رحمة النبي بغير المسلمين
إنه لشيء رائع حقًّا أن يرحم رسول الله أولئك الذين رفضوا عقيدته واعتنقوا غيرها, وأولئك الذين لم يعترفوا بنبوته أصلاً! بل إنه لشيء شديد الإبهار أن نراه يرحم ويَبَرُّ ويعطف ويحنو على أولئك الذين عذبوه وعذبوا أصحابه, وعلى أولئك الذين مارسوا معه ومع المسلمين أشد أنواع القسوة والعنف!! ...
كان محمد شديد التسامح, وبخاصة نحو أتباع الأديان الأخرى[1].
إذا كنا نتعجب من سعة رحمة النبي بالمسلمين فإننا ? ولا شك? سننبهر برحمته بغير المسلمين!
إن رحمته بالمسلمين أمر متوقع ومفهوم, فهم أتباعه وناصروه ومحبوه, وهم الذين يعتقدون عقيدته, ويدينون بدينه, وهم الذين يقدموه على أبنائهم وأزواجهم وأموالهم, بل وعلى أنفسهم, وإن أخطأ المسلمون أحيانًا فهو لهم كالأب لأولاده, وكالمعلِّم لتلامذته, بل أعظم من ذلك, فهوكان يقول: « » [2], فهو ليس فقط أقرب إليهم من والديهم ومعلميهم, ولكن أقرب إليهم من أنفسهم!
لهذا كله فرحمته بالمسلمين أمر مفهوم..
لكن أن تشمل رحمته غير المسلمين فهذا شيء مبهر حقًّا!!
إنه لشيء رائع حقًّا أن يرحم رسول الله أولئك الذين رفضوا عقيدته واعتنقوا غيرها, وأولئك الذين لم يعترفوا بنبوته أصلاً! بل إنه لشيء شديد الإبهار أن نراه يرحم ويَبَرُّ ويعطف ويحنو على أولئك الذين عذبوه وعذبوا أصحابه, وعلى أولئك الذين مارسوا معه ومع المسلمين أشد أنواع القسوة والعنف!!
ففي عهد الملك "لويس الرابع عشر" (1638م -1715م) أجريت مذابح رهيبة ضد البروتستانت, فسيق الكثيرون إلى الإعدام..
ومن نجا من القتل خيرهم الملك بين الارتداد عن البروتستانتية إلى الكاثوليكية وبين الهجرة من فرنسا, فهاجر نصف عدد البروتستانت، أي نحو نصف مليون، ذهبوا إلى هولندا وإنجلترا وبروسيا وأمريكا[3]..
هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر!!
لقد كانت العلاقة بينه وبين المخالفين له في الدين -والذين يعيشون معه في مجتمع واحد- أعلى بكثير من مجرد علاقة سلام ووئام, لقد كانت علاقة "بِرٍّ ورحمة" بكل معاني الكلمة..
ونحن لا نخالف الحقيقة إذا قلنا: إن رسول الله كان يعامل غير المسلمين المحيطين به معاملة الرجل لأهله..
فها هو أنس يروي موقفًا عجيبًا من مواقف رسول الله فيقول: كَانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ فَمَرِضَ؛ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ يَعُودُهُ؛ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ؛ فَقَالَ لَهُ: « »؛ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ؛ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ؛ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: « » [4].
وتدبر جيدًا بعقلك وقلبك!
هذا رسول الله يستعمل غلامًا يهوديًّا في الخدمة, ولا يمتنع عن ذلك ليجعل الحياة مع أصحاب الديانات الأخرى في داخل المدينة المنورة حياة طبيعية, ثم يمرض هذا الغلام فيذهب رسول الله ليعوده في بيته!!
إننا يجب أن ندرك -لنعرف قيمة الموقف- أن رسول الله هو أعلى سلطة في المدينة المنورة, والغلام اليهودي لا يعدو أن يكون خادمًا, وعلى غير مِلَّة الإسلام!
أيحدث في بقعة من بقاع الأرض أن يزور رئيس البلاد خادمًا له إذا مرض, وخاصة إذا كان على غير دينه؟!
إننا قد اعتدنا أن نقرأ مثل هذه المواقف عن حبيبنا فلم نعُدْ نحلل وندرس, ولكن الوقوف للتدبر في مثل هذه الكنوز يعطينا فيضًا هائلاً من الخير والحكمة.
ثم إنه لا ينسى وظيفته الأولى في الدنيا وهي البلاغ؛ فيدعوه للإسلام, فيسلم الغلام, فيخرج النبي فرحًا بإسلامه, كأنما أسلم أحدُ أَحَبِّ أهله إليه..
إن هذه هي الرحمة -حقيقةً- في أعلى صورها..
وهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تحكي فتقول: "قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي[5]وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ وَمُدَّتِهِمْ مَعَ أَبِيهَا فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَة، أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: « » [6].
ها هو يأمر أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن تصل أمها المشركة, ومع أن دولة قريش في ذلك الوقت كانت دولة محاربة, ولكنها في عهد مؤقَّت, فلم يمنع المرأة المشركة من دخول المدينة, ولا دخول بيت أسماء رضي الله عنها, وهو بيت الزبير بن العوام [7], وهو من كبار رجال الدولة, وقد يكون لديه من الأسرار ما لا يجب أن يطَّلع عليه المشركون, ومع ذلك فإن رسول الله لا يَحْرِمُ أمًّا مشركة من زيارة ابنتها المسلمة, ولا يحرم بنتًا مسلمة من بِرِّ أمها المشركة..
هكذا بمنتهى التسامح والرحمة, وبأعلى درجات الرضا.. إنه لم يفكر ولم يتردد.. فليس في الرحمة تردد!!
وفي موقف آخر لطيف يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, ويذكر فيه أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ [8] عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : « », ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً؛ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : « »؛ فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا[9]!!
فعمر يُهْدِي هذه الحُلَّة لأحد إخوانه المشركين [10], ورسول الله لا يعترض, وإقراره-كما هو معلوم- سُنَّة.
يقول الإمام النووي رحمه الله معلقًا على هذا الموقف: "وفي هذا دليلٌ لجواز صلة الأقارب الكفار والإحسان إليهم, وجواز الهدية إلى الكفار" [11].
وهذه رحمة من رسول الله بعمر, وكذلك رحمة بأقاربه المشركين!
ومن رحمته بغير المسلمين أنه كان يسلك معهم دائمًا مسلك التبشير, ويتخذ ذلك منهجًا عامًّا له, فكان هذا هو الغالب على حياته وعلى أقواله وأفعاله, ولم يكن يخرج عن هذا الطبع على الرغم من قسوة المشركين عليه?
روى ربيعة بن عباد الديلي -وكان مشركًا فأسلم- قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَقُولُ: « », وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ [12], عَلَيْهِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقُولُ شَيْئًا, وَهوَ لا يَسْكُتُ يَقُولُ: « »، إِلا أَنَّ وَرَاءَهُ رَجُلا أَحْوَلَ وَضِيءَ الْوَجْهِ ذَا غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ؛ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: مُحَمَّد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَّةَ؛ قُلْتُ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُكَذِّبُهُ؟ قَالُوا: عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ" [13].
فالرسول لم يخرج عن أدبه في المعاملة حتى مع السفاهة الواضحة لأبي لهب, وظل على منهج التبشير يدعو الناس إلى الفلاح والنجاة.
بل إنه كان يبشرهم بمُلْكِ الدنيا قبل نعيم الآخرة إن هم آمنوا بالله ولم يشركوا به شيئًا..
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: "مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ وَجَاءَهُ النَّبِيُّ وَعِنْدَ أَبِي طَالِبٍ مَجْلِسُ رَجُلٍ فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ كَيْ يَمْنَعَهُ وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالِبٍ؛ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ قَالَ: « »؛ قَالَ: كَلِمَةً وَاحِدَة؟!ً قَالَ: « » قَالَ: « », فَقَالُوا: إِلَهًا وَاحِدًا مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ؛ قَالَ: فَنَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ: {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ . بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص:1-2] إلى قوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} [ص:7]" [14].
فهو لا يعبس في وجوههم, ولا يقاطع مجالسهم, ولا ينظر لهم نظرة المتكبر المعرض, إنما يتلطف إليهم ويتودد, ويبشرهم بمُلك الدنيا ونعيم الآخرة.
وعندما هاجر رسول الله إلى المدينة, وتعامل مع مشركيها ويهودها سلك نفس المسلك مع كل الصَّدِّ والإعراض الذي وجده منهما.
لقد كان يريد لهم الخير كله على الرغم من جفائهم معه.
وموقف اليهود كان أشد غلظة مع الرسول مع أنهم لم يُفاجَأُوا بظهوره في المدينة, فكل الشواهد تقول إن اليهود كانوا يعرفون أمر رسول الله وهو بمكة المكرمة, وهو ما رجحه إسرائيل ولفنسون [15] في دراسته عن اليهود -وإن كنا نختلف معه في كثير من الآراء- إلا أن هذا الاستنباط يبدو صحيحًا..
يقول ولفنسون: "ونرجح أن اليهود لم يغفلوا عن الحركة الإسلامية لأنها متصلة بمصالحهم السياسية والتجارية والاجتماعية, خصوصًا لاحظنا اتجاه الدعوة الإسلامية صوب المدينة أواخر سنوات مكة, وميل زعماء الخزرج إلى الاتصال بالرسول, ونحن نعلم ما كان بينهم وبين اليهود من الحقد؛ مما جعل زعماء بني النضير وقريظة يراقبون حركاتهم, ثم نعلم أن الإسلام لم ينتشر خفية في يثرب, وكان مصعب بن عمير يدعو الناس إلى الله ورسوله على مرأى من جميع البطون, ثم إننا نعلم أن عددًا من تجار اليهود كان يشترك في مواسم الحج, فمن البعيد أن يجهل اليهود تلك الشئون.." [16].
وأضيف إلى ما قاله ولفنسون أن القرآن المكي صرَّح بأن علماء بني إسرائيل قد عرفوا صدق هذا الرسول.. قال تعالى في سورة الشعراء -وهي سورة مكية -: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197].
فكانت هذه آيةً للمشركين في مكة.. فمعنى ذلك أن المشركين سألوا اليهود عن صفة الرسول فوجدوه في كتبهم, فلا شك أن اليهود قد عرفوا عند ذلك أن الرسول المنتظر هو محمد.
وقد ذكر ابن إسحاق [17] ما يؤيد ذلك, حيث حكى إرسال قريش للنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى يثرب لسؤال أحبار اليهود عن الرجل الذي بُعِثَ فيهم, فدلَّهم أحبار اليهود على عدة مسائل جاءت في التوراة ولا يعرفها إلا نبيٌّ, وبالفعل حمل القرشيان هذه الأسئلة إلى رسول الله, وأجاب عنها بما هو في كتب التوراة, وكان هذا الموقف سببًا في نزول سورة الكهف [18], وهكذا وَضُحَ للجميع أن الرسول صادق..
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف:157]. عدة روايات تشير إلى معرفة اليهود بأمر رسول الله في فترة مكة المكرمة.
وكل هذه الشواهد تؤكد أن اليهود ما كانوا يجهلون الرسول بصفته التي جاءت في كتبهم, وأنهم كانوا يتوقعون ظهوره في هذا الزمان, ثم مَرَّت الأيام وهاجر رسول الله إلى المدينة, ومن أول أيامه هناك حاول أن يتقرب إلى اليهود قدر المستطاع لكونهم أهل كتاب, وإسلامهم ينبغي أن يكون متوقعًا..
إذن كانت هناك خلفية علمية عند اليهود تشير إلى أن هذا وقت نبي آخر الزمان, وكان عندهم علم أن هذا الرسول قد تجمعت فيه الدلائل والمبشرات التي جاءت في كتبهم, ثم إنه يتودد إليهم ويتلطف بهم, ويعتبرهم امتدادًا طبيعيًّا للمؤمنين في حركة التاريخ في الأرض..
ومع كل هذا فماذا كان رد فعلهم لظهور رسول الله؟!
لقد اعترف أقلُّ القليل منهم به, ووقعت منهم مواقف مخزية في الإنكار والإعراض, ومَنْ أشهر هذه المواقف موقفهم من إسلام حَبْرِهم عبد الله بن سلام.. وليس المجال يتسع للتفصيل, وَلْيُرْجَعْ إلى قصته في صحيح البخاري [19].
الشاهد من كل هذا أن الرحمة والتسامح ومحاولات التقرب التي ظهرت من رسول الله قوبلت بعدوانية وقسوة من الطرف اليهودي, ومع ذلك لم يكن ذلك مانعًا رسولَ الله من مداومة منهج الرحمة والتسامح معهم, وكان أول علامات ذلك ما عقده معهم من معاهداتٍ تحفظ لهم حقوقهم, وتعترف بكينونتهم, وتُقِرُّ بتميزهم واستقلاليتهم عن جانب المسلمين, وتضبط في ذات الوقت أُطُر التعامل بل والتعاون في ظل الدولة الجديدة الناشئة..
ومع كل ذلك استمر التكذيب والصد اليهودي, بل ازداد شراسة, ووصل إلى حَدِّ المؤامرات والمكائد, ومع ذلك حرص رسول الله على رحمتهم بكل وسيلة ممكنة..
ومن رحمته معهم أنه كان لا يتعلَّل أبدًا بقسوتهم وظلمهم وصدهم ليبرر به تجنيًا على حقوقهم أو ظلمًا لهم..
إن العدل والرحمة في الإسلام أمران مطلقان لا يتأثران بجنس أو لون أو دين, كذلك لا يتأثران بعاطفة معينة, أو بظروف خاصة, فليس هناك مبرر أبدًا للظلم, وكذلك ليس هناك مبرر أبدًا للقسوة.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
ويقول النبي: « » [20].
ويقول أيضًا فيما يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: « » [21].
ومن الملاحَظ أن كل هذه الأحاديث جاءت بألفاظ عامة تشمل المسلمين وغير المسلمين؛ وبشكل واضح لا يحتمل لبسًا في الفهم, ولا سوءًا في التقدير, ومع ذلك فقد أراد رسول الله أن يقطع السبيل على كل مسلم في أن يعتقد أن الظلم مسموح به -ولو بدرجة بسيطة? مع غير المسلمين, فقال في كلمات رائعة ما يجب أن نحمله إلى كل إنسان على سطح الأرض ليعلم من هو رسول الله: « » [22].
هل هناك عدل أو رحمة أعلى من هذا؟!
ويقول رسول الله أيضًا: « » [23].
وفي رواية أخرى لأحمد قال: « » [24].
فهذا تصريح بيِّن أن المظلوم ليس بينه وبين الله حجاب, ومن هنا فإن المسلم الصادق لا يظلم أبدًا لإحساسه الدائم برقابة الله عليه, وأن المسألة مسألة عقائدية, وأن الله ينصر المظلوم يوم القيامة على الظالم, وإن كان المظلوم كافرًا والظالم مسلمًا, وأن رسول الله يقف مع المظلوم ضد الظالم يوم القيامة بصرف النظر عن ديانة كل منهما..
هذا هو ديننا لمن لا يعرفه, وهذه هي أخلاقنا التي نعتز بها..
ولم تكن هذه الكلمات الرائعة والمعاني النبيلة مجرد قواعد نظرية لا مكان لها في حياة الناس, بل كان لها الانعكاس الواضح على كل مواقفه وتصرفاته؛ فكان يُبْرِزُ هذا المعنى بجلاء في كل معاهداته وارتباطاته ومعاملاته وقضائه, ويحرص على توفير العوامل المساعدة لإتمامه على أكمل وجه..
روى عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: « »، قَالَ الأَشْعَثُ بن قيس [25]: فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ, كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ, فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: « » قُلْتُ: لا, فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: « » قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران:77] إِلَى آخِرِ الآيَة" [26].
إنه لَموقفٌ نادر حقًّا!!
إنه اختصام بين رجلين.. أحدهما من صحابة الرسول والآخر يهودي.. فيأتيان إلى رسول الله ليحكم بينهما, فلا يجد أمامه إلا أن يطبق الشرع فيهما دون محاباة ولا تحيز, والشرع يُلزم المدعي-وهو الأشعث بن قيس بالبينة أو الدليل, فإن فشل في الإتيان بالدليل فيكفي أن يحلف المدعى عليه -وهو اليهودي- على أنه لم يفعل ما يتَّهمه به المدعي, فيُصَدَّقُ في ذلك, وذلك مصداقًا لقول رسول الله: « » [27].
ويتأزَّم الموقف عندما يُتبَيَّن أن الصحابي ليس معه بينة, ويصبح الأمر كله رهن حَلِفِ اليهودي, ويشعر الصحابي بخيبة الأمل؛ لأنه يعلم أن اليهودي سيحلف كذبًا دون تردد, فلا يملك له رسول الله شيئًا, ولا يجد أمامه إلا أن يترك المجال لليهودي!!
ومن جديد نقول إن رحمة رسول الله بالمسلم المدعي لا تدفعه إلى القسوة على اليهودي المُدَّعى عليه!
أليس هذا هو العدل المطلق الذي لا يتوقع أحد من البشر أن يكون له تطبيق في واقع الناس؟! وأليست هذه هي الرحمة التي ليس لها مثيل في حياة الناس؟!
إنَّ هذا ببساطة هو الإسلام.. دين من السماء يحكم حياة الناس في الأرض.
وإنَّ هذا هو رسولنا.. أعظم الخلق خُلُقًا وأدبًا..
إننا لا نملك بعد رؤية أمثال هذه المواقف إلا أن نهتف بقول ربنا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
-------------------------
[1] لورافيشيا فاغليري (باحثة إيطالية): "دفاع عن الإسلام" ترجمة: منير البعلبكي, دار العلم للملايين ـ بيروت 1981
[2] البخاري: كتاب الكفالة, باب الدَّيْن (2176), ومسلم في الفرائض, باب مَن ترك مالاً فلورثته (1619), والترمذي (1070), والنسائي (1963), وأبو داود (2954), وابن ماجة (2415), وأحمد (9847), وابن حبان (4854).
[3] د. توفيق الطويل: قصة الاضطهاد الديني في المسيحية والإسلام ص97 ، 99 بتصرف.
[4] البخاري: كتاب الجنائز, باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلَّى عليه؟ وهل يُعرَض على الصبي الإسلام؟ (1290), ورواه الترمذي (2247), والحاكم (1342), والنسائي في سننه الكبرى (7500).
[5] هي قُتيلة بنت سعد من بني عامر بن لؤي, امرأة أبي بكر الصديق, وهي أم عبد الله وأسماء. ذكرها ابن الأثير في الصحابيات, وقال: تأخر إسلامها. قدمت إلى المدينة وهي مشركة بعد صلح الحديبية. انظر: أسد الغابة 6/ 242.
[6] البخاري: كتاب الهبة وفضلها, باب الهدية للمشركين (2477, 5634, 3012), ومسلم في الزكاة, باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين (1003), وأبو داود (1668), وأحمد (26960).
[7] هو الزبير بن العوام, يُكنَّى أبا عبد الله, أمه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم, لم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله. كان أول من سلَّ سيفًا في الإسلام, وقد استشهد يوم الجمل. انظر الاستيعاب 1/ 151, أسد الغابة1/ 377, الإصابة الترجمة (2791).
[8] حُلَّة سيراء: من الحرير الخالص, وهي مُحَرَّمة على الرجال.
[9] البخاري: كتاب الجمعة, باب يلبس أحسن ما يجد (846), ومسلم في اللباس والزينة, باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة (2068), وأبو داود (1076), والنسائي (5295), وابن ماجة (3591) وأحمد (4713) ومالك برواية يحيى الليثي (1637) وبرواية محمد بن الحسن الشيباني (869).
[10] عثمان بن عبد حكيم, وهو أخو عمر من أمه, ومُختلَف في إسلامه بعد ذلك, انظر: فتح الباري 1/ 331.
[11] النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 14/ 39.
[12] متقصفون: مزدحمون.
[13]مسند أحمد (491, 492, 493) و (341) وسنده حسن. وقال الساعاتي في الفتح الرباني (20/216): سنده جيد. ومستدرك الحاكم (1/15), ومعجم الطبراني الكبير (5/55), والبيهقي (17505), وله شاهد من حديث طارق به عبد الله الحاربي, أخرجه أبو بكر بن شيبة, انظر المطالب العالية (4277).
[14] سنن الترمذي (3232), وقال: حديث حسن. ومسند أحمد (2008), والحاكم في المستدرك ( 3617).
[15] إسرائيل ولفنسون: باحث يهودي حصل على درجة الدكتوراة من مصر تحت إشراف الدكتور طه حسين, وكانت أطروحته تدور حول اليهود في البلاد العربية.
[16] تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام: 106 - 108 بتصرف.
[17] هو أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار, رأى أنس بن مالك, وروى عن عطاء والزهري, كان صدوقًا من بحور العلم, وله غرائب في سعة ما روى, واختُلِفَ في الاحتجاج به, وحديثه حسن, وقد صححه جماعة. مات سنة 151هـ. انظر: الكاشف 2/ 156.
[18] ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 210, 211 ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/ 98.
[19] البخاري: كتاب الأنبياء (3151), وأيضًا: كتاب الفضائل, باب كيف آخى النبيبين أصحابه (3723), وكتاب التفسير: باب تفسير سورة البقرة (4210).
[20] البخاري: كتاب المظالم, باب إثم مَن ظلم من الأرض شيئًا (2321), كتاب بدء الخلق, باب ما جاء في سبع أرضين (3023), ومسلم في المساقاة, باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1612), وأحمد (9663).
[21] ابن ماجة (2320), وأبو داود (3598). وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع: حديث (6049).
[22] أبو داود (3052), والبيهقي في سننه الكبرى (18511) عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ عَنْ آبَائِهِمْ دِنْيَةً, وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع: حديث (2655 ).
[23] أحمد في مسنده عن أنس بن مالك (12571), وقال الألباني في السلسلة الصحيحة: حسن, وله شاهد بلفظ: دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا؛ ففجوره على نفسه, انظر السلسلة الصحيحة (767).
[24] أحمد في مسنده عن أبي هريرة (8781), وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار بنحوه وإسناده حسن. وقال ابن حجر في فتح الباري: إسناده حسن. انظر: فتح الباري 3/360, وكذلك الألباني. انظر: صحيح الترغيب والترهيب (2229), وانظر (3382) في صحيح الجامع.
[25] الأشعث بن قيس الكندي, وفد على النبيسنة عشر, وكان من ملوك كِنْدَة, فلما مات النبيارتد, ثم عاد إلى الإسلام فزوَّجَهُ أبو بكر أخته, وشهد القادسية, وشهد مع علي صفين. توفي بعد قتل علي بأربعين ليلة. انظر أسد الغابة1/ 97, الإصابة, الترجمة (205).
[26] البخاري: كتاب الخصومات, باب كلام الخصوم بعضهم في بعض (2285), ومسلم في الإيمان, باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (138), وأبو داود (3243), والترمذي (1269), وابن ماجة (2323), وأحمد (3597).
[27] رواه مالك في الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني (844), والبيهقي (20990), وقال النووي: جاء في رواية "البيهقي" بإسناد حسن أو صحيح زيادة عن ابن عباس مرفوعًا: "لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر". انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 12/3.
راغب السرجاني
أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.
- التصنيف:
- المصدر: