زواج الأم بعد رحيل الأب.. المشكلة والحل

منذ 2014-04-19

وإذا كان موت الأم يشكل صدمة نفسية وعاطفية قوية على الأولاد، بما وهبها الله تعالى من تلك العاطفة الجياشة التي كانت تغمرهم بها، فإن موت الأب يشكل صدمة واقعية حياتية على الأم والأولاد معًا، بما يسببه من فقدان قائد السفينة وربانها إذا صح التعبير..

في كثير من الأحيان تشكل العادات الاجتماعية البعيدة عن شرع الله تعالى حاجزًا أمام أمر أباحه الله تعالى وجعله حلالا، فنقع بقصد أو بغير قصد ضمن تحريم ما أحل الله تعالى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87]، وقد نزلت في أناس حرموا ما أحل الله تعالى لهم، حتى قال بعضهم: "لا أتزوج النساء" كما ذكر ابن كثير، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: «أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (صحيح البخاري:5063).

ولعل العقبات التي يضعها أولاد الأم المسلمة التي يتوفى عنها زوجها، أو العراقيل التي يفرضها المجتمع جراء العادات والتقاليد، والتي تجعل من زواج المرأة المسلمة بعد وفاة زوجها نوعا من العيب أو الخروج عن المألوف، من أكثر الأمور التي يمكن وصفها بأنها تحريم لما أحل الله، تمامًا كتلك العراقيل التي يفرضها المجتمع المسلم في العصر الحديث على تعدد الزوجات ضمن شروطه وضوابطه الشرعية، وربما تكون عراقيل زواج المرأة المسلمة بعد وفاة زوجها أشد وأقسى.

وإذا كان موت الأم يشكل صدمة نفسية وعاطفية قوية على الأولاد، بما وهبها الله تعالى من تلك العاطفة الجياشة التي كانت تغمرهم بها، فإن موت الأب يشكل صدمة واقعية حياتية على الأم والأولاد معًا، بما يسببه من فقدان قائد السفينة وربانها إذا صح التعبير، لقد صدقت خولة بنت ثعلبة تلك الصحابية التي جاءت تشتكي زوجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ظاهرها بقوله: "أنت علي كظهر أمي"، وقد عده الرسول صلى الله عليه وسلم طلاقًا، وقد كان الظهار طلاقًا في الجاهلية، فجاء الإسلام لينسخ ذلك ويرتب الكفارة على الزوج، وقد عللت الصحابية شكواها ومجادلتها في أمرها بالأولاد ومصيرهم بعد الطلاق لو حصل، فهي إن تركت الأولاد للزوج ضاعوا -تعبيرًا عن فقد الأم التي تحتضن الأولاد وترعاهم- وإن تركهم الأب جاعوا -تعبيرًا عن التأثير المادي الحياتي على الأولاد عند فقد الأب-.

نعم: إن موت الأب يشكل عبئًا كبيرًا على الأم ماديًا بفقد المعيل الذي كانت الأسرة تعتمد على سعيه في طلب الرزق، ومعنويًا بفقد المؤنس في الوحدة والصاحب في الخلوة، والشريك في الحياة والمعين في وقت الشدة والأزمات، وإذا كان زواج الأب بعد موت الأم يواجه بعض العوائق والمشكلات من قبل الأولاد بشكل خاص، إلا أنه لا يقارن بعراقيل زواج الأم بعد موت الأب، حيث تواجه الأم صعوبات أكبر بكثير وعوائق أشد وأصعب، ليس من قبل الأولاد فحسب، بل من قبل المجتمع أيضًا..

ربما لا تكون هذه المشكلات والعوائق شديدة في حال كون الأولاد صغارًا لم يتجاوزوا سن التمييز، إذ من الممكن أن تتزوج الأم دون أن يؤدي ذلك إلى صدام مع الأولاد، خاصة إذا كان الزوج الجديد مناسبًا وحكيمًا، استطاع بإيمانه وحكمته أن يحتضن الأولاد فيكون بمثابة الأب لهم بعد فقدهم لوالدهم، إلا أن عوائق المجتمع تبقى هي الأهم أمام هذا الزواج.

ومع أن كثيرًا من الأمهات في مثل هذه الحالة تفضل التفرغ لتربية أولادها على الزواج، وهناك نماذج كثيرة لمثل هذه الحادثة على الصعيد الاجتماعي العربي والإسلامي، إلا أن ذلك لا ينفي وجود كثير من الحالات التي تكون فيه الأم راغبة بالزواج، إلا أن خشيتها من نظرة المجتمع تمنعها من ذلك.. لا بنبغي أن يفهم أن الإسلام يحرم المرأة أو يمنعها من الزواج بعد موت الزوج، وإنما الذي ينتظر تلك المرأة التي ضحت بحقها في الزواج من أجل تربية أولادها والتفرغ لهم فضل جراء صبرها، وأن الإسلام يحترم إرادة تلك المرأة.

أما مسألة زواج المرأة بعد وفاة زوجها فقد أباحه الإسلام دون النظر لسن المرأة أو الرجل، ولنا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دليل وبرهان على ما نقول، فقد تزوجت أم سلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استشهاد زوجها قالت أم سلمة: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها» قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبى بلتعة يخطبني له، فقلت: إن لي بنتًا، وأنا غيور فقال: «أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها وأدعو الله أن يذهب بالغيرة» (صحيح مسلم:37).

إن المشكلة الأكبر التي تقف عائقًا ومانعًا في زواج الأم بعد وفاة زوجها يتمثل في أمور ثلاثة:
1- البيئة الاجتماعية من أعراف وعادات وتقاليد في المجتمعات العربية والإسلامية، التي ترى في زواج الأم بعد موت زوجها غير مقبول وفيه شيء من الإحراج، يقول الدكتور صالح العقيل (خبير اجتماعي): "إنه من الأمور المسلم بها أنه لا يوجد أي مانع لزواج الأم بعد موت زوجها مهما كان سنها أو وضعها الاجتماعي، فالإسلام منحها ذلك، إلا أن المعتقدات الاجتماعية هي المسيطرة، فكثيرًا ما نرجع أمورنا لثقافة المجتمع التي وللأسف ليست موافقة للإسلام في أحكامه، فهناك خجل اجتماعي كبير من زواج الأم، فالمجتمع ينتقد التي تتزوج بحجة أنها ستهمل أولادها أو تتركهم".

2- رفض الأولاد لذلك الزواج لعدة أسباب:
أولها: السبب الاجتماعي السابق، خاصة إذا كانت الأم قد بلغت سنًا كبيرًا، وفي كثير من الحالات والأمثلة والإحصاءات عن هذا الموضوع، تحدث كثير من الأولاد عن رفضهم زواج أمهم من رجل آخر بعد وفاة والدهم، لأنهم ببساطة يخافون من الإحراج وسخرية المجتمع منهم لزواج أمهم، وعلماء الاجتماع يتحدثون عن وجود موروث اجتماعي كبير يحصر دور المرأة الأرملة والمطلقة في التضحية، ومن هذا المنطلق فإن الثقافة السائدة في المجتمع ترفض زواج هاتين الفئتين من جديد بسبب وجود الأبناء، وتطالبها بالتضحية من أجلهم دون النظر إلى حاجاتها العاطفية والنفسية والفطرية، ولا يتردد المجتمع بوصف المرأة التي تقدم على الزواج بعد وفاة زوجها باتهامها بنكران الجميل، وعدم مراعاتها لمشاعر أبنائها والسعي وراء مصالحها الشخصية.

والثاني: قد يكون سببًا نفسيًا من خلال نظرة الأولاد إلى الخوف والريبة والنفور اللاإرادي لزوج الأم الجديد، واعتباره رجلا غريبًا في البيت، بالإضافة لغيرة الأبناء على أمهم من الرجل الذي يعتبرونه غريبًا، يريد أن يسيطر على أمهم.

3- الإعلام ودوره الكبير والخطير في ترسيخ هذه النظرة المجتمعية لزواج الأم بعد وفاة زوجها، إذ غالبًا ما يعرض تضحية الأم وعدم زواجها، مما شكل مع مرور الزمن نوعًا من التلازم بين موت الزوج وتضحية الأم، مما جعل من زواج الأم لو حصل شيئًا غريبًا وغير مألوف، الأمر الذي انعكس بدوره على الأولاد فجعلهم يرفضون زواج أمهم خوفًا من نظرة المجتمع وعقابه النفسي عليهم، فالإعلام الفاسد والخارج عن أسس وتعاليم الإسلام هو رأس المشكلة وأساسها.

وللتخفيف من آثار هذه المشكلة الاجتماعية لا بد من اتباع بعض الخطوات التي قد تساهم في الحل:
1- حسن الاختيار: وهو أمر في غاية الأهمية لمن يريد أن يتزوج أول مرة، فكيف بالمرأة التي تريد الزواج بعد وفاة زوجها ولها منه أولادًا قد تجاوزوا سن البلوغ، لا شك أن حسن الاختيار في هذه الحالة يكون أدعى وأكثر إلحاحًا وأهمية، فلا شك أن الرجل المؤمن الحكيم العاقل يمكن أن يكون محل قبول من الأولاد بهذه الصفات والمزايا، بينما الرجل الجاهل الأناني الذي يعرف بالصفات السيئة في بيئته ومجتمعه، لن يكون محل قبول الأولاد أبدًا.

2- تدعيم وتكريس الأحكام الشرعية في أذهان الناس، التي تؤكد حق المرأة في الزواج بعد وفاة زوجها أو طلاقها منه، ما دامت تتفق مع شروط ومقدمات هذا الزواج، وذلك من خلال الخطب والدروس الدينية في المساجد، وعلى وسائل الإعلام وإقامة الدورات التدريبية والتعليمية والتثقيفية في هذا الموضوع، للأولاد والأمهات والأباء على حد سواء، وذلك بغية نشر التوعية الاجتماعية التي تنسجم مع الفكر الإسلامي.

3- إظهار النماذج والتجارب الناجحة في هذا المجال، ومحاولة نشرها على أكبر صعيد ممكن، وذلك لمواجهة الفكرة السائدة في المجتمع بالفشل المؤكد لكل محاولة من هذا القبيل، فالعادات الاجتماعية لا يمكن أن تواجه إلا بكثرة الحالات التي تؤكد مرة بعد مرة، ويومًا بعد يوم أن الفكرة التي كانت سائدة خاطئة وغير صحيحة.

في النهاية لا بد من التأكيد أن القصص التي تموت في البيوت، لكثير من الأمهات اللواتي كن يرغبن بالزواج ولكنها امتنعت خوفًا من لوم المجتمع والأولاد وتأنيبهم المستمر لها، وكأنها تريد ارتكاب فاحشة أو رذيلة لا سمح الله، والأحزان التي تبدأ وتنتهي في قلوب تلك الأمهات، لا يشعر بها أحد ولا يحس بها ولد، لا يمكن أن تبقى وتستمر، لأن العادات والتقاليد الاجتماعية منعت امرأة مسلمة من الزواج بعد وفاة زوجها، مع كونها التزمت بكل الأحكام الشرعية تجاه نفسها وأولادها ودينها، بل لا بد أن يشعر الجميع بهذه المشكلة، ويرفع الجميع شعارًا واحدًا لحلها هو: (الكتاب والسنة والسيرة النبوية، والأحكام الشرعية هي الفيصل في هذا الموضوع).

 

عامر الهوشان