العبادة في وقت الفتن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلا مِنْكُمْ».
عناصر الخطبة :
1- فضل العبادة في الهرج وأوقات الفتن.
2- أسباب الثبات على الحق في زمن الفتن.
3- العاقبة للمتقين.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد ..
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فضل العبادة في الهرج وأوقات الفتن
عباد الله، الحمد لله الذي خلقنا لعبادته، وأوجب علينا أن نعبده وحده لا شريك له، وهذه العبادة بقلوبنا وجوارحنا، نعيشها حضرًا وسفرًا، برًا وبحرًا وجوًا، أمنًا وسلمًا، وحربًا وخوفًا، والعبادة في الهرج وأوقات الفتن من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام : « » (مسلم [2948]) .
هذا الحديث العظيم الذي يرويه الصحابي الجليل معقل بن يسار رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (العبادة)، وهذا لفظ مستغرق يشمل جميع أنواع العبادات، العبادة في الهرج؛ والهرج كما قال أهل العلم ومنهم الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث، الفتنة وأيام الفتن واختلاط أمور الناس، كذلك في حال القتل والحرب، كذلك في حال الخوف والذعر، في حال اختلاط أمور الناس من الفوضى الاقتصادية أو الفوضى الاجتماعية، أو الفوضى في الفتوى، الفوضى بحيث لا تنتظم أمورهم، ويكونون في أمرٍ مريج، فالذي يجمع قلبه على ربه، في حال اختلاط أمور الناس وفي حال الخوف والذعر وفي حال الفوضى والاضطراب في حال اختلاط الأمور وفي حال اضطرابها، في حال الخفاء والجهالة من كثير من الناس لدينهم، تكون العبادة في هذا الجو في هذه البيئة في هذه الأوساط في هذه الحال (كهجرةٍ إلي).
يقول عليه الصلاة السلام، ومعلوم أجر الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ما هو أجر المهاجرين، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وأهليهم، الذين تركوا البلاد والأهل والمال، وتركوا الوطن لله، وخرجوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف كان أجرهم، هؤلاء الذين أتعبوا من بعدهم، فلا يصل إلى درجتهم أحد مما بعدهم ولا هجرة بعد الفتح {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد من الآية:10].
مع الذي أنفق من بعد الفتح وقاتل، والهجرة بهذا الأجر العظيم ليست فقط من بلاد الكفر إلى بلد الإسلام، وإنما إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال (كهجرةٍ إلي)، فالعبادة في الهرج في فضله وأجرها ذات ثواب عظيم، لمن؟ لهذا الإنسان الذي عبد الله تعالى في زمن الفتن، في زمن اختلاط الأمور، في زمن ثوران الشهوات والغرائز، في زمن خفاء أمر الحلال، وخفاء كثيرٍ من الأحكام على الناس، ولكنه يعبد ربه ويعرف دينه ولذلك فهو يتمكن بالعلم الذي معه، في وقت الاضطراب والجهل والخفاء، يتمكن به من معرفة الله تعالى وعبادته، والناس في حال الفتن و الاضطراب ينشغلون عن العبادة، ويشتغلون بأنفسهم، تطيش أحلامهم تغيب عقولهم، ويعيشون في غفلة، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن سبب إكثاره من الصيام في شهر شعبان، قال « » (النسائي [2357] وحسنه الألباني).
فالعبادة في أوقات الغفلة لها ميزة، ولذلك كان القيام في هدئة الليل والناس نائمون فيه ميزة، وأيضًا استحب كثير من السلف إحياء ما بين المغرب والعشاء بصلاة النافلة وذكر الله، لأنه من أوقات الغفلة عند الناس، فالمتمسك لطاعة الله، إذا قصّر فيها الناس وشغلوا عنها كالكّار بعد الفار، فيكون الذي يطيع ربه في هذه الحال له ثواب كثواب الذي يكر في الغزو بعد أن فر الناس من أرض المعركة، والناس إذا كثرت الطاعة فيهم وكثر المقتدون والمقتدى بهم سهل أمر الطاعة، ولكن إذا كثرت الغفلة وصار الجهل مسيطر، وترك الطاعات هو العنوان، وقلة المقتدى به وقلة العاملين، فإن الأجر عند ذلك يكون عظيم، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: « » (الترمذي وأبو داود وحسنه ابن حجر وصححه والألباني).
بل إن المنفرد بالطاعة عن أهل الغفلة قد يدفع البلاء عنهم، قال بعض السلف: "ذاكرُ الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس".
والله يدفع بالرجل الصالح عن أهله، وولده وذريته ومن حوله، فقد يكون في العائلة واحد والآخرون غافلون، عابد والآخرون في غيهم سادرون، صاحب علمٍ والآخرون في جهلهم يعمهون، وهكذا يتفرد هذا الواحد بالعلم والعبادة، حينما انشغل من حوله وغفلوا عن الطاعة، ونحن في هذا الزمان نعيش أزمات متعددة، فهذه أزمة اقتصادية، وهذه أزمة صحية، وهذه أزمة فتنٍ وتغلّب للعدو، وكثير من الناس إذا رأوا غلبة سوق النفاق وارتفاع ألوية أهل الكفر يئسوا، وقالوا فيم العمل؟
بل وربما ساروا في تيار الركب الذي هو مشابهة الغالب والذي يسيطر على الأمور في الظاهر، وهذه يا أيها الأخوة من أشد حالات الكرب التي يمر بها أهل الإسلام عندما يقول الواحد من الناس: لماذا أمر الدين اليوم في حال ضعفٍ ولماذا صار أمر أهل الإسلام في حال هزيمة، ولماذا هذا الذل المضروب ولماذا هذا الضعف الشامل، وعند ذلك يحدث الاحباط في المعنويات، والانصراف عن العبادات، والتولي عن العلم، والانشغال عن الطاعة، وخصوصًا إذا رافق هذا الجو المشحون بالهزيمة وغلبة العدو في الظاهر من أهل الكفر والنفاق إذا صاحبه جاذبية المال والانشغال بالشهوات وثوران الغرائز وعموم المحرمات وانفتاح أبواب المحظورات.
وعند ذلك يرى المؤمن من خلال غيوم الغفلة نور الإيمان، ويتوجه ببصيرته للواحد الديان، ولا يهمه حينئذٍ أن يرى حوله كثيرًا من العابدين أو قليلا، لأنه يريد أن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ويشبه هذا الحال من جهة ذكر الله في الأسواق، فهؤلاء في أنواع من الانصراف والانشغال والإنهماك في الدنيا والإلهاء الذي يحصل لهم بالتجارة والبيع والحلف الكاذب وأنواع الغش والتدليس، مع ما يرافق هذا من حال السوق من حصول اختلاط الرجال بالنساء والتبرج وأنواع المعاصي وشيوع المنكرات، فعند ذلك يكون ذاكر الله في السوق في حالٍ عظيمة عند ربه، {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ . لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:37-38].
« » (رواه النسائي وابن أبي حاتم).
أسباب الثبات على الحق في زمن الفتن
وحينما يرى المؤمن ما يحل بالناس من الإغراق في الماديات والانشغال بالملهيات، وأنواع الترفيه والألعاب والسياحات، وهكذا هذه الآلات والأجهزة المسيطرة على الحواس من السمع والبصر والفؤاد، فإنه في هذه الحالة يعود إلى ربه وهو يريد الأجر والثواب ليكون من الأقلين، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام من الآية:116].
أيها المسلمون يا عباد الله، كثير من أهل الإسلام أو من أولادنا يعيشون وهم محاطون بأنواع من الشهوات والشبهات في أماكن مختلفة في الداخل والخارج، ويرى الإنسان نفسه غريبًا، وخصوصًا إذا توجهت إليه سهام الانتقاد ممن حوله وهو يرى نظرات الاستنكار وهم يدعونه: كن معنا، ولكن في الشر فهو يأبى، ولا يستجيب لجاذبياتهم ونداءاتهم وإغراءاتهم، ويقاوم هذا كله ولو كان من حوله في بعدٍ عن الدين، فإنه في هذه الحالة يعظم أجره عند ربه وترتفع منزلته عند الله سبحانه وتعالى، فيستفيد أيما فائدة، إذا بلغت القلوب الحناجر، وخرجت العيون من المحاجر، وحشر الناس إلى الله فإن الذين عبدوا لله في أوقات الفتن والذين تمسكوا بدين الله لما عصى الناس فإنهم في حالٍ من الفخر والأجر والثواب والإكرام والتكريم عند رب العالمين، وحق لهم أن يفخروا بذلك في ذلك اليوم عندما ينادون بفخرٍ {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ . إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحآقة:19-20].
وعندما يقل الناصر والمعين، ولا تكاد ترى من يبين الحكم الشرعي، أو من ينكر المنكر الحاصل فإن الأجر يعظم، ولذلك قال الإمام علي بن المديني رحمه الله: ما قام أحد بالإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد بن حنبل! قيل: يا أبا الحسن، ولا أبو بكر الصديق؟!. قال: إن أبا بكر الصديق كان له أصحاب وأعوان، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب. (أخرجه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد [149]).
وعندما يقل الأعوان، ويقل الناصر فلا شك أن من يثبت حينئذٍ ويضرب المثل للآخرين بثباته ويكون معلمًا وعلمًا ورايةً مرفوعةً في خضم الباطل له شأن عند ربه، وهذا يذكرنا أيها الأحبة بأن نثبت على ديننا مهما كثرت الفتن، وأن نستمسك بما نعرفه من الحق، مهما كثر الأعداء، وأن لا يكون لكلامهم وهم يزبدون ويتهددون، ويتواعدون ويتفاخرون، عند ذلك لا بد أن يُري المسلم ربه من نفسه خيرًا، وأنما يعظم سوق النفاق وينجم كل ما قويت شوكة أعداء الإسلام وقل سلطان أهل الخير، ولذلك فإن البقاء على الحق، والدعوة إليه وبيان الأحكام الشرعية والذب عن هذا الدين وإزالة الشبهات وتنبيه العامة لا شك أن في هذه الحال الأجر عظيم لمن قام به، كل ما صعبت المهمة كل ما زاد الشرف، كلما زادت التحديات كلما عظم الأجر، وهكذا فإن وفاء المسلم لدينه واستمساكه بالحق الذي جاءه من ربه، يثبته ولو ضل أكثر الناس، ومن الأدعية العظيمة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يرددها: « ».
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعلنا من السالكين سبيل الحق، المدافعين عنه الحاملين لرايته، أحينا مسلمين وتوفنا مؤمنين والحقنا بالصالحين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، اللهم بارك عليه كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن أصحابه الكرام، الأئمة النبلاء، والسادة العظماء، وعن تابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد لله، وعندما تضطرب الأخبار والأحوال، فإن المؤمن يعلم أن من الموازين ما ذكره ربه في كتابه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء من الآية:83]. فإذا جاء هؤلاء المنافقين أو ضعفاء الخبرة والبصيرة من المسلمين، أمر وشأن من الأمن والبشائر أو الخوف والشر أذاعوا به وأفشوه، وتحدثوا به ولاكته ألسنتهم وخاضوا فيه، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ} [النساء من الآية:83] صلى الله عليه وسلم {وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء من الآية:83]، من أصحاب العلم والرأي والعقل والخبرة والشورى الذين لا يتأثرون بالإشاعات والدعاوى، لعلمه وفهمه وعرفه على حقيقته وأدرك كنهه، الذين يستنبطونه منهم والذين يقدرون على استخراج الحق ومعرفته من خلال غيوم الضلالة والظلمة المتراكمة.
عباد الله، ويكون اللجوء إلى أهل العلم وإلى أهل البصيرة في مثل هذه الأحوال من أسباب الثبات على الدين، مهما قلوا، ولا بد أن يوجد قائم لله بالحجة ولا يخلو الزمان من هذا، فقد يكون واحدًا أو أكثر، ولذلك فإن المسلم لا يعدم لو بحث من يبين الحق للناس، ولا يكتمه كما أمر الله سبحانه وتعالى، نعم لقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن حالٍ يكون فيها اعتزال الناس هو المتعّين، وقال: « » (البخاري [7088]).
فمن خاف على نفسه الفتن انعزل، ولكن هذا يكون في آخر الزمان، في وقت الغربة المستحكمة، ولسنا ولله الحمد في حالٍ في هذا، وقد تمر ببعض المسلمين في بعض المجتمعات أشياء وأحوال تشبه هذا الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عندما يكون لأهل الإسلام قيام، وعندما يكون لهم اجتماع، وعندما يكون فيهم من يحمل الحق، وعندما يكون من يبين لهم الطريق فإن اعتصام هؤلاء بحبل الله وبقائهم متواصين على دين الله هو الذي يجب.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج من الآية:11]، فيستدل بحصول النعمة الدنيوية له من ثراء أو ولد أو منصب ونحو ذلك من متاع الدنيا، يستدل به على صحة وجهته وموقفه، ومعلوم أن البهرجة التي استعان بها فرعون في وقته قد حققها أهل الباطل اليوم من خلال زيفهم الذي يروجونه في هذه الوسائل، ويبثونه في هذا الفضاء، فهذا السحر الجديد الذي يراد به اخفاء الحق واظهار الباطل، والترويج للباطل بكافة الوسائل حاصل وقائم، ولذلك على المسلم أن لا ينخدع ويأخذ سريعاً بما يروج له وإنما يرجع إلى أهل العلم لاكتشاف الحقيقة.
العاقبة للمتقين
والله سبحانه وتعالى يداول الأيام بين الناس، ولو فكر المسلم فيمن حوله لوجد خيرًا كثيرًا، فإنه يوجد ولله الحمد في هذه الأرض كثيرون على دين الله، وعلى التوحيد وعلى السنة وعلى منهج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرفون الحق ويميزونه من الباطل، يعرفون السنة ويميزونها من البدع، يثبتون في أمر الله تعالى، ويؤدون العبادات كما أمر الله ولو اضطربت أحوال الناس، وكذلك يوجد ولله الحمد أنصار للحق يعلنونه ويبينونه، وأنت ترى في كثير من التعليقات على الشبكات وأشرطة القنوات من ينصر دين الله، ومن يكون مع الحق، ستكتب شهادتهم وينالون بها الأجر عند رب العالمين، ولو كثرت أقلام أهل الباطل وصاروا أكثر وأشهر وأقوى في الظاهر.
فإن العبرة والبقاء لأهل الحق، والله تعالى وعد بأن العاقبة للمتقين، وأنه سبحانه وتعالى ينصر حزبه ولو بعد حين، وهذه الفتن التي تمر بالمسلمين وهذا النقص الذي يرونه قد دخل عليهم، وهذا التسلط لأهل الباطل والرواج لباطلهم، وهذا الاستعلان به لدرجة الوقاحة، وهذا النوع من الهيمنة التي يحس بها أهل الحق لأهل الباطل لا تدوم أبدًا، وقد جرت سنة الله بذلك، والله أحكم وأرحم من أن يجعل الجولة لأهل الباطل دائمًا، والمتأمل في نصوص الكتاب العزيز يجد ذلك ويجد أن القضية مداولة، ودفع الله الناس بعضهم ببعض، وأن الله يبتلي وأنه يمحّص، وأنه يميز بين الخبيث والطيب، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]، وما يراه الناس على السطح ظاهرًا زبد وجفاء لا بد أن يذهب، وعما قريبٍ لا بد أن يضمحل، لأنه لا يصح إلا الصحيح ولا يحق إلا الحق، وقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يمر أهل الحق في مددٍ من الضعف، وأحيانٍ من تسلط أهل الباطل، وذلك {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ} [الحديد من الآية:25].
ويظهر هذا العلم في الواقع، وإلا فإنه سبحانه وتعالى يعلم هذا من قبل، وقد قدّر المقادير وخلق الخلائق وكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، لو تأملنا يا عباد لله ذلك الحديث الصحيح الذي أخرجه أهل الحديث في كتبهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم الإمام الترمذي رحمه الله، أنه عليه الصلاة والسلام خرج على أصحابه يومًا وفي يده كتابان، في يمينه كتاب وفي شماله كتاب، فأخبرهم عن الكتاب الذي في يمينه، أن هذا كتاب من الله، من أين جاء؟ الله أعلم، كيف جاء ؟ الله أعلم؟ كتاب من الله فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أُجمل عن آخرهم، فواعجبًا كتاب بيد النبي عليه الصلاة والسلام فيه أسماء أهل الجنة من الأولين والآخرين، الأسماء الكاملة بالأنساب وكذلك مختوم لا يزاد فيه ولا ينقص، أُجمل على آخرهم فأخبرهم أن هذا الكتاب من الله، وأن الكتاب الآخر الذي بشماله كتاب من الله أيضًا فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أُجمل عن آخرهم، ومعلوم كثرة أهل النار، يا آدم أخرج بعث النار، فيخرج من كل من ألف تسع مائة وتسع وتسعون أو من كل مائة تسع وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فكل هذه الأسماء لأهل النار كانت في ذلك الكتاب، فالناس لما رأوا هذا قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام : ففيم العمل ؟ إذا كانت المسألة قد فُرغ منها فلماذا نعمل ؟ فأخبرهم النبي عليه الصلاة والسلام « »، وأن الله جعل للجنة أهلًا فييسرهم لعمل أهل الجنة، وجعل للنار أهلًا فييسرهم لعمل أهل النار، وبحسب ما يختم على الإنسان ما يختم للإنسان من عمله يكون مصيره، ثم نبذهما يعني إلى عالم الغيب، واختفى الكتابان، إلى أين ذهبا؟ الله أعلم. فإذًا الأسماء قد كتبت ودونت وقضي بالحق وفرغ من الأمر ومُيّز أهل الجنة من أهل النار وبقي علينا العمل.
اللهم إنا نسألك أن توفقنا لما تحب وترضى، اللهم وفقنا لما يرضيك، اللهم اجعل عملنا فيما يرضيك، اللهم اجعل سعينا مشكورًا، وذنبنا مغفورًا، يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا أجمعين، وتول أمرنا واقض ديننا وفرّج كربنا، اللهم إنا نسألك أن تقضي ديوننا، وتشفي مرضانا وترحم موتانا وتستر عيوبنا، اللهم وسع لنا في دورنا، وبارك لنا في أرزاقنا، اللهم ارزقنا الصحة والعفو والعافية والعفة يا رب العالمين، نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، اجعلنا عليك متوكلين وإليك منيبين تائبين ولك ذاكرين شاكرين، أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، أصلح نياتنا وذرياتنا، وهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا، {اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:40-41].
اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وقوي على الحق عزائمنا، اللهم اجعلنا بهدي نبيك مستمسكين، اللهم إنا نسألك في هذه الساعة أن تنصر الإسلام وأهله يا رب العالمين، وأن تكسر أهل الشرك والنفاق والكفر إنك على كل شيء قدير، اللهم عليك باليهود اللهم عليك باليهود، اللهم طهر المسجد الأقصى من دنسهم، واجعل نصرنا عليهم عاجلًا غير آجلٍ يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الفرج لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
الشيخ محمد صالح المنجد
11/11/1430هـ
- التصنيف:
- المصدر: