهل، فكانت تؤذي رسول الله وهي بمكة، فأهدر الرسول دمها، فهربت حتى استؤمن لها منه فأمَّنها فعاشت إلى زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأما عكرمة بن أبى جهل فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، واستأمنت له من رسول الله فأمَّنه، فذهبت في طلبه حتى أتت به رسول الله فأسلم، وحَسُن إسلامه، وكان يُعَدُّ من فضلاء الصحابة [7].
ومن هذا يتبين لنا كرم أخلاق سيد الخلق وإمام المرسلين ورحمة العالمين محمد.. فقد أُوذِيَ من هؤلاء وغيرهم أشد الأذى، ولكن عفا عن معظمهم وكانت كلمته التي سجلها التاريخ: "اِذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ" أروع مثل لعفوه وسماحته ورحمته.
[1] جان ليك (مستشرق أسباني): العرب، ص 43.
[2] د. محمد الحسيني إسماعيل، الإسلام والغرب، ص 162، 163 بتصرف.
[3] ابن هشام: السيرة النبوية 2/ 411، وابن القيم: زاد المعاد 3/ 356، والسهيلي: الروض الأنف 4/ 170، وابن كثير: السيرة النبوية 3/ 570، وكذلك ابن حجر: فتح الباري 8/ 18، وقال الألباني: سنده ضعيف مرسل.
[4] يقصدون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
[5] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة (1780)، وأحمد (10961)، وابن حبان (4760).
[6] مُصَدِّقًا: أي جابيًا للصدقات.
[7] ابن سيد الناس: عيون الأثر2/ 236، ابن كثير: السيرة النبوية3/563.
راغب السرجاني
أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.
- التصنيف:
- المصدر: