من سفر الحوالي إلى جورج بوش: 'لن ننسى مآسينا مهما طال عليها الزمن'
منذ 2008-01-21
هل فوضكم المسيح عليه السلام بهذا؟ حاشاه من ذلك! فإن مكيافيللي نفسه لم يفوضكم إلى هذا الحد. إن سلفكم في هذا هو شمشون وابنه المعاصر شارون.
أيها الرئيس... لا تظن أنني أريد تعداد عيوبكم القليلة وأنسى عيوبنا
الكثيرة جدًا في أعينكم، لا بل سوف أذكِّركم بعيب خطير فينا نحن
المسلمين؛ وهو أننا لا ننسى مآسينا مهما طال عليها الزمن، تصوّر -أيها
الرئيس- أننا لا زلنا نبكي على الأندلس ونتذكر ما فعله فريدناند
وإيزابلا بديننا وبحضارتنا وكرامتنا فيها! ونحلم باستردادها مرة أخرى،
ولن ننسى تدمير بغداد ولا سقوط القدس بيد أجدادك الصليبيين؟
بقلم د.سفر بن عبد الرحمن الحوالي
ملاحظة: نستسمح القراء الكرام بإعادة نشر الخطاب المفتوح الذي وجهه الشيخ سفر الحوالي -متعه الله بالصحة والعافية- إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش خلال عهدته الرئاسية الأولى، نهديه له بمناسبة زيارته المسعورة إلى الخليج.
خطاب مفتوح إلى الرئيس بوش
1ـ خطاب إلى المستكبرين:
أيها الرئيس:
أكتب لكم هذه الرسالة آملاً أن توضع في الاعتبار، بغض النظر عن دين كاتبها ولون بشرته وموقعه من تصنيفكم الجديد لبني آدم بين متحضر موافق لكم في كل ما ترون وهمجي لا يكون كذلك.
فهذه الرسالة من نوع قد يكون غريبًا عليكم، فأنا أكتب إليك بصفتي وارثًا من ورثة الأنبياء الكرام، وقد علمنا الأنبياء أن نخاطب المستكبرين في الأرض لعلهم يتذكرون أو يخشون رب العالمين؛ هكذا خاطب موسى عليه السلام فرعون وهامان وقارون، وخاطب عيسى عليه السلام والي الرومان ورئيس كهنة اليهود، وخاطب محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا جهل في مكة وهرقل وكسرى، وليس من شرط ذلك أن يستجيب المخاطب أو أن يسمع، لكنه إبلاغ لرسالة الله وإعذار إليه.
أكتب إليك وأنا فرد من أمة مستضعفة مضطهدة في مثل الحال التي كان عليها عيسى عليه السلام حين كان يتعرض لعدوان اليهود من جهة والرومان من جهة أخرى.
ومن المؤسف أن تكون الولايات المتحدة، وهي البلد الذي أسسه المهاجرون المضطهدون قد أحلت نفسها محل الامبراطورية الرومانية التي اضطهدت أتباع المسيح عليه السلام، وتواطأت مع أعداء الرسل وقتلة الأنبياء وقتلة أتباعهم في كل زمان ومكان، وهم كفار بني إسرائيل.
في ذلك الوقت كانت الامبراطورية الرومانية تدعي أنها رمز الحرية والقيم الحضارية -مثلما ألمحتم عن أمريكا في أول خطاب لكم بعد الحادث- وقد كانت القوة العظمى في العالم ووريثة الحضارة اليونانية ولها مجلس شيوخ وديمقراطية شكلية، وكان الفرد الروماني حرًا في عقيدته وسلوكه الشخصي، وهذا ما يجعلها خيرًا من الامبراطوريات المستبدة في مناطق أخرى من العالم، ولكن التاريخ الإنساني لا يذكر تلك الدولة بخير بسبب الجريمة البشعة التي تلطخت بها وهي اضطهاد المسيحيين.
لقد فقدت تلك القوة العظمى كل ميزة قيمة حين استضعفت طائفة مؤمنة بالله الذي لـه القوة المطلقة والعزة المطلقة والعدل المطلق، وهو شديد العقاب الذي يملي للظالم، ولكنه ينتقم منه يومًا.
وهكذا فعل.. فقد سلط الشعوب الهمجية الشمالية على روما واجتاحتها، وأحرقت رموزها الحضارية، وحطمت كبرياءها في مطلع القرن الخامس للميلاد، وبعد ذلك بقرنين أورث الله الأرض المقدسة التي عاش فيها المسيح عليه السلام لأتباع خاتم الأنبياء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهنا انتصر المسيح عليه السلام انتصارًا هائلًا، فهذه الأمة الإسلامية التي فتحت معظم العالم وحررته من الاستبداد والاضطهاد وملأته رحمة وعدلًا أظهرت للناس عظمة المسيح عليه السلام وصدق رسالته، وفضل الحواريين ومن اتبعهم كما جاء مفصلًا في القرآن الكريم، واعتبرت نفسها حلقة أخيرة في نفس السلسلة الطويلة من أتباع الأنبياء، ابتداءً من إبراهيم عليه السلام ومرورًا بموسى وعيسى عليهما السلام، وأظهرت للعالم كله أن أعداء المسيح عليه السلام كانوا أعداء الحرية والقيم النبيلة، ولاسيما اليهود منهم، سواء من كذب المسيح وحرض عليه (الرومان) أو من انتسب إليه زورًا وحرف رسالته، مثل شاؤول المتسمي بول.
والعجيب أن الشعوب التي ذاقت الويل من جبروت الرومان وغطرستهم واستعبادهم لغيرهم، واعتبارهم الآخرين (برابرة) قد فرحت لتدمير روما، وأعجبت بما فعل بها البرابرة الشماليون وإن كانت لا تحبهم ولا تعرفهم، فكيف لو كان الحال بعكس ذلك -أي: لو كان الهجوم على روما جرى -فَرَضًا- على يد المسيحيين المضطهدين؟ هل هناك أحد يجرؤ على لوم المسيحيين إذا ابتهجوا وتعاطفوا مع الفاعلين؟
2ـ الأمة الإسلامية أمة العدل:
أيها الرئيس:
نحن المسلمين أمة عدل، وفي الوقت نفسه تأبى علينا أخلاقنا أن نشمت بمنكوب، ولا زلنا نأمل أن تراجع الولايات المتحدة مواقفها، وتكون أقرب إلى العدل لكي نرجع إلى حسن ظننا بها، فلها سوابق تشجع على هذا الأمل، وتبيّن كيف أنا كنا نبادلها الخطوة بخطوتين؛ بل بالسير ميلين.
فعندما أعلن الرئيس ولسون نقاطه الأربعة عشرة في نهاية الحرب العالمية الأولى وأهمّها: حق الشعوب في تقرير مصيرها، ترجمته الأمة الإسلامية على أنه موقف عادل تجاه الاستعمار الأوروبي الذي كان جاثمًا على أكثر شعوبها، نعم فرح المسلمون بصوت من الأمم النصرانية نفسها، يقول ما يدل على أن التمييز العنصري والحملات الصليبية -ومنها تلك التي قادها الجنرال اللنبي- قد آن لهما أن يأفلا، وهكذا سارعت الشعوب الإسلامية إلى وضع الثقة الكاملة في هذه الأمة المحايدة الولايات المتحدة الأمريكية.
وكسبت الولايات المتحدة الكثير جدًا بسبب ذلك، فقد حصلت بالإضافة إلى الميزة المعنوية -على أعظم الامتيازات الاقتصادية في التاريخ، ولم يتزعزع ذلك حتى عند موقفها الجائر من قيام الدولة اليهودية وحرمان الشعب الفلسطيني من حق تقرير المصير؛ بل ظلّت- أعني: الشعوب الإسلامية- على أمل أن يكون ذلك مجرد خطأ يمكن استدراكه.
3ـ المواقف الأمريكية ضد الشعوب الإسلامية:
ثم كان موقف الرئيس أيزنهاور من العدوان الثلاثي على مصر من أكبر العوامل المشجعة على استمرار حسن الظن، وإغلاق الأذن عن الدعاية الشيوعية التي لم تكن كذبًا كلها.
ولكن الثقة في أمريكا وعدالتها سرعان ما اهتـزت، ثم انحدرت إلى الحضيض بسبب تصرفات أمريكا نفسها التي كانت تأتي في صورة براهين متتابعة تدحض حسن الظن إلى الأبد. ولعل أول تلك البراهين القاطعة هو ما قدمه الرئيس نيكسون ووزيره كسنجر في حرب رمضان (أكتوبر 1973 م) وما تلاها.
ثم جاء والدكم الرئيس بوش فجعل ازدواجية المعايير مشاهدةً لكل عين، ملموسةً لكل يد، فقد انتهك العراق من القرارات الدولية ما انتهكت إسرائيل أضعافه ولا تـزال، وقد كانت ذريعة العراق في ذلك تشبه ذريعة أمريكا في ضم تكساس، أما ذريعة إسرائيل في احتلال فلسطين فهي أسوأ من ذريعة البريطانيين في إبقاء أمريكا مستعمرة بريطانية، وأشنع مما تذرع به أجدادكم لإبادة الهنود الحمر!! إن هذا الموقف المتناقض هو الذي جعل الشعوب الإسلامية مرغمة على التظاهر بالملايين لتأييد الدكتاتور الذي لم يكن يحبه أحد منهم من قبل.
ثم جاء الرئيس كلنتون وإدارته اليهودية، وكان أكثر اهتمامًا منك ومن أبيك بحل المشكلة، ولكنه سار على الخط الخاطئ نفسه، فهو لم يزد على وصف الهجوم الإرهابي الفظيع على المسجد الإبراهيمي في الخليل بأنه جريمة!! -ولعلمك ولعلمه لم يحدث حتى الآن أن هاجم الفلسطينيون معبدًا يهوديًا قط- وحين وقع الهجوم الإرهابي على قانا لم يستح من وصفه بأنه: "حادث خطأ فعله الإسرائيليون دفاعًا عن النفس!!"، وعندما تعرضت إسرائيل لبعض الانفجارات، جَمَع زعماء العالم والعرب في مؤتمر شرم الشيخ لكي يدينوا جميعًا ما سمي (الإرهاب) متجاهلين المجازر الوحشية المتتابعة وسلسلة المآسي الطويلة التي أنـزلتها إسرائيل بالفلسطينيين والعرب، والتي لم توصف بشيء الأمر الذي جعل الشعوب الإسلامية تنفض يديها من أمريكا باعتبارها أَمْلت على المؤتمرين ما تريد إسرائيل، ومن حكوماتها باعتبارها رضخت للإدارة الأمريكية.
واتجهت بكل آلامها وآمالها إلى الجماعات الموصوفة بالإرهاب غير مبالية بهذا الوصف، فقد أعطاها المؤتمر درسًا جيدًا في فهم المصطلحات التي تستخدمها المعايير الأمريكية المزدوجة، أي: أن أمريكا عندما تَصِمُ أحدًا بأنه إرهابي أو متطرف، فإنها تضعه في موقع البطل المنشود في عيون المظلومين والبائسين المحتاجين لشيء من التنفيس عن القهر والمعاناة الطويلين.
كما أبلغها سيء الذكر كلاوس (السكرتير السابق لحلف الناتو) رسميًا أن الحلف قد أقام الإسلام هدفًا لعداوته مقام الاتحاد السوفييتي سابقًا، ولم تكن الدلائل العملية تحتاج لأكثر من هذا العنوان الفريد. وهي دلائل تتوافد يوميًا من كل مكان من الفلبين وتيمور وكشمير والقوقاز والبلقان والسودان وغيرها كثير. إلا أن ما حدث في فلسطين بعد تدنيس المسجد الأقصى على يد أكبر مجرم إرهابي في هذا العصر شارون طغى على ذلك كله.
وكان من سوء حظكم بعد نجاحكم الشاق في الانتخابات أن تعاصروا هذا المجرم وتستمروا في الحلف الاستراتيجي الأبدي مع دولته؛ ذلك الحليف الغريب الذي يحصل على كل شيء منكم وقت الرخاء، فإذا جاء وقت الحاجة طلبتم منه الحياد وكافأتموه عليه!!
لقد حرصنا -نحن المسلمين- على انتخابكم ونحن نملك الأدلة على أن غالبية الأصوات المرجحة لفوزكم هي أصواتنا، وأنا شخصيًا نصحت المسلمين بذلك، وكان بعضهم يأمل بأن تكونوا أقرب إلى العدل من الديمقراطيين؛ مع أن بعضهم الآخر كان صريحًا في أن الأمر لا يعدو اختيار أهون الشرين، ولم نفعل ذلك نسيانًا منا لجرائم حزبكم ووالدكم في كل أرض إسلامية، ولكن لأننا أمة عدلٍ وعقلٍ ألجمنا مشاعرنا واخترنا ما رأيناه الأفضل لنا ولأمريكا أيضًا، وتوقعنا منكم أن تقابلونا بشيء من الرد للجميل، ولكن ما فعلتموه كان العكس تمامًا، فقد زايدتم على سلفكم في مناصرة الإرهاب الصهيوني ماديًا وسياسيًا بالشكل الذي حدث ولا يـزال يحدث، وترددت أسئلة حائرة على كل شفة في العالم الإسلامي: هل للإدارة الأمريكية ضمير؟ هل لهذا الموقف المتحيز الذي أثار دهشة العالم كله من مبرر أو من نهاية؟!
وهل أمريكا هي إسرائيل الكبرى أم أن إسرائيل هي أمريكا الصغرى؟!
4ـ الموقف الإسلامي والموقف الغربي من أحداث الحادي عشر من سبتمبر:
وفي دوامة الحيرة ومتاهة الإحباط وقع حادث الحادي عشر من سبتمبر، ولا أكتمكم أن موجة عارمة من البهجة صاحبت الذهول الذي شعر به الكل في الشارع الإسلامي وكل من قال لكم غير ذلك فقد جانب الحقيقة!!
وفي اعتقادي أنه يجب على أمريكا التي تؤمن بالحرية والديمقراطية -كما تكرر في خطاباتكم- أن يتسع صدرها لهذه الفرحة الوحيدة العارضة وألا تصادر المشاعر الإسلامية العفوية، فهذه الأمة التي هي أكثر أمم الأرض عبادة لله وإيماناًَ بالعدل لم تفعل ذلك عن عداوة عنصرية أو نـزعة شريرة، بل شاركها في ذلك العالم كله، العالم الذي طردكم من منظمة حقوق الإنسان وحشد في وجهكم (3) منظمة شعبية في مؤتمر (دربان) وعانى أكثر من أربعين شعبًا منه من حصاركم الظالم وعقوباتكم الاقتصادية فضلاً عن غزوكم العسكري، حتى البيئة أثبتُّم للعالم أنكم أعدى أعدائها، ولكم في كل مؤتمر من مؤتمراتها موقف مخالف للعالم كله.
وقد كانت صدمة الناس بخطابكم الأول أكثر من صدمة الحدث نفسه، فقد تضمن التطابق - بل التماهي- بين أمريكا وبين الحرية والعدل والقيم النبيلة، كما تضمن الوعيد الشديد بالإنتقام وليس الوعد بالتعامل بعدل، وقد حاولنا التماس العذر لكم بهول الصدمة ومحاولة امتصاص الغضب الشعبي، ولكن كلامكم، بل أفعالكم كلها تتابعت على نفس المنوال وقطعت كل احتمال.
لقد كانت المجازفة في الاتهام والتسرع في الإنتقام مأساة حقيقية لأمريكا وامتحانًا حقيقيًا لقيمها وتحضرها، فقد هرعت أجهزتكم الأمنية التي كانت تـزعم أنه لو مر ذباب فوق البنتاجون لضبطته، ولو قام إنقلاب في إحدى قبائل الإسكيمو لعلمت به قبل وقوعه، إلى أقرب معهد للتدريب على الطيران وأقرب فندق، واستخرجت من قوائمها كل اسم دارس أو نـزيل عربي أو مسلم وأعلَنت أنهم هم الإرهابيون المعتدون!!
تصور أيها الرئيس: لو كنت جالسًا بين أهلك وقبيلتك على بعد آلاف الأميال، وسمعت أو رأيت الخبر عن قيامك بعملية انتحارية في طائرة؟ أو سمعت أن أخاك المتوفى من سنة هو الفاعل؟ ألا تشكر الله على أنك لا تنتمي إلى هؤلاء المتحضرين، ولا تؤمن بما يدعون من قيم وعدل؟ لاسيما وقد استجاب شعبكم المتحضر جدًا لهذه الرسائل منكم ومن وزرائكم وأجهزتكم، فأخذ يهاجم البرابرة الغزاة في كل ركن من أركان الحرية والحضارة في بلادكم.
لقد اكتشفت أنا وأبناء بلادي كم كنا برابرة حين قامت عصابة من الغربيين - ولا أقول من الإرهابيين لأن بشرتهم بيضاء وعيونهم زرقاء!! - بسلسلة من التفجيرات في مدننا، ورأيناهم وهم يدلون باعترافاتهم الخطيرة، ومع ذلك لم يتحرك منا شعرة لمهاجمة أي إنسان غربي في أي مكان من بلادنا، لم نقتلهم ولم نجردهم من ملابسهم في مطاراتنا، ولم ندخلهم الزنازين الانفرادية؛ فضلاً عن أن نحرض العالم كله لإنشاء تحالف عليهم، لا.. لا شيء من ذلك الذي فعله المتحضرون بأبنائنا وأبناء المسلمين عامة فعلناه.
لكن الذي دفعنا - أيها الرئيس - إلى هذا السلوك (غير المتحضر) هو ديننا وأخلاقنا ونشكر الله الذي أعطانا ذلك.
5 ـ وهنا أسألكم أيها الرئيس:
لو أن العالم خوّلكم إعطاء جائزة تقديرية للشعب الأرقى خلقًا وقيمًا والأحسن تعاملاً فلأي الشعبين كنت ستعطي الجائزة؟ لشعبك أم لنا؟ هل يعني ذلك أننا نضمر الشرّ للشعب الأمريكي أو نعامله بعنصرية؟
لا... أبدًا، فنحن نعتقد أن للشعب الأمريكي -جملةً- من صفات الخير ما يجعله أقرب الشعوب الغربية إلينا، وأجدرها بأن نحب له الخير في الدنيا والآخرة، فهو شعب يؤمن غالبيته العظمى بوجود الله، وهو ينفق على الأعمال الخيرية ما لا ينفقه شعب آخر في العالم (ولا نعني بذلك التنصير بين المسلمين).
وأصدق دليل على ما فيه من خير: أنه أكثر شعوب العالم قبولاً للإسلام وأسرعها اعتناقًا له ومحاولة لفهمه؛ حتى بعدما نـزل به من فاجعة حمَّلْتم -أنتم الحكومة- المسلمين مسئوليتها بلا دليل. ومثل هذا الشعب نحب لـه الخير والكرامة من أعماق قلوبنا، والخير والكرامة لا يتحققان لأي شعب إلا بأحد أمرين:
1- الدخول في دين الله الذي لا يقبل سواه وهو دين الأنبياء جميعًا (الإسلام) وبهذا يجمع الله له خيري الدنيا والآخرة.
2- مصالحة المسلمين ومحبتهم ومعاملتهم بالحسنى؛ وبهذا يجازيه الله في الدنيا خيرًا وأمنًا.
فهذه الأمة الإسلامية أتباع إبراهيم ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي أكرم الخلق على الله فمن أكرمها أكرمه الله ومن أهانها أهانه الله، وإن أمهله إلى حين، والتاريخ شاهد على هذا.
قد تقول أو يقال عنك، لقد اعتذرت عن عبارة: (حملة صليبية) وزرت المركز الإسلامي ونصحت الشعب بالانضباط، فنقول : لقد تعودنا من أمريكا أن تجرح جرحًا غائرًا، ثم تضع عليه لصقة خفيفة، إلا أن عدوانكم الحالي على أفغانستان نـزع تلك اللصقات بعنف وفتح جرحًا عميقًا في قلب كل مسلم.
وليتك - أيها الرئيس - إذ فعلت ما فعلت لم تعاود العبارات العنصرية مرة أخرى في خطابكم عن بدء الهجوم، فقد كان يكفيك -ومن غير حاجة إلى تبرير- أن تدعي الحق في أن تصنّف العالم كما تشاء، وتعاقب من تشاء كيف تشاء متى تشاء، ثم إنك زدت فجعلت شهوة الانتقام مفتوحة إلى ما لا نهاية حين قلت: "اليوم نركز على أفغانستان ولكن المعركة أعم".
ألا يكفي أن تدمروا شعبًا كاملاً بتهمة لم تثبت على شخص -أو تنظيم- يعيش مضطرًا في هذا البلد؟! أهذا العدوان الذي يتجاوز كل القيم والأخلاق، ويهز كل الضمائر الحية في العالم ليس إلا قطرة من بحر انتقامكم؟
هل فوضكم المسيح عليه السلام بهذا؟ حاشاه من ذلك! فإن مكيافيللي نفسه لم يفوضكم إلى هذا الحد. إن سلفكم في هذا هو شمشون وابنه المعاصر شارون.
ألا تخافون الله يا من جعلتم شعاركم هذه الأيام بارك الله أمريكا! كيف يباركها الله ويحفظها وقد علمها رسوله المسيح عليه السلام نقيض ما تفعل تمامًا: "من لطمك على خدك الأيمن فأدر لـه الأيسر، ومن نازعك ثوبك فأعطه الرداء أيضًا، ومن سخّرك ميلاً فامش معه ميلين'، ألا تدرون أنكم حين تجعلون شهوة الانتقام اللانهائي صفة المتحضرين؛ فإنكم تُلبسون المسيح عليه السلام صفة البرابرة الهمج، وحاشاه من ذلك.
ولكنكم أيها الرئيس كفرتم بالله والمسيح، وسلكتم سلوك البابوات في العصور الوسطى حين كانوا يصدرون صكوك الغفران وقرارات الحرمان -كما يشاءون-. لقد أعطيتم أنفسكم والدولة الصهيونية، وكل معتد غاشم صك غفران أبدي، وأصدرتم بحق من تورع عن مشاركتكم في عدوانكم اللامحدود قرار حرمان؛ وذلك بوصفه بأنه إرهابي أو مؤيد للإرهاب.
تبحثون بالمجهر عمن تسمونه جماعات إرهابية في الصومال الذي قتله الفقر، أو مخيمات الفلسطينيين في لبنان؛ حيث الإرهاب الصهيوني يهدد تلك الأعشاش الوادعة كل يوم، وتنسون أن الإرهاب الجهنمي الفظيع قائم عندكم ملموس بأيديكم؛ بل هو أنتم ولا شيء سواكم.
وإن لم تصدق هذا فقل لي بربك: لو أن أصدق صديق لكم جاء ليهنئكم بالانتصار الذي تريدون تحقيقه بعد عشر سنوات على عدوكم المفتعل الغامض. فعلى أي شيء سوف يهنئكم؟ هب أنه قال:
سيدي الرئيس؛ لقد تم قتل مليون أفغاني، ومليون عراقي، ومليون كذا وكذا، إلى آخر قائمتكم الخفية الملعونة، أهذا انتصار للحضارة والقيم النبيلة والحرية والديمقراطية؟ بالتأكيد سيكون بين ضحاياكم أرامل وأطفال جياع عراة حفاة، فهل هذا يشبع شهوتكم في الانتقام؟! أما الأحياء فسوف تتخذون حياتهم دليلاً على أنكم اقتصرتم على تدمير بيوتهم الطينية وأكواخهم الخشبية بصفتها أهدافًا إستراتيجية! في حربكم النظيفة! وأسلحتكم الذكية! التي لا تقتل البشر.
وهنا عند هذه النقطة سوف يقهقه العالم الذي ستجعلونه كئيبًا حزينًا إلى ما شاء الله -نعم سوف تهدون إليه هذه النكتة المتحضرة لكي يتذكر الذكاء الخارق الذي اتسمت به صواريخكم حين كنتم تضربون العراق فتصرخ إيران، وحين استهدفتم أفغانستان -في عدوانكم الأول فجرحتم باكستان، وحين أثار أحد صواريخكم الذكية ثائرة العملاق الأصفر بضرب سفارته في بلغراد.
وأنا - للعدل - أعترف لصاروخ واحد من صواريخكم بالذكاء، وهو ذلك الباتريوت الميمون الذي شاهد أحد صواريخ إسكود الغبية متجهًا فما كان منه إلا أن حرفه إلى الطريق الصحيح واستضافه في عشاء ضباط المخابرات الأمريكية في الخبر.
أما النظافة، فالعالم كله يشهد لكم بأنظف الحروب، مع ملاحظة بسيطة جدًا، وهي أنكم حين نظفتم هيروشيما وناجازاكي بقيت في العراء نفايات قليلة - عن غير قصد منكم - ولعلكم تستدركون هذا الخطأ في أفغانستان وتوابعها وتتكرمون أكثر فتدهنون الأماكن المنظفة بشيء من الدهان الأمريكي الرخيص. لكن للحق أيضًا نقول: إن نظافة حربكم في العراق مشكوك فيها قليلاً؛ لأن شهود النفي أطفال والقانون لا يقبل شهادة الأطفال ولو كان عددهم مليونين، أما شهود الإثبات فهم كبار في حجم ديكتاتور وجنرالات حوله.
أيها الرئيس... هل تعتقدون أن القائمة التي أعلنتم فيها أسماء المنظمات الإرهابية والدول الراعية للإرهاب تخدم مصلحتكم، أم أنها تؤكد أن العالم ضدكم؟ وأي مستشار هذا الذي أشار عليكم بنشرها في الوقت الذي اكتشف الناس فيه أن بيتكم من الزجاج ولا يزال مهشمًا؟ فلماذا تستعدون عليكم من يرميكم بالحجارة من اليابان شرقًا إلى بيرو غربًا؟ أما كان يكفيكم بلد واحد ومنظمة واحدة في هذه الظروف الأمنية الحرجة في بلادكم؟ أم أنكم تريدون أن تستثيروا الكل، فإذا حدث منهم حادث حملتموه المسلمين وحدهم لكي تستمر حملتكم الصليبية عليهم إلى الأبد.
6 ـ العيب الخطير في المسلمين:
أيها الرئيس: لا تظن أنني أريد تعداد عيوبكم القليلة وأنسى عيوبنا الكثيرة جدًا في أعينكم، لا بل سوف أذكِّركم بعيب خطير فينا نحن المسلمين؛ وهو أننا لا ننسى مآسينا مهما طال عليها الزمن، تصوّر -أيها الرئيس- أننا لا زلنا نبكي على الأندلس ونتذكر ما فعله فريدناند وإيزابلا بديننا وبحضارتنا وكرامتنا فيها! ونحلم باستردادها مرة أخرى، ولن ننسى تدمير بغداد ولا سقوط القدس بيد أجدادك الصليبيين؟ أي: أننا لسنا في نظركم بالقدر من الحضارة الذي يتمتع به الألمان واليابانيون الذين يؤيدونكم على هذا العدوان متناسين ماضيكم معهم. وأشد من ذلك أن الافريقي من المسلمين الذي أسلم بعد سقوط الأندلس يبكي مع العرب، مثلما يبكي الجاوي الذي لم يسمع عن الأندلس إلا قريبًا.
قد تكون هذه مشكلة بالنسبة لنا، ولكن من سيدفع الثمن ولو بعد حين؟
أيها الرئيس: إن مشكلتكم مع الأفغان -والمسلمين عامة- أنكم أقوى مما يجب وهم أضعف مما يجب، وأنكم كلما بالغتم بالقوة أو أفرطتم في استخدامها دلّ ذلك على ضعف في القوة.
وفي هذا سر إلهي عظيم يذكرنا بما حدث لفرعون الجبار على يد بني إسرائيل المستضعفين، فاسمعه من كتاب الله الكريم: {طسم{1} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ{2} نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{3} إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ{4} وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ{5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [سورة القصص: 1-6].
لا تقل أين أنا من فرعون؟ فقد طلبتم من المسلمين ما لم يطلبه فرعون من موسى عليه السلام وبني إسرائيل، وهو ألا يكرهوكم بقلوبهم -مهما فعلتم وتجبرتم- وإلا فستنتقمون منهم، وهذا من خصائص الألوهية، فالله تعالى وحده هو القادر على أن ينتقم من كل من لا يحبه، ونحن لا نعلم إمبراطورية ديكتاتورية في التاريخ القديم تتعامل مع ما تُكِنّه القلوب وتخفيه الضمائر، فضلاً عن دولة ديمقراطية في القرن الواحد والعشرين.
قد تقولون: إننا نقصد استئصال كل ما يثير الكراهية في الخطب ومناهج التعليم ومقالات الصحافة وأحاديث الإعلام، فنقول: إن كانت هذه هي ديمقراطيتكم فلا عليكم أن تطلبوا ما شئتم، ولكن ثقوا تمامًا أنكم لن تنجحوا، فإن الذي يعلمنا كره الظلم ومحبة الحق هو ديننا وقرآننا، وهو أقوى من كل وسائلكم وأثبت من جبالكم، وإذا أبيتم إلا غطرسة القوة وجنون العظمة، فليس لديكم من وسيلة إلا إبادة المسلمين كلهم بالسلاح النووي أو البيولوجي أو ما شئتم من ترسانتكم الجهنمية؟
قد تقولون: لماذا كلهم وفيهم من يحبنا؟ فأقول تأكدوا أنه لا يوجد مسلم على الأرض يحبكم حتى وإن تبرع لكم بالدم، وأنشأ لكم مراصد استخباراتية، أو فوضكم وضع المناهج التعليمية لشعبه، فكل من يدعي محبتكم في الأرض -وليس في المسلمين من يستطيع أن يدعيها- إنما يحبكم محبة الفريسة الخائفة للوحش الغاشم.
وقد تقول: سوف نعطي الشعوب الإسلامية الثقة من خلال تغيير أنظمة الحكم لتكون متسامحة وديمقراطية!!
فنقول: كفوا عنا شرّكم وكفى، فبهذا الوعد الزائف أهلكتم الشعب العراقي وغيره. وأي حرية أو ديمقراطية منكم فلا نريدها، ولن نقبلها، فعدو الحرية لا يعطي الحرية.
7- نصيحة أخيرة:
أيها الرئيس:
أنصحكم وأخوفكم بالله أن تقفوا وتَكُفّوا عن العدوان، وتتعاملوا مع القضية بعدل وأناة، وسوف تجدوننا معكم بلا تحفظ.
إن عودتكم الآن وأنتم في أول الطريق أسهل عليكم وأفضل للعالم، وإلا فإن البدايات السهلة غالبًا ما تستتبع نهايات بالغة الصعوبة، ولذلك أرجو أن تفكر أيها الرئيس فيما لو دمرت كل بلد تصنفه في قائمة الإرهاب، هل ستكون هذه هي النهاية أم أنها البداية، اللهم إلا إذا كنت تريد أن تدخل التاريخ من باب آرمجدون الملعونة!! فحينئذٍ لن يكون هناك تاريخ أصلاً.
ولهذا أكرر لك النصيحة وأقول: اتق الله وفكر جيدًا. والسلام على من اتبع الهدى.
12-1-2008
بقلم د.سفر بن عبد الرحمن الحوالي
ملاحظة: نستسمح القراء الكرام بإعادة نشر الخطاب المفتوح الذي وجهه الشيخ سفر الحوالي -متعه الله بالصحة والعافية- إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش خلال عهدته الرئاسية الأولى، نهديه له بمناسبة زيارته المسعورة إلى الخليج.
خطاب مفتوح إلى الرئيس بوش
1ـ خطاب إلى المستكبرين:
أيها الرئيس:
أكتب لكم هذه الرسالة آملاً أن توضع في الاعتبار، بغض النظر عن دين كاتبها ولون بشرته وموقعه من تصنيفكم الجديد لبني آدم بين متحضر موافق لكم في كل ما ترون وهمجي لا يكون كذلك.
فهذه الرسالة من نوع قد يكون غريبًا عليكم، فأنا أكتب إليك بصفتي وارثًا من ورثة الأنبياء الكرام، وقد علمنا الأنبياء أن نخاطب المستكبرين في الأرض لعلهم يتذكرون أو يخشون رب العالمين؛ هكذا خاطب موسى عليه السلام فرعون وهامان وقارون، وخاطب عيسى عليه السلام والي الرومان ورئيس كهنة اليهود، وخاطب محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا جهل في مكة وهرقل وكسرى، وليس من شرط ذلك أن يستجيب المخاطب أو أن يسمع، لكنه إبلاغ لرسالة الله وإعذار إليه.
أكتب إليك وأنا فرد من أمة مستضعفة مضطهدة في مثل الحال التي كان عليها عيسى عليه السلام حين كان يتعرض لعدوان اليهود من جهة والرومان من جهة أخرى.
ومن المؤسف أن تكون الولايات المتحدة، وهي البلد الذي أسسه المهاجرون المضطهدون قد أحلت نفسها محل الامبراطورية الرومانية التي اضطهدت أتباع المسيح عليه السلام، وتواطأت مع أعداء الرسل وقتلة الأنبياء وقتلة أتباعهم في كل زمان ومكان، وهم كفار بني إسرائيل.
في ذلك الوقت كانت الامبراطورية الرومانية تدعي أنها رمز الحرية والقيم الحضارية -مثلما ألمحتم عن أمريكا في أول خطاب لكم بعد الحادث- وقد كانت القوة العظمى في العالم ووريثة الحضارة اليونانية ولها مجلس شيوخ وديمقراطية شكلية، وكان الفرد الروماني حرًا في عقيدته وسلوكه الشخصي، وهذا ما يجعلها خيرًا من الامبراطوريات المستبدة في مناطق أخرى من العالم، ولكن التاريخ الإنساني لا يذكر تلك الدولة بخير بسبب الجريمة البشعة التي تلطخت بها وهي اضطهاد المسيحيين.
لقد فقدت تلك القوة العظمى كل ميزة قيمة حين استضعفت طائفة مؤمنة بالله الذي لـه القوة المطلقة والعزة المطلقة والعدل المطلق، وهو شديد العقاب الذي يملي للظالم، ولكنه ينتقم منه يومًا.
وهكذا فعل.. فقد سلط الشعوب الهمجية الشمالية على روما واجتاحتها، وأحرقت رموزها الحضارية، وحطمت كبرياءها في مطلع القرن الخامس للميلاد، وبعد ذلك بقرنين أورث الله الأرض المقدسة التي عاش فيها المسيح عليه السلام لأتباع خاتم الأنبياء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهنا انتصر المسيح عليه السلام انتصارًا هائلًا، فهذه الأمة الإسلامية التي فتحت معظم العالم وحررته من الاستبداد والاضطهاد وملأته رحمة وعدلًا أظهرت للناس عظمة المسيح عليه السلام وصدق رسالته، وفضل الحواريين ومن اتبعهم كما جاء مفصلًا في القرآن الكريم، واعتبرت نفسها حلقة أخيرة في نفس السلسلة الطويلة من أتباع الأنبياء، ابتداءً من إبراهيم عليه السلام ومرورًا بموسى وعيسى عليهما السلام، وأظهرت للعالم كله أن أعداء المسيح عليه السلام كانوا أعداء الحرية والقيم النبيلة، ولاسيما اليهود منهم، سواء من كذب المسيح وحرض عليه (الرومان) أو من انتسب إليه زورًا وحرف رسالته، مثل شاؤول المتسمي بول.
والعجيب أن الشعوب التي ذاقت الويل من جبروت الرومان وغطرستهم واستعبادهم لغيرهم، واعتبارهم الآخرين (برابرة) قد فرحت لتدمير روما، وأعجبت بما فعل بها البرابرة الشماليون وإن كانت لا تحبهم ولا تعرفهم، فكيف لو كان الحال بعكس ذلك -أي: لو كان الهجوم على روما جرى -فَرَضًا- على يد المسيحيين المضطهدين؟ هل هناك أحد يجرؤ على لوم المسيحيين إذا ابتهجوا وتعاطفوا مع الفاعلين؟
2ـ الأمة الإسلامية أمة العدل:
أيها الرئيس:
نحن المسلمين أمة عدل، وفي الوقت نفسه تأبى علينا أخلاقنا أن نشمت بمنكوب، ولا زلنا نأمل أن تراجع الولايات المتحدة مواقفها، وتكون أقرب إلى العدل لكي نرجع إلى حسن ظننا بها، فلها سوابق تشجع على هذا الأمل، وتبيّن كيف أنا كنا نبادلها الخطوة بخطوتين؛ بل بالسير ميلين.
فعندما أعلن الرئيس ولسون نقاطه الأربعة عشرة في نهاية الحرب العالمية الأولى وأهمّها: حق الشعوب في تقرير مصيرها، ترجمته الأمة الإسلامية على أنه موقف عادل تجاه الاستعمار الأوروبي الذي كان جاثمًا على أكثر شعوبها، نعم فرح المسلمون بصوت من الأمم النصرانية نفسها، يقول ما يدل على أن التمييز العنصري والحملات الصليبية -ومنها تلك التي قادها الجنرال اللنبي- قد آن لهما أن يأفلا، وهكذا سارعت الشعوب الإسلامية إلى وضع الثقة الكاملة في هذه الأمة المحايدة الولايات المتحدة الأمريكية.
وكسبت الولايات المتحدة الكثير جدًا بسبب ذلك، فقد حصلت بالإضافة إلى الميزة المعنوية -على أعظم الامتيازات الاقتصادية في التاريخ، ولم يتزعزع ذلك حتى عند موقفها الجائر من قيام الدولة اليهودية وحرمان الشعب الفلسطيني من حق تقرير المصير؛ بل ظلّت- أعني: الشعوب الإسلامية- على أمل أن يكون ذلك مجرد خطأ يمكن استدراكه.
3ـ المواقف الأمريكية ضد الشعوب الإسلامية:
ثم كان موقف الرئيس أيزنهاور من العدوان الثلاثي على مصر من أكبر العوامل المشجعة على استمرار حسن الظن، وإغلاق الأذن عن الدعاية الشيوعية التي لم تكن كذبًا كلها.
ولكن الثقة في أمريكا وعدالتها سرعان ما اهتـزت، ثم انحدرت إلى الحضيض بسبب تصرفات أمريكا نفسها التي كانت تأتي في صورة براهين متتابعة تدحض حسن الظن إلى الأبد. ولعل أول تلك البراهين القاطعة هو ما قدمه الرئيس نيكسون ووزيره كسنجر في حرب رمضان (أكتوبر 1973 م) وما تلاها.
ثم جاء والدكم الرئيس بوش فجعل ازدواجية المعايير مشاهدةً لكل عين، ملموسةً لكل يد، فقد انتهك العراق من القرارات الدولية ما انتهكت إسرائيل أضعافه ولا تـزال، وقد كانت ذريعة العراق في ذلك تشبه ذريعة أمريكا في ضم تكساس، أما ذريعة إسرائيل في احتلال فلسطين فهي أسوأ من ذريعة البريطانيين في إبقاء أمريكا مستعمرة بريطانية، وأشنع مما تذرع به أجدادكم لإبادة الهنود الحمر!! إن هذا الموقف المتناقض هو الذي جعل الشعوب الإسلامية مرغمة على التظاهر بالملايين لتأييد الدكتاتور الذي لم يكن يحبه أحد منهم من قبل.
ثم جاء الرئيس كلنتون وإدارته اليهودية، وكان أكثر اهتمامًا منك ومن أبيك بحل المشكلة، ولكنه سار على الخط الخاطئ نفسه، فهو لم يزد على وصف الهجوم الإرهابي الفظيع على المسجد الإبراهيمي في الخليل بأنه جريمة!! -ولعلمك ولعلمه لم يحدث حتى الآن أن هاجم الفلسطينيون معبدًا يهوديًا قط- وحين وقع الهجوم الإرهابي على قانا لم يستح من وصفه بأنه: "حادث خطأ فعله الإسرائيليون دفاعًا عن النفس!!"، وعندما تعرضت إسرائيل لبعض الانفجارات، جَمَع زعماء العالم والعرب في مؤتمر شرم الشيخ لكي يدينوا جميعًا ما سمي (الإرهاب) متجاهلين المجازر الوحشية المتتابعة وسلسلة المآسي الطويلة التي أنـزلتها إسرائيل بالفلسطينيين والعرب، والتي لم توصف بشيء الأمر الذي جعل الشعوب الإسلامية تنفض يديها من أمريكا باعتبارها أَمْلت على المؤتمرين ما تريد إسرائيل، ومن حكوماتها باعتبارها رضخت للإدارة الأمريكية.
واتجهت بكل آلامها وآمالها إلى الجماعات الموصوفة بالإرهاب غير مبالية بهذا الوصف، فقد أعطاها المؤتمر درسًا جيدًا في فهم المصطلحات التي تستخدمها المعايير الأمريكية المزدوجة، أي: أن أمريكا عندما تَصِمُ أحدًا بأنه إرهابي أو متطرف، فإنها تضعه في موقع البطل المنشود في عيون المظلومين والبائسين المحتاجين لشيء من التنفيس عن القهر والمعاناة الطويلين.
كما أبلغها سيء الذكر كلاوس (السكرتير السابق لحلف الناتو) رسميًا أن الحلف قد أقام الإسلام هدفًا لعداوته مقام الاتحاد السوفييتي سابقًا، ولم تكن الدلائل العملية تحتاج لأكثر من هذا العنوان الفريد. وهي دلائل تتوافد يوميًا من كل مكان من الفلبين وتيمور وكشمير والقوقاز والبلقان والسودان وغيرها كثير. إلا أن ما حدث في فلسطين بعد تدنيس المسجد الأقصى على يد أكبر مجرم إرهابي في هذا العصر شارون طغى على ذلك كله.
وكان من سوء حظكم بعد نجاحكم الشاق في الانتخابات أن تعاصروا هذا المجرم وتستمروا في الحلف الاستراتيجي الأبدي مع دولته؛ ذلك الحليف الغريب الذي يحصل على كل شيء منكم وقت الرخاء، فإذا جاء وقت الحاجة طلبتم منه الحياد وكافأتموه عليه!!
لقد حرصنا -نحن المسلمين- على انتخابكم ونحن نملك الأدلة على أن غالبية الأصوات المرجحة لفوزكم هي أصواتنا، وأنا شخصيًا نصحت المسلمين بذلك، وكان بعضهم يأمل بأن تكونوا أقرب إلى العدل من الديمقراطيين؛ مع أن بعضهم الآخر كان صريحًا في أن الأمر لا يعدو اختيار أهون الشرين، ولم نفعل ذلك نسيانًا منا لجرائم حزبكم ووالدكم في كل أرض إسلامية، ولكن لأننا أمة عدلٍ وعقلٍ ألجمنا مشاعرنا واخترنا ما رأيناه الأفضل لنا ولأمريكا أيضًا، وتوقعنا منكم أن تقابلونا بشيء من الرد للجميل، ولكن ما فعلتموه كان العكس تمامًا، فقد زايدتم على سلفكم في مناصرة الإرهاب الصهيوني ماديًا وسياسيًا بالشكل الذي حدث ولا يـزال يحدث، وترددت أسئلة حائرة على كل شفة في العالم الإسلامي: هل للإدارة الأمريكية ضمير؟ هل لهذا الموقف المتحيز الذي أثار دهشة العالم كله من مبرر أو من نهاية؟!
وهل أمريكا هي إسرائيل الكبرى أم أن إسرائيل هي أمريكا الصغرى؟!
4ـ الموقف الإسلامي والموقف الغربي من أحداث الحادي عشر من سبتمبر:
وفي دوامة الحيرة ومتاهة الإحباط وقع حادث الحادي عشر من سبتمبر، ولا أكتمكم أن موجة عارمة من البهجة صاحبت الذهول الذي شعر به الكل في الشارع الإسلامي وكل من قال لكم غير ذلك فقد جانب الحقيقة!!
وفي اعتقادي أنه يجب على أمريكا التي تؤمن بالحرية والديمقراطية -كما تكرر في خطاباتكم- أن يتسع صدرها لهذه الفرحة الوحيدة العارضة وألا تصادر المشاعر الإسلامية العفوية، فهذه الأمة التي هي أكثر أمم الأرض عبادة لله وإيماناًَ بالعدل لم تفعل ذلك عن عداوة عنصرية أو نـزعة شريرة، بل شاركها في ذلك العالم كله، العالم الذي طردكم من منظمة حقوق الإنسان وحشد في وجهكم (3) منظمة شعبية في مؤتمر (دربان) وعانى أكثر من أربعين شعبًا منه من حصاركم الظالم وعقوباتكم الاقتصادية فضلاً عن غزوكم العسكري، حتى البيئة أثبتُّم للعالم أنكم أعدى أعدائها، ولكم في كل مؤتمر من مؤتمراتها موقف مخالف للعالم كله.
وقد كانت صدمة الناس بخطابكم الأول أكثر من صدمة الحدث نفسه، فقد تضمن التطابق - بل التماهي- بين أمريكا وبين الحرية والعدل والقيم النبيلة، كما تضمن الوعيد الشديد بالإنتقام وليس الوعد بالتعامل بعدل، وقد حاولنا التماس العذر لكم بهول الصدمة ومحاولة امتصاص الغضب الشعبي، ولكن كلامكم، بل أفعالكم كلها تتابعت على نفس المنوال وقطعت كل احتمال.
لقد كانت المجازفة في الاتهام والتسرع في الإنتقام مأساة حقيقية لأمريكا وامتحانًا حقيقيًا لقيمها وتحضرها، فقد هرعت أجهزتكم الأمنية التي كانت تـزعم أنه لو مر ذباب فوق البنتاجون لضبطته، ولو قام إنقلاب في إحدى قبائل الإسكيمو لعلمت به قبل وقوعه، إلى أقرب معهد للتدريب على الطيران وأقرب فندق، واستخرجت من قوائمها كل اسم دارس أو نـزيل عربي أو مسلم وأعلَنت أنهم هم الإرهابيون المعتدون!!
تصور أيها الرئيس: لو كنت جالسًا بين أهلك وقبيلتك على بعد آلاف الأميال، وسمعت أو رأيت الخبر عن قيامك بعملية انتحارية في طائرة؟ أو سمعت أن أخاك المتوفى من سنة هو الفاعل؟ ألا تشكر الله على أنك لا تنتمي إلى هؤلاء المتحضرين، ولا تؤمن بما يدعون من قيم وعدل؟ لاسيما وقد استجاب شعبكم المتحضر جدًا لهذه الرسائل منكم ومن وزرائكم وأجهزتكم، فأخذ يهاجم البرابرة الغزاة في كل ركن من أركان الحرية والحضارة في بلادكم.
لقد اكتشفت أنا وأبناء بلادي كم كنا برابرة حين قامت عصابة من الغربيين - ولا أقول من الإرهابيين لأن بشرتهم بيضاء وعيونهم زرقاء!! - بسلسلة من التفجيرات في مدننا، ورأيناهم وهم يدلون باعترافاتهم الخطيرة، ومع ذلك لم يتحرك منا شعرة لمهاجمة أي إنسان غربي في أي مكان من بلادنا، لم نقتلهم ولم نجردهم من ملابسهم في مطاراتنا، ولم ندخلهم الزنازين الانفرادية؛ فضلاً عن أن نحرض العالم كله لإنشاء تحالف عليهم، لا.. لا شيء من ذلك الذي فعله المتحضرون بأبنائنا وأبناء المسلمين عامة فعلناه.
لكن الذي دفعنا - أيها الرئيس - إلى هذا السلوك (غير المتحضر) هو ديننا وأخلاقنا ونشكر الله الذي أعطانا ذلك.
5 ـ وهنا أسألكم أيها الرئيس:
لو أن العالم خوّلكم إعطاء جائزة تقديرية للشعب الأرقى خلقًا وقيمًا والأحسن تعاملاً فلأي الشعبين كنت ستعطي الجائزة؟ لشعبك أم لنا؟ هل يعني ذلك أننا نضمر الشرّ للشعب الأمريكي أو نعامله بعنصرية؟
لا... أبدًا، فنحن نعتقد أن للشعب الأمريكي -جملةً- من صفات الخير ما يجعله أقرب الشعوب الغربية إلينا، وأجدرها بأن نحب له الخير في الدنيا والآخرة، فهو شعب يؤمن غالبيته العظمى بوجود الله، وهو ينفق على الأعمال الخيرية ما لا ينفقه شعب آخر في العالم (ولا نعني بذلك التنصير بين المسلمين).
وأصدق دليل على ما فيه من خير: أنه أكثر شعوب العالم قبولاً للإسلام وأسرعها اعتناقًا له ومحاولة لفهمه؛ حتى بعدما نـزل به من فاجعة حمَّلْتم -أنتم الحكومة- المسلمين مسئوليتها بلا دليل. ومثل هذا الشعب نحب لـه الخير والكرامة من أعماق قلوبنا، والخير والكرامة لا يتحققان لأي شعب إلا بأحد أمرين:
1- الدخول في دين الله الذي لا يقبل سواه وهو دين الأنبياء جميعًا (الإسلام) وبهذا يجمع الله له خيري الدنيا والآخرة.
2- مصالحة المسلمين ومحبتهم ومعاملتهم بالحسنى؛ وبهذا يجازيه الله في الدنيا خيرًا وأمنًا.
فهذه الأمة الإسلامية أتباع إبراهيم ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي أكرم الخلق على الله فمن أكرمها أكرمه الله ومن أهانها أهانه الله، وإن أمهله إلى حين، والتاريخ شاهد على هذا.
قد تقول أو يقال عنك، لقد اعتذرت عن عبارة: (حملة صليبية) وزرت المركز الإسلامي ونصحت الشعب بالانضباط، فنقول : لقد تعودنا من أمريكا أن تجرح جرحًا غائرًا، ثم تضع عليه لصقة خفيفة، إلا أن عدوانكم الحالي على أفغانستان نـزع تلك اللصقات بعنف وفتح جرحًا عميقًا في قلب كل مسلم.
وليتك - أيها الرئيس - إذ فعلت ما فعلت لم تعاود العبارات العنصرية مرة أخرى في خطابكم عن بدء الهجوم، فقد كان يكفيك -ومن غير حاجة إلى تبرير- أن تدعي الحق في أن تصنّف العالم كما تشاء، وتعاقب من تشاء كيف تشاء متى تشاء، ثم إنك زدت فجعلت شهوة الانتقام مفتوحة إلى ما لا نهاية حين قلت: "اليوم نركز على أفغانستان ولكن المعركة أعم".
ألا يكفي أن تدمروا شعبًا كاملاً بتهمة لم تثبت على شخص -أو تنظيم- يعيش مضطرًا في هذا البلد؟! أهذا العدوان الذي يتجاوز كل القيم والأخلاق، ويهز كل الضمائر الحية في العالم ليس إلا قطرة من بحر انتقامكم؟
هل فوضكم المسيح عليه السلام بهذا؟ حاشاه من ذلك! فإن مكيافيللي نفسه لم يفوضكم إلى هذا الحد. إن سلفكم في هذا هو شمشون وابنه المعاصر شارون.
ألا تخافون الله يا من جعلتم شعاركم هذه الأيام بارك الله أمريكا! كيف يباركها الله ويحفظها وقد علمها رسوله المسيح عليه السلام نقيض ما تفعل تمامًا: "من لطمك على خدك الأيمن فأدر لـه الأيسر، ومن نازعك ثوبك فأعطه الرداء أيضًا، ومن سخّرك ميلاً فامش معه ميلين'، ألا تدرون أنكم حين تجعلون شهوة الانتقام اللانهائي صفة المتحضرين؛ فإنكم تُلبسون المسيح عليه السلام صفة البرابرة الهمج، وحاشاه من ذلك.
ولكنكم أيها الرئيس كفرتم بالله والمسيح، وسلكتم سلوك البابوات في العصور الوسطى حين كانوا يصدرون صكوك الغفران وقرارات الحرمان -كما يشاءون-. لقد أعطيتم أنفسكم والدولة الصهيونية، وكل معتد غاشم صك غفران أبدي، وأصدرتم بحق من تورع عن مشاركتكم في عدوانكم اللامحدود قرار حرمان؛ وذلك بوصفه بأنه إرهابي أو مؤيد للإرهاب.
تبحثون بالمجهر عمن تسمونه جماعات إرهابية في الصومال الذي قتله الفقر، أو مخيمات الفلسطينيين في لبنان؛ حيث الإرهاب الصهيوني يهدد تلك الأعشاش الوادعة كل يوم، وتنسون أن الإرهاب الجهنمي الفظيع قائم عندكم ملموس بأيديكم؛ بل هو أنتم ولا شيء سواكم.
وإن لم تصدق هذا فقل لي بربك: لو أن أصدق صديق لكم جاء ليهنئكم بالانتصار الذي تريدون تحقيقه بعد عشر سنوات على عدوكم المفتعل الغامض. فعلى أي شيء سوف يهنئكم؟ هب أنه قال:
سيدي الرئيس؛ لقد تم قتل مليون أفغاني، ومليون عراقي، ومليون كذا وكذا، إلى آخر قائمتكم الخفية الملعونة، أهذا انتصار للحضارة والقيم النبيلة والحرية والديمقراطية؟ بالتأكيد سيكون بين ضحاياكم أرامل وأطفال جياع عراة حفاة، فهل هذا يشبع شهوتكم في الانتقام؟! أما الأحياء فسوف تتخذون حياتهم دليلاً على أنكم اقتصرتم على تدمير بيوتهم الطينية وأكواخهم الخشبية بصفتها أهدافًا إستراتيجية! في حربكم النظيفة! وأسلحتكم الذكية! التي لا تقتل البشر.
وهنا عند هذه النقطة سوف يقهقه العالم الذي ستجعلونه كئيبًا حزينًا إلى ما شاء الله -نعم سوف تهدون إليه هذه النكتة المتحضرة لكي يتذكر الذكاء الخارق الذي اتسمت به صواريخكم حين كنتم تضربون العراق فتصرخ إيران، وحين استهدفتم أفغانستان -في عدوانكم الأول فجرحتم باكستان، وحين أثار أحد صواريخكم الذكية ثائرة العملاق الأصفر بضرب سفارته في بلغراد.
وأنا - للعدل - أعترف لصاروخ واحد من صواريخكم بالذكاء، وهو ذلك الباتريوت الميمون الذي شاهد أحد صواريخ إسكود الغبية متجهًا فما كان منه إلا أن حرفه إلى الطريق الصحيح واستضافه في عشاء ضباط المخابرات الأمريكية في الخبر.
أما النظافة، فالعالم كله يشهد لكم بأنظف الحروب، مع ملاحظة بسيطة جدًا، وهي أنكم حين نظفتم هيروشيما وناجازاكي بقيت في العراء نفايات قليلة - عن غير قصد منكم - ولعلكم تستدركون هذا الخطأ في أفغانستان وتوابعها وتتكرمون أكثر فتدهنون الأماكن المنظفة بشيء من الدهان الأمريكي الرخيص. لكن للحق أيضًا نقول: إن نظافة حربكم في العراق مشكوك فيها قليلاً؛ لأن شهود النفي أطفال والقانون لا يقبل شهادة الأطفال ولو كان عددهم مليونين، أما شهود الإثبات فهم كبار في حجم ديكتاتور وجنرالات حوله.
أيها الرئيس... هل تعتقدون أن القائمة التي أعلنتم فيها أسماء المنظمات الإرهابية والدول الراعية للإرهاب تخدم مصلحتكم، أم أنها تؤكد أن العالم ضدكم؟ وأي مستشار هذا الذي أشار عليكم بنشرها في الوقت الذي اكتشف الناس فيه أن بيتكم من الزجاج ولا يزال مهشمًا؟ فلماذا تستعدون عليكم من يرميكم بالحجارة من اليابان شرقًا إلى بيرو غربًا؟ أما كان يكفيكم بلد واحد ومنظمة واحدة في هذه الظروف الأمنية الحرجة في بلادكم؟ أم أنكم تريدون أن تستثيروا الكل، فإذا حدث منهم حادث حملتموه المسلمين وحدهم لكي تستمر حملتكم الصليبية عليهم إلى الأبد.
6 ـ العيب الخطير في المسلمين:
أيها الرئيس: لا تظن أنني أريد تعداد عيوبكم القليلة وأنسى عيوبنا الكثيرة جدًا في أعينكم، لا بل سوف أذكِّركم بعيب خطير فينا نحن المسلمين؛ وهو أننا لا ننسى مآسينا مهما طال عليها الزمن، تصوّر -أيها الرئيس- أننا لا زلنا نبكي على الأندلس ونتذكر ما فعله فريدناند وإيزابلا بديننا وبحضارتنا وكرامتنا فيها! ونحلم باستردادها مرة أخرى، ولن ننسى تدمير بغداد ولا سقوط القدس بيد أجدادك الصليبيين؟ أي: أننا لسنا في نظركم بالقدر من الحضارة الذي يتمتع به الألمان واليابانيون الذين يؤيدونكم على هذا العدوان متناسين ماضيكم معهم. وأشد من ذلك أن الافريقي من المسلمين الذي أسلم بعد سقوط الأندلس يبكي مع العرب، مثلما يبكي الجاوي الذي لم يسمع عن الأندلس إلا قريبًا.
قد تكون هذه مشكلة بالنسبة لنا، ولكن من سيدفع الثمن ولو بعد حين؟
أيها الرئيس: إن مشكلتكم مع الأفغان -والمسلمين عامة- أنكم أقوى مما يجب وهم أضعف مما يجب، وأنكم كلما بالغتم بالقوة أو أفرطتم في استخدامها دلّ ذلك على ضعف في القوة.
وفي هذا سر إلهي عظيم يذكرنا بما حدث لفرعون الجبار على يد بني إسرائيل المستضعفين، فاسمعه من كتاب الله الكريم: {طسم{1} تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ{2} نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{3} إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ{4} وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ{5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [سورة القصص: 1-6].
لا تقل أين أنا من فرعون؟ فقد طلبتم من المسلمين ما لم يطلبه فرعون من موسى عليه السلام وبني إسرائيل، وهو ألا يكرهوكم بقلوبهم -مهما فعلتم وتجبرتم- وإلا فستنتقمون منهم، وهذا من خصائص الألوهية، فالله تعالى وحده هو القادر على أن ينتقم من كل من لا يحبه، ونحن لا نعلم إمبراطورية ديكتاتورية في التاريخ القديم تتعامل مع ما تُكِنّه القلوب وتخفيه الضمائر، فضلاً عن دولة ديمقراطية في القرن الواحد والعشرين.
قد تقولون: إننا نقصد استئصال كل ما يثير الكراهية في الخطب ومناهج التعليم ومقالات الصحافة وأحاديث الإعلام، فنقول: إن كانت هذه هي ديمقراطيتكم فلا عليكم أن تطلبوا ما شئتم، ولكن ثقوا تمامًا أنكم لن تنجحوا، فإن الذي يعلمنا كره الظلم ومحبة الحق هو ديننا وقرآننا، وهو أقوى من كل وسائلكم وأثبت من جبالكم، وإذا أبيتم إلا غطرسة القوة وجنون العظمة، فليس لديكم من وسيلة إلا إبادة المسلمين كلهم بالسلاح النووي أو البيولوجي أو ما شئتم من ترسانتكم الجهنمية؟
قد تقولون: لماذا كلهم وفيهم من يحبنا؟ فأقول تأكدوا أنه لا يوجد مسلم على الأرض يحبكم حتى وإن تبرع لكم بالدم، وأنشأ لكم مراصد استخباراتية، أو فوضكم وضع المناهج التعليمية لشعبه، فكل من يدعي محبتكم في الأرض -وليس في المسلمين من يستطيع أن يدعيها- إنما يحبكم محبة الفريسة الخائفة للوحش الغاشم.
وقد تقول: سوف نعطي الشعوب الإسلامية الثقة من خلال تغيير أنظمة الحكم لتكون متسامحة وديمقراطية!!
فنقول: كفوا عنا شرّكم وكفى، فبهذا الوعد الزائف أهلكتم الشعب العراقي وغيره. وأي حرية أو ديمقراطية منكم فلا نريدها، ولن نقبلها، فعدو الحرية لا يعطي الحرية.
7- نصيحة أخيرة:
أيها الرئيس:
أنصحكم وأخوفكم بالله أن تقفوا وتَكُفّوا عن العدوان، وتتعاملوا مع القضية بعدل وأناة، وسوف تجدوننا معكم بلا تحفظ.
إن عودتكم الآن وأنتم في أول الطريق أسهل عليكم وأفضل للعالم، وإلا فإن البدايات السهلة غالبًا ما تستتبع نهايات بالغة الصعوبة، ولذلك أرجو أن تفكر أيها الرئيس فيما لو دمرت كل بلد تصنفه في قائمة الإرهاب، هل ستكون هذه هي النهاية أم أنها البداية، اللهم إلا إذا كنت تريد أن تدخل التاريخ من باب آرمجدون الملعونة!! فحينئذٍ لن يكون هناك تاريخ أصلاً.
ولهذا أكرر لك النصيحة وأقول: اتق الله وفكر جيدًا. والسلام على من اتبع الهدى.
12-1-2008
المصدر: مجلة العصر
سفر بن عبد الرحمن الحوالي
رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى سابقا
- التصنيف: