سرية ذات السلاسل

منذ 2014-04-18

من وقائع وسرايا الصحابة الكرام رضوان الله عليهم التي كانت في عهد النبوة لتوطيد الحكم للدولة الإسلامية وقعة ذات السلاسل، والتي كانت في السنة الثامنة للهجرة في جمادى الثانية(1)، عقب وقعة مؤتة، وقد قيل أنها سميت ذات السلاسل؛ لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا، وقيل: لأن بها ماء يقال له: السلاسل

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسوله الكريم وعلى آله الطاهرين وأصحابه الأكرمين، والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن وقائع وسرايا الصحابة الكرام رضوان الله عليهم التي كانت في عهد النبوة لتوطيد الحكم للدولة الإسلامية وقعة ذات السلاسل، والتي كانت في السنة الثامنة للهجرة في جمادى الثانية(1)، عقب وقعة مؤتة، وقد قيل أنها سميت ذات السلاسل؛ لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا، وقيل: لأن بها ماء يقال له: السلاسل(2).


وعلى كلٍ فقد كانت هذه الوقعة جراء ما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن جمعًا من بلي وقضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف المدينة، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فَقَالَ: «خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلَاحَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي»، قال عمرو: فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ، ثُمَّ طَأْطَأَهُ، فَقَالَ: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ، فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ وَيُغْنِمَكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ مِنْ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: «يَا عَمْرُو: نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ»(3).


فانطلق عمرو -رضي الله عنه- إلى ذات السلاسل من مشارف الشام، فسار وكان يكمن النهار ويسير الليل، وكانت معه ثلاثون فرسًا، فلما صار إلى هناك خاف من كثرة عدوه، فبعث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمده، فندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المهاجرين الأولين، فانتدب أبو بكر وعمر في جماعة من سراة المهاجرين -رضي الله عنهم أجمعين-، وأمر عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا عبيدة ابن الجراح -رضي الله عنه-.
فلما قدموا على عمرو قال: أنا أميركم وأنا أَرسَلتُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أستمدُّه بكم، فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أمير المهاجرين.
فقال عمرو: إنما أنتم مدد أُمْدِدتُه.
فلما رأى ذلك أبو عبيدة -رضي الله عنه- وكان رجلاً حسن الخلق لين الشيمة قال: تعلم يا عمرو: أن آخر ما عهد إليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن قال: «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا» وإنك إن عصيتني لأطيعنك.
فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص(4).
فأطاع أبو عبيدة عمرًا فكان عمرو يصلي بالناس، وصار معه خمسمائة(5)، فلما انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو ألا يوقدوا نارًا فغضب عمر بن الخطاب وهمَّ أن يأتيه، فنهاه أبو بكر وأخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يستعمله إلا لعلمه بالحرب، فهدأ عنه، فسار عمرو الليل وكمن النهار حتى وطئ بلاد العدو ودوخها كلها، حتى انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان به جمع،  فلما سمعوا به تفرقوا، فسار حتى إذا انتهى إلى أقصى بلادهم ولقي في آخر ذلك جمعا ليسوا بالكثير، فاقتتلوا ساعةً، وحمل المسلمون عليهم فهزموهم، وتفرقوا ودوخ عمرو ما هنالك وأقام أيامًا لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه إلا قاتلهم، وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم، فكانوا ينحرون ويأكلون ولم يكن أكثر من ذلك، لم يكن في ذلك غنائم تقسم، وأراد المسلمون أن يتبعوهم فمنعهم عمرو بن العاص(6).


وفي هذه الوقعة وبينما كان القائد نائمًا إذا به يحتلم، وكان الجو باردًا، فلم يستطع عمرو أن يغتسل، وهنا ندعه ليكمل قصته بلسانه، قال: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ إِنْ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: «يَا عَمْرُو: صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟» فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنْ الِاغْتِسَالِ، وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَقُلْ شَيْء(7).


وحين انتهت المهمة العسكرية بعث عمرو بن العاص عوفَ بن مالك الأشجعي بريدًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بقفولهم وسلامتهم وما كان في غزاتهم.
وقد كانت سرية موفقة ناجحة تمت بحصول الغاية، وقضاء الأرب الذي خرج الصحابة ينشدونه ويطمحون إليه، وقد أبرز الصحابة أخلاقهم وأدبهم ومقدرتهم على القيادة الحكيمة، وظهرت فيهم معالم وآثار محمدية، غرسها فيهم وبذر فيهم بذرتها الأولى حين لقنهم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، فما كان المرء آنذاك ليسلم إلا وقد سمع عن الإسلام الكثيرَ؛ مما يجعله يتجرد عما كان عليه من أمور الجاهلية فورًا، ويصطبغ بالصبغة الإسلامية، فلهذا ظهرت بعض هذه اللفتات في حياة صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ دخولهم في ساحة الإسلام.


يستفاد من الوقعة:
من هذه الوقعة المباركة يمكن أن نعرِّج على مناحٍ مهمة، ولفتات يستفيد منها المتأمل وسائر القارئين، حين يسمع أحدهم بعبارة عن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجد من خلالها معالم التربية النبوية منقورة محفورة كالنقش في الحجر، والتي سنختار من هذه الفوائد بعضًا مما يسر الله به:
1.  إخلاص الصحابة -رضوان الله عليهم- في الدخول إلى الإسلام، والدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله، وهذا يتجلى من خلال جواب عمرو بن العاص -رضي الله عنه- حين عرض عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيادة السرية، فلم يكن أمله أن يتولى ولا أن يتملك ولا أن يغنم إنما مرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي غايته وضالته -وقد وجدها-.
2.  شعور الصحابة -رضي الله عنهم- بالفدائية لهذا الدين جعل أبا عبيدة -رضي الله عنه- يتخلى عن قيادة الجيش؛ إذ إن الأمر ليس مسألة من يقود، ولكن لِمَ يقود؟
3.  ليس من العيب أن يلي المرء أمرًا يكون وراءه كسب له جزاءً لما فعله، سيما إن كان لم يستشرف له، ولم يعمل ذلك العمل إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو -رضي الله عنه-: «نعم المال الصالح للرجل الصالح».
4.  حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تعليم أمته وتربيتهم وتأهيلهم لقيادة الأمة، فلم ينس -عليه الصلاة والسلام- توصيته لجيشه ومدده إذ قال لهم وصيته الحكيمة: «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا» والتي يفتقر إليها كثير من المسلمين العاملين في حقل الدعوة اليوم، فضلاً عن غيرهم من القادة والزعماء.
5.  أدرك بعض الصحابة -رضي الله عنهم- أهمية التوحد وعدم التنازع، فمن خلال ذلك قرروا توحيد القيادة، وقطع النزاع ومن كان قائدًا انضم جنديًا تحت إمرة صاحبه.
6. جواز تأمر المفضول في وجود الفاضل، سيما إن كان لدى المفضول صفة تميزه على الفاضل في مجال إمارته.
7. حكمة عمرو بن العاص -رضي الله عنه- وقيادتة الباهرة، ظهرت في أحداث وقعت في هذه السرية أبرزها:
  أ‌- سيره كان ليلاً ومكثه نهارًا؛ ليخفي على العدو أخبار جيشه فلا علم بتحركاتهم، وأيضًا لييسر لهم مشاق السفر وأتعابه فيرتاحون عند اتقاد الشمس، ويسافرون ليلاً حيث الأرض تطوى.
 ب‌- عدم إيقاد النار ليلاً رغم مسيس الحاجة إليها من شدة البرد، ومنع أصحابه خوفًا من أن يعرف العدو قلتهم فيباغتهم إثر ذلك.
 ت‌- حزمه الشديد رغم المفاوضات وما جرى من عدم رضا البعض عن ترك إشعال النار، لما يرى أن في ذلك حكمة سيستحلون مرارتها فيما بعد.
 ث‌- منع الجند من اتباع الفارِّين من الأعداء؛ خشية أن يكمنوا لهم، فيأتونهم من حيث لا يشعرون.


8. ما فعله عمرو بن العاص -رضي الله عنه- من التيمم دل على أمورٍ:
 أ‌- قيام التيمم مقام الغسل عند الخوف من الهلاك وتعذر استعمال الماء، من مرض أو برد ونحوهما.
 ب‌- جواز الاجتهاد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
 ت‌- جواز ائتمام المتوضئ بمتيمم.


9.  تأمين وحماية الدولة الإسلامية، فما إن يعلم أهل الشام ومن حول المدينة وغيرهم من القبائل بمثل هذه الحملات العسكرية إلا ويكون ذلك إعظامًا في نفوسهم للدولة الإسلامية.


وتبقى فوائت الفوائد لمن أراد أن يستنبطها، فلكل قراءة هدفها، ولكل مطلع نظرته، لهذا نكتفي بهذا وصلى الله وسلم على نبيه الكريم وصحبه أجمعين.


_______________________
(1) سبل الهدى والرشاد: [6/167].

(2) فتح الباري لابن حجر: [12/168].
(3) مسند أحمد: [17096]، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(4) مغازي الواقدي: [1/770]، السيرة النبوية لابن كثير: [3/516].
(5) سبل الهدى والرشاد: [6/168].
(6) المصدر السابق.
(7) سنن أبي داود: [283].

المصدر: موقع إمام المسجد