واجب الأمة نحو نبيها صلى الله عليه وسلم

منذ 2014-04-17

لقد تحدثت في اللقاء السابق عن بعض ما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأواصل في هذا اللقاء واجب الأمة نحو نبيها صلى الله عليه وسلم..

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه ربه رحمة للعالمين، وهداية للناس أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:
فلقد تحدثت في اللقاء السابق عن بعض ما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأواصل في هذا اللقاء الحديث عن ذلك فأقول وبالله التوفيق:

3- وجوب محبته صلى الله عليه وسلم:
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم أصل عظيم من أصول الإيمان، وقد روى الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (1)، وهذه المحبة تابعة لمحبة الله تعالى، إذ لا يوجد في الوجود من يستحق أن يحب لذاته من كل وجه سوى الله تعالى، وكل من يحب سواه فمحبته تبع لحبه.

يقول ابن القيم رحمه الله: "وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما تجوز تبعًا لمحبة الله وتعظيمه، كمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه سبحانه، فإن أمته يحبونه لحب الله له، ويعظمونه ويجلونه لإجلال الله له، فهي محبة لله في موجبات محبة الله" (2).

وقد أوجب الله محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقديمها على الأهل والمال، فقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِنَ} [التوبة:24].

حب الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم:
قال القاضي عياض رحمه الله في معنى هذه الآية: "فكفى بهذا حضًا وتنبيهًا ودلالة، وحجة على إلزام محبته صلى الله عليه وسلم ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوعدهم بقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله" (3).

وقد ضرب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أروع النماذج في صدق حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان الواحد منهم يضع ماله ونفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حبًا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وطمعًا في نيل ثواب الله ورضاه، ومن ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك»، فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر»" (4).

قال الخطابي في معنى الحديث: "حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم حب الاختيار إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه"، وقال ابن حجر معقبًا على كلام الخطابي: "فعلى هذا فجواب عمر أولاً كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والآخرة، فأخبر بما اقتضاه الاختيار، ولذلك حصل الجواب بقوله: «الآن يا عمر»، أي: الآن عرفت فنطقت بما يجب" (5).

وفي الحديث الذي رواه مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال، وهو في سياقة الموت (6): "وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه" (7)، وقد كان حب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يذهل المشركين، وقد وصف عروة بن مسعود الثقفي حب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له وهو على الشرك قبل أن يسلم، فقال: "فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له" (8).

وقد ذكر ابن رجب الحنبل يرحمه الله أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على درجتين:
"الدرجة الأولى: (فرض) وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله وتلقيه بالمحبة والرضا والتعظيم والتسليم، وعدم طلب الهدى من غير طريقه بالكلية، ثم حسن الاتباع له فيما بلغه عن ربه من تصديقه في كل ما أخبر به، وطاعته فيما أمر به من الواجبات، والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات، ونصرة دينه، والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة، فهذا القدر لا بد منه، ولا يتم الإيمان بدونه.
والدرجة الثانية: (فضل) وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به، وتحقيق الاقتداء بسنته، وأخلاقه، وآدابه، ونوافله، وتطوعاته، وأكله وشربه، ولباسه وحسن معاشرته لأزواجه، وغير ذلك من آدابه الكاملة وأخلاقه الطاهرة صلى الله عليه وسلم" (9).

4- وجوب الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم:
وقد أمر الله أهل الإيمان بذلك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وهذه الآية مدنية، والمقصود منها أن الله تعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى المؤمنين بالصلاة والتسليم عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعًا، وهذا التشريف الذي شرف الله تعالى به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أتم وأجمع من تشريف آدم عليه السلام بأمر الملائكة له بالسجود، لأن الله تعالى أخبر عن نفسه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر بعد ذلك عن الملائكة وتشريف يصدر عن الله تعالى أبلغ من تشريف يختص به الملائكة من غير أن يكون الله تعالى معهم (10).

وقد ذكر البخاري عن أبي العالية أن صلاة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هي: "ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "يصلون: يبركون" هكذا علقه البخاري عنهما (11)، وقد رواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية كذلك، وروى مثله عن الربيع أيضًا، وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كما قاله سواء، رواهما ابن أبي حاتم (12). ومعنى قول ابن عباس: "يبركون" أي: يدعون له بالبركة، وهذا يوافق قول أبي العالية لكنه أخص منه (13).

وقد جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها أمر بالصلاة عليه، وكيفية هذه الصلاة، ومن ذلك ما رواه البخاري عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: "قيل: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد»" (14)، وفي مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد رضي الله عنه: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم»" (15).

ومعنى: «والسلام كما علمتم»، يعني: في قولنا في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ويطول المقام هنا عن ذكر ما ورد من صيغ كثيرة في الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى العبد المسلم أن يتعلم الصحيح منها ومن أجمعها ما ذكرته آنفا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي علمه لأصحابه لما سألوه عن كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
وأما عن فضل الصلاة عليه، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى علي واحدة صلَّى الله عليه عشرًا» (15)، ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الآذان وسأل الله له الشفاعة وجبت له، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة» (16).

كما أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في أول الدعاء من أسباب الإجابة، كما في حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو في الصلاة ولم يذكر الله عز وجل، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجل هذا»، ثم دعاه فقال له ولغيره: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بعد بما شاء»" (17).

وليحذر المسلم من التقصير والتفريط في الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكر اسمه، لما ورد في ذلك من التحذير الشديد عنه صلى الله عليه وسلم، ومنه ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك»، قال الترمذي: "ويُروىَ عن بعض أهل العلم قال: إذا صلى الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم مرة في المجلس أجزأ عنه ما كان في ذلك المجلس" (19)، ومعنى: «رغم أنف رجل» أي: لصق أنفه بالتراب كناية عن حصول الذل، وهذا هو الأصل في معنى الكلمة، ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف، والانقياد على كره (20).

والفاء في قوله: «فلم يصل علي»، قيل بأنها استبعادية، والمعنى: بعيد عن العاقل أن يتمكن من إجراء كلمات معدودة على لسانه فيفوز بها فلم يغتنمه، فحقيق أن يذله الله، وقيل: إنها للتعقيب فتفيد ذم التراخي عن الصلاة عليه عند ذكره صلى الله عليه وسلم (21)، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي» (22)، ومعنى: «البخيل» أي: الكامل البخل، وذلك لأنه بخل على نفسه حيث حرمها صلاة الله عليه عشرًا إذا هو صلى واحدة، وقال القاري: "فمن لم يصل عليه فقد بخل ومنع نفسه من أن يكتال بالمكيال الأوفى، فلا يكون أحد أبخل منه" (23).

وعليه أقول لعموم المسلمين: أكثروا من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتنالوا بذلك الخير العميم والأجر الوفير، والفوائد الجمة العميمة، ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم، وإذا جلس المسلم مجلسًا فعليه أن يذكر الله فيه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم» (24).

ومعنى كلمة «ترة» الواردة في الحديث: (النقص)، وعلى المسلم أن يلتزم بالنصوص الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه، لأنها عبادة، والعبادات توقيفية، وعليه فلا يلتفت إلى كتب الأذكار البدعية التي اشتملت على أذكار ليس لها أصل في السنة، وذلك ككتاب (دلائل الخيرات)، وغير ذلك من الكتب التي لا يلتزم فيها أصحابها بالوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وبناء على ذلك أقول: إنه لا يجوز إضافة لفظ (سيدنا) في الآذان والتشهد وغير ذلك مما ورد فيه نص عنه صلى الله عليه وسلم اتباعا للفظ المأثور، ووقوفًا عند الخبر الصحيح، وللحديث صلة إن شاء الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش
1- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب 8 ج1/58، ومسلم في كتاب الإيمان باب 16جـ1/67.
2- جلاء الأفهام لابن القيم جـ1/187.
3- الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم جـ2/17.
4- صحيح البخاري كتاب الأيمان والنذور باب 3 جـ11/523.
5- فتح الباري شرح صحيح البخاري جـ11/528.

6- أي حال حضور الموت.
7- صحيح مسلم، كتاب الأيمان، باب 54 جـ1/112.
8- صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب 15 جـ5/330.
9- استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس لابن رجب ص34، 35.
10- انظر القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع صلى الله عليه وسلم للسخاوي ص36.

11- انظر صحيح البخاري، كتاب التفسير باب 10 جـ8/532.
12- انظر تفسير ابن كثير جـ5/447.
13- انظر فتح الباري جـ8/533.
14- صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب 10 جـ8/532
15- صحيح مسلم كتاب الصلاة باب 17 جـ1/305.

16- المرجع السابق جـ1/306، كما رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
17- صحيح مسلم كتاب الصلاة، باب 7 جـ1/288، 289.
18- أخرجه أحمد في مسنده جـ6/18، والترمذي في سننه وقال الألباني: صحيح،
وانظر صحيح سنن الترمذي جـ3/164.
19- انظر صحيح سنن الترمذي جـ3/177.
20- النهاية في غريب الحديث والأثر جـ2/238.
21- انظر تحفة الأحوذي.

المصدر: مجلة التوحيد