موقف الحساب

منذ 2014-04-21

من أعظم المواقف يوم القيامة موقف الحساب يحاسب فيه العبد على النقير والقطمير فإما إلى جنة أو إلى نار

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله.

وبعد:
فإنَّ من أعظم مواقف يوم القيامة الَّتي يجب على المؤمن الإيمان بها، والاستِعْدادُ لها: موقفَ الحساب،             قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]؛ أي: الجزاء والحساب، والمقصود بالحساب أن يُوقف العباد بين يدَي ربِّ العالمين، ويعرفهم بأعمالهم وأقوالهم الَّتي عملوها في الدنيا، وما كانوا عليه من إيمان وكُفْر، واستقامة وانحراف، ويُعطى العباد كتُبَهم بأيمانهم إن كانوا صالحين، وبشمائلهم إن كانوا غير ذلك.

قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25-26]، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ .   فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا . وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا . وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ . فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا . وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:7-12].

وروى البخاري ومسلمٌ من حديث عائِشة  رضي الله عنها أنَّ النَّبيَّ  صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: «ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلاَّ هلك»، فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ . فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7-8]؟! فقال رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم : «إنَّما ذلك العرض، وليس أحدٌ يناقش الحساب يوم القيامة إلاَّ عُذِّب» (صحيح مسلم؛ برقم:2876) .

قال النَّووي في شرحه للحديث: "معنى نوقش الحساب: استقْصِي عليه، قال القاضي: وقوله: "عذِّب" له معنيان:
أحدهما: أنَّ نفس المناقشة، وعرض الذّنوب، والتوقيف عليها هو التَّعذيب؛ لما فيه من التوبيخ.

والثَّاني: أنَّه مفْضٍ إلى العذاب بالنَّار، ويؤيّده قوله في الرّواية الأخرى: "هَلَكَ" مكان "عُذِّبَ" هذا كلام القاضي، وهذا الثَّاني هو الصَّحيح، ومعناه: أنَّ التَّقصير غالب في العباد، فمن استُقْصِي عليه ولم يُسامح، هلك ودخل النَّار، ولكن الله تعالى يعفو ويغْفر ما دون الشرك لمن يشاء".

ونقل ابن حجر عن القرطبي في معنى قوله: (إنَّما ذلك العرض)   ، قال: "إنَّ الحساب المذكور في الآية إنَّما هو أن تعرض أعمال المؤمِن عليه؛ حتَّى يعرف مِنّة الله في ستْرِها عليه في الدّنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة".

والله تعالى يحاسب كلَّ إنسان بمفرده، قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24]،                          روى مسلم في صحيحه من حديث عديِّ بن حاتم رضي الله عنْه نَّ النَّبيَّ  صلَّى الله عليْه وسلَّم  قال: «ما منكم من أحدٌ إلاَّ سيكلِّمُه الله، ليس بينه وبينه تَرْجُمان، فينظر أيْمنَ منه فلا يرى إلاَّ ما قدَّم، وينظر أشأم منْه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتَّقوا النَّار ولو بشقّ تمرة» (صحيح البخاري؛ برقم: 3247) ،ومن المؤمنين مَن يدخل الجنَّة بلا حساب ولا عذاب، روى البخاري ومسلم من حديث ابن عبَّاس أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم رأى أمَّته ومعهم سبعون ألفًا يدْخُلون الجنَّة بلا حساب ولا عذاب، وهم الَّذين لا يسْتَرْقون ولا يكتوون ولا يتطيَّرون، وعلى ربهم يتوكَّلون (صحيح البخاري؛ برقم:5705).

والحساب على مواقف، منها:
عرض الأعمال على العباد؛ قال تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30].

ومنها: أن يُعطى العبد كتابَه ويُقال له: حاسِبْ نفسك، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا . اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13-14]، المقصود من الآية أنَّ عمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره، ويكتب عليه ليلاً ونهارًا، وصباحًا ومساءً، ثمَّ يجمع له عمله كلّه في كتاب يُعطاه يوم القيامة، إمَّا بيمينه إن كان سعيدًا، أو بشماله إن كان شقيًّا، فيه جميع عمله من أوَّل عمره إلى آخِره، ثم يُقال له: اقرأ كتابَك بنفسك؛ لكي تعلم أنَّك لم تُظلم ولم يُكتب عليْك إلاَّ ما عملت؛ لأنَّك ذكرت جميع ما كان منك ولا ينسى أحد شيئًا مما كان منه، وكلّ واحد يقرأ كتابه من كاتب وأمّي.

ومنها: إحضار الشهود على العبد، كالرُّسُل والملائكة وأمَّة محمَّد صلَّى الله عليْه وسلَّم والأعضاء، قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}  [البقرة:143]، وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12].

قال نابغة بني شيبان:
                          إِنَّ مَنْ يَرْكَبُ الفَوَاحِشَ سِرًّا***حِينَ يَخْلُو بِسِرِّهِ غَيْرُ خَالِي

                              كَيْفَ يَخْلُو وَعِنْدَهُ كَاتِبَاهُ ***شَاهِدَاهُ وَرَبُّهُ ذُو الجَلالِ

روى مسلم في صحيحه من حديث أبِي هُرَيْرة رضِي الله عنْه  أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم  قال: «يلقى الله العبدَ يوم القيامة، فيقول: يا ربّ آمنت بك وبكتابِك وبرسلك، وصلَّيت وصُمْت وتصدَّقت، ويُثْني بخير ما استطاع، فيقول: ها هنا إذًا، قال: ثمَّ يُقال له: الآن نبعث شاهدَنا عليك، ويتفكَّر في نفسه: من ذا الَّذي يشهد عليَّ؟ فيُختم على فِيه، ويقال لفخِذِه ولحمِه وعظامه: انطقي، فتنطق فخِذُه ولحمه وعظامه بعملِه؛ وذلك ليعذر من نفسِه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه» (صحيح مسلم؛برقم:2968)                                                       قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].

ومنها وزن الأعمال؛ الحسنات والسيئات: فأمَّا المؤمن فتُوزن حسناته وسيئاته؛ ليتبيَّن مقدار ما عمله، قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ } [الأعراف:8-9].

وأمَّا الكافر فتُوزن أعماله؛ لإقامة الحجَّة عليه وتوبيخه وتقْريعه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يُراد بالحساب عرْض أعمال الكفَّار عليهم وتوبيخهم عليْها، ويراد بالحساب موازنة الحسنات بالسيّئات، فإن أُريد بالحساب المعنى الأوَّل فلا ريب أنَّهم محاسبون، وإن أريد به المعنى الثَّاني فإن قصد بذلك أنَّ الكفَّار تبقى لهم حسنات يستحقّون بها الجنَّة، فهذا خطأ ظاهر".

وقال في موضع آخر: "والنَّار دركات، فإذا كان بعض الكفَّار أشدّ عذابًا من بعض؛ لكثرة سيّئاته وقلَّة حسناته، كان الحساب لبيان مراتب العذاب، لا لأجْل دخولهم الجنَّة"

قال ابن كثير: "وأمَّا الكفَّار فتوزن أعمالهم، وإن لم تكُن لهم حسنات تنفعهم يقابل بها كفْرهم؛ لإظهار شقائِهم وفضيحتهم على رؤوس الخلائق".

روى البُخاريّ ومسلم من حديث ابن عمر رضِي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: «إنَّ الله يدني المؤمِنَ، فيضع عليه كنَفَه ويسترُه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنْبَ كذا؟ فيقول: نعم أيْ ربّ، حتَّى إذا قرَّره بذنوبِه، ورأى في نفسِه أنَّه هلك، قال: سترتُها عليك في الدّنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعْطَى كتاب حسناته، وأمَّا الكافر والمنافق، فيقول الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]» (صحيح مسلم؛ برقم:2768).

ومن آثار الإيمان بهذا الحدث الغيْبِي العظيم:
أوَّلاً: أنَّ المؤمن إذا علم أنَّه سيقف بين يدي الله ويُحاسَب حسابًا دقيقًا، استعدَّ للقاء الله، وحاسب نفسَه في الدّنيا قبل الآخرة، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]،                                      قال عمر رضِي الله عنْه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا، وتهيَّؤُوا للعرض الأكبر على الله".

ثانيًا: قدرة الله العظيمة؛ فهو يُحاسب الخلائق جميعًا: الجنّ والإنس، مليارات البشَر، كلّ يحاسبه بنفسه،             قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ . عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل:92-93].

ثالثًا: أنَّ هذا الحساب دقيق، فيسأل العبد عن شرْكِه وكفره، وعن الأنداد والشّركاء الذين اتَّخذهم من دون الله أولياء، قال تعالى: ﴿ {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء:92-93]، وقال تعالى: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [القصص:65].

ويسأل عن صلاته، روى الطَّبراني في الأوْسط من حديث عبدالله بن قرط رضي الله عنْه  أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: «أوَّل ما يحاسب عليه العبد يومَ القيامة الصَّلاةُ، فإن صلَحت صلحَ سائرُ عمله، وإن فسدتْ فسد سائر عمله» )) (السلسلة الصحيحة؛ برقم:1358).


ويُسأل عن عمرِه فيمَ أفناه؟ وعن شبابه فيمَ أبلاه؟، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟ كما صحَّ بذلك الحديث عن النبيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم.

ويُسأل عن سمعه وبصره وفؤاده؛ قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}          [الإسراء:36].

ويُسأل عن النَّعيم، ومن النَّعيم الشّبَع من الطعام، والماء البارد، والمرْكب الحسن، وصحَّة الأبدان، والزَّوجة والأوْلاد، ورئاسة القوم، وغير ذلك من النَّعيم، قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}  [التكاثر:8].

وروى الحاكم في "المستدرك" من حديث أبِي هُرَيْرة رضِي الله عنْه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: «إنَّ أوَّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة أن يقال له: ألَم أصحَّ لك جسمك؟ وأرْوِك من الماء البارد؟»                      (السلسلة الصحيحة؛ برقم 539).

وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضِي الله عنْه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: «إنَّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألَم أكرمك، وأسوِّدك، وأزوّجك، وأسخّر لك الخيل والإبل وأذرك ترْأس وتربع؟ فيقول: بلى، فيقول: أفظننتَ أنَّك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإنّي أنساك كما نسيتَني» (صحيح مسلم؛برقم:2968 )

ويُسأل عن العهود التي بينه وبين النَّاس، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34].

قال الشاعر:
                     أَمَا وَاللَّهِ لَوْ عَلِمَ الأَنَامُ***لِمَا خُلِقُوا لَمَا هَجَعُوا وَنَامُوا
                    لَقَدْ خُلِقُوا لأَمْرٍ لَوْ رَأَتْهُ***عُيُونُ قُلُوبِهِمْ تَاهُوا وَهَامُوا
                      مَمَاتٌ ثُمَّ قَبْرٌ ثُمَّ حَشْرٌ***وَتَوْبِيخٌ وَأَهْوَالٌ عِظَامُ
               لِيَوْمِ الحَشْرِ قَدْ عَمِلَتْ رِجَالٌ***فَصَلَّوْا مِنْ مَخَافَتِهِ وَصَامُوا

وأخْتم بهذا الحديث الَّذي رواه مسلم في صحيحِه، من حديث أبي ذر رضي الله عنْه عن النَّبيّ صلَّى الله عليْه وسلَّم  فيما روى عن الله  تبارَك وتعالى أنه قال: «يا عبادي: إنَّما هي أعمالُكم أحصيها لكُم، ثمَّ أوفِّيكم إيَّاها، فمَن وجد خيرًا فليحْمَد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلاَّ نفسَه» (صحيح مسلم؛برقم:2577)

والحمد لله ربّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيّنا محمَّد، وعلى آله وصحْبِه أجْمعين.