خصائص التربية في مدرسة النبوة

منذ 2014-04-28

تتصف العملية التربوية الإيمانية بعدة خصائص تميزها عن غيرها وتوقفها شامخة فوق دروب العمليات الحياتية جميعها، والمربون الذين لا يدركون هذه الخصائص الهامة والأساسية يقعون في ذلة الهوى أو الاجتهاد الضعيف المهترئ القائم على قلة العلم والخبرة.

تتصف العملية التربوية الإيمانية بعدة خصائص تميزها عن غيرها وتوقفها شامخة فوق دروب العمليات الحياتية جميعها، والمربون الذين لا يدركون هذه الخصائص الهامة والأساسية يقعون في ذلة الهوى أو الاجتهاد الضعيف المهترئ القائم على قلة العلم والخبرة.

وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم خصائص العملية التربوية الإيمانية في مدرسة النبوة الرفيعة المقام، وبينها أحسن بيان، فكانت بنيانًا رائعًا، ونموذجًا متكاملًا لكل مرب ومعلم وداعية إلى الخير والنور والهدى، وما فتىء المربون الناصحون على هدي تلك الخصائص وهذي السمات يربون الصالحين جيلًا منتصرًا بعد جيل، حتى ألمت بنا خلوف بعيدة المشرب متعكرة النبع قد التمست الفلاح بعيدًا عن مدرسة النبوة، فخرجت لنا ما نراه من حالة منكسرة، ونفسية منهزمة لكثير من أبناء هذا الجيل.

وتلك الخصائص التي سوف نحكي عنها بإيجاز أشبه ما تكون بأعمدة البناء للعملية التربوية الإيمانية التى لا يسع المربي تركها أو إهمالها على أية حال..

 

أولًا: العقائدية:

وهي الأساس الأول الذي ينبني عليه المنهج التربوي الإيماني فالباحث عن سبب تزعزع الأمة الإسلامية يجد أنه ضعف الإيمان، والباحث عن سبب كل نقص ألم بالأمة يجد أنه الإيمان، أن الأمة قد ابتليت بالذين يهملون الإيمان في قلوبهم حتى يصير كالثوب الخلق كما ابتليت بالذين ينشغلون بدنياهم عما يجول في قلوبهم، وحين يصيب وهن الإيمان وزلزال العقيدة قلوب المربين يكون المصاب كبيرًا والجرح غائرًا.. إنه يجب أن تستقر العقيدة في قلوب الداعين إليها ثم يدعون الناس إليها علمًا وعملاً وتطبيقًا لا مجرد علم نظري، لا رصيد له في القلوب ولا في الواقع.

إن مصطلح العقيدة يراد به ما يعقد عليه القلب من الإيمان بربوبية الله وأسمائه وصفاته وتوحيده بالعبادة والطلب والقصد (سواء كانت عبودية القلب أو اللسان أو الجوارح)، والتبرؤ من كل ما يعبد من دون الله، كما تشمل أيضًا الإيمان بالملائكة والكتب المنزلة والرسل واليوم الآخر والجزاء والحساب والجنة والنار والقدر خيره وشره، فهي إذن تحيط بمناحي الحياة كلها بل وتضع ظلالها الوفيرة على كل سلوك للمؤمن في حياته وحتى مماته، إذ يقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَ‌بِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، ولقد جاءت دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام كلها دائرة حول هذا المحور -محور العقيدة- ابتداءً.

والمربي يجب عليه أن يغرس العقيدة الصحيحة في قلب من يربيهم ويعلمهم ولا يتركهم نهبًا لأهواء وأفكار قد تنهش قلوبهم وتباعد بينهم وبين سبيل الهدى، ومن هنا يبدو ما نريده من قولنا أن على المربي أن يكون منتبها لما ينتشر من المناهج المنحرفة كعقائد التصوف القبوري أو الحلولية (التي انتشرت أخيرًا في صور متعددة) أو الذين يعتمدون مناهج ضالة يرتضون فيها الانحراف عن النهج النبوي السليم أو الذين يفرقون بين أنبياء الله أو بين صحابة رسول الله ويسبونهم وينسبون لهم النواقص.

إن العقيدة التي تلقاها العلماء بالقبول -عقيدة أهل السنة والجماعة- هي السبيل المستقيم والمنهج القويم قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَ‌اطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّ‌قَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].

وقد علمتنا مدرسة النبوة أن نبدأ بالدعوة إلى العقيدة الصافية النقية، وألا نحيد عن هذا المبدأ قيد أنملة، فرفضوا أن تبدأ دعوتهم لجمع الناس على أي هدف إلا العقيدة، مهما كانت حتى لو كانت أهدافًا أخلاقية سلوكية، أو اجتماعية... أو غيرها.

وكانوا قادرين -عليهم السلام- أن يجمعوا الناس تحت أية راية أخرى حتى إذا اجتمعوا بلغوهم العقيدة وطالبوهم بها، ولكن الله سبحانه لم يرد ذلك منهم، لقد أراد الله سبحانه من أنبيائه عليهم السلام البدء بدعوة الناس إلى عبادته وتوحيده وخلع كل ما يعبد من دونه.

 

ومن ذلك يتبين خطأ كل داعية يتخفى في ثوب غير ثوب الدعوة إلى العقيدة التوحيدية الصافية بدعوى جمع الناس حوله أو تثبيت أقدامه بينهم، فقد بدأ الأنبياء جميعهم عليهم الصلاة والسلام من طريق الدعوة إلى العقيدة والتوحيد برغم مشقته وعنائه وبلائه، وكان في مقدورهم البدء مع أقوامهم من غير هذا الطريق ولكنهم أبوا ذلك أبدًا.

من جانب آخر يجب على المربين الربط دائمًا بين سلوك المسلم في حياته اليومية وبين عقيدته الإسلامية برباط وثيق، كما يجب التنبيه دائمًا على مسألة التحرك بالعقيدة والعمل بها، وتشربها تشربًا تامًا، وألا يكتفى في تدريس العقيدة بالدراسة النظرية في كتاب أو كتابين، بل أن تتعدد طرق تدريس العقيدة وأساليب تدريسها وتتنوع.

 

ثانيًا: العلمية:

إن الحاجة إلى العلم لا تقل عن الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء والدواء، فإن القلوب لا تحيا بغير علم كما أن الأجساد لا تحيا بغير زاد، و العلم الشرعي هو هدي الأنبياء، ومن تركه فقد ترك هديهم، والله سبحانه يقول: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]، وقال صلى الله عليه وسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه: «العلماء ورثة الأنبياء» (أخرجه أحمد).

وقال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام في دعوته لأبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم:43]، وقال سبحانه عن يعقوب عليه السلام: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68]، وقال سبحانه: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:96]، وقال عن نوح: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62].

قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، وبذله لأهله قربه، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على الدين، والمصبر على البأساء والضراء، يرفع الله به أقوامًا فيجعلهم في الخير قادة سادة هداة يقتدى بهم، أدلة في الخير، تقتص آثارهم وترمق أفعالهم، يبلغ العبد به منازل الأبرار والدرجات العلى، والتفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام، به يطاع الله عز وجل وبه يعبد وبه يوحد ويمجد وبه يتورع وبه توصل الأرحـام وبه يعرف الحلال والحرام، وهو إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء".

والسلف الصالحون قد أتعبوا أنفسهم وبذلوا في تحصيل العلم كل غالٍ ونفيس، وكان أحب إلى أحدهم باب من العلم يأخذه من الطعام الشهي يتقوته.

 

العلم الذي أقصده (هو الخشية)، والعلم الذي لا يولد الخشية علم يحاسب الإنسان عليه حسابًا شاقًا عسيرًا، فينبغي أن يتربى المؤمن على أن يتعلم من العلم الخشية والإخلاص، ولا يبتغي به الرياء والدنيا، قال الإمام أحمد رحمه الله: "أصل العلم خشية الله تعالى، فالزم خشية الله في السر والعلانية".

 

فلا علم مع جرأة على الله سبحانه، ولا مع استمرار على ذنب، ولا مع ذهاب للحياء، وكم من طالب علم بعيد عن الخشية، يحصل العلم تحصيل التجارة ليربح شهرة أو ليشار إليه أنه عالم، فينحدر مع أول مزلق وينكسر مع أول ريح!!
والعلم يقتضي العمل، وهو مبدأ هام وواجب كبير لابد من ترسيخه في قلوب المتعلمين: قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُم} [البقرة:44]، وقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].

 

وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها»، فيلزم الاهتمام بالعمل بالعلم اهتمامًا كبيرًا، كما يلزم متابعة ذلك من قبل المعلمين والتأكيد عليه باستمرار.

 

ثالثًا: العبودية:
وهي المقصودة من صلاة وصوم وذكر وآداء الفرائض والنوافل وعبادة القلوب كالخوف والرجاء والإخلاص والإنابة لله سبحانه وغيرها، وثمة مقياس واحد لقبول العبادة أو ردّها علمه لنا الإسلام هو (الإخلاص لله والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم) وسميته مقياسًا واحدًا رغم أنهما عملان مختلفان لأنهما لا ينفصلان أبدًا، وإذا ما افترقا فسد العمل، فكانا كالشيء الواحد كما قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، والعابد الذي يرجو أن يتقبل الله عمله لابد أن يتحرى الدقة كاملة في هذا المقياس وإلا صار عمله ضائعًا وجهده مردودًا عليه، قال الله تعالى عمن عبد ولم يخلص: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].

والعبادة فضل منه سبحانه، ونعمة منه عز وجل وتكرم وجود، وهي ليست باجتهاد إنساني أو نشاط جسدي فحسب بل هي بتوفيق رباني أيضًا فكلنا فقير إلى توفيق ربه كي ييسر له العبودية المقبولة. لهذا كان من أفضل ما يسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: «يا معاذ والله إني لأحبك، ثم أوصيك يا معاذ: لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (أخرجه أبو داود)، وينقل ابن القيم في مدارجه قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تأملت أنفع الدعاء، فإذا هو سؤال الله العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}".

والعبادة تفتقر إلى الاستعانة به سبحانه دومًا؛ لأنها بغير استعانة قد تفضي بالإنسان أن يفرح بعمله ويعجب به، ولأنها تفرغ القلب من مقام الاستعانة والتوكل، وهو مقام لا تكتمل حياة القلب إلا به، فيجب على المؤمن إذا عبد ربه سبحانه أن يستعينه ويتوكل عليه في عبادته له إذ إنه سبحانه هو الموفق لطاعته.

والعبادة لازمة للمسلم حتى يلقى ربه سبحانه وتعالى، لقوله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، قال ابن القيم رحمه الله: "فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف، ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد فهو زنديق كافر بالله وبرسوله، بل كلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه".

 

رابعًا: التوازن:

لقد اتصفت المناهج التربوية غيرالإسلامية بالتركيز على جانب واحد من جوانب حياة الإنسان، ففي اليهودية تقوم التربية على التميز والخصوصية، و في التربية المسيحية كان التركيز على خلاص الإنسان من أدران الرذيلة، وفي التربية الطبيعية يرى (روسو) -الفيلسوف الفرنسي- أن الهدف من التربية يتمثل في تزويد العقل بالمعرفة فحسب، ويرى (جون ديوي) الفيلسوف الأمريكي أن النمو هو الغاية من التربية، ويرى (رينان) المفكر الإنجليزي أن الفرد لا المجتمع ولا الدولة هو هدف التربية.

وتفرد الإسلام عن المناهج كلها فقد عالج النفس البشرية جسمًا وعقلًا وروحًا ممتزجة في كيان واحد فاستغل بذلك كل طاقات الإنسان فلم يهدر منها واحدة يمكن أن يُنتفع بها في عمارة الأرض.

أما في مدرسة النبوة المحمدية فقد نظر للإنسان على أنه كل شامل لابد من النهوض به بكل مكوناته لا بتخصيص لبعضها، كما نظر إليه باعتباره فرد في مجتمع وهو لبنة مكونة له، كما نظر إليه على اعتبار أنه هو الصائغ لعناصر ما يحيطه من ماديات الحياة فلزم عندئذ تكون تربيته متنوعة شاملة متوازنة..

يقول الغزالي في إحيائه: "إن المعرفة المتعددة في النواحي أفضل من المعرفة المحدودة؛ ذلك أن العلوم المختلفة يعين بعضها بعضًا كما أن الاختصاص الضيق في الابتداء يتسبب في التعصب لعلوم دون الأخرى"

إن استغلال الإنسان لطاقاته جميعًا بشكل متوازن يحدث توازنًا في داخل النفس وفي واقع الحياة سواء، فالتوازن في نظر تربية النبوة يشمل كل نشاط الإنسان، توازن بين ماديات الإنسان ومعنوياته، بين الإيمان بالواقع المحسوس والإيمان بالغيب الذي لا تدركه الحياة، بين النزعة الفردية والنزعة الاجتماعية، بين النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وفي كل شيء في الحياة، ثم توازن بين الجد والمرح والسعي والراحة، فإذا بقي الإنسان ملتزما جانب الجد فإن طاقته تقل، يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نلتقط أنفاسنا ونعطي بعض الراحة لأنفسنا فيقول: «يا حنظلة ولكن ساعة وساعة»(صحيح مسلم).

إن اختلال التوازن التربوي كان وراء العديد من الانحرافات التي لحقت بالمجتمع الإسلامي فالفلاسفة جنحوا بقواهم العقلية وذهبوا بالإسلام بعيدًا عن طبيعته وبالمقابل كانت هناك فئات جنحت بقواها الروحية بعيدًا عن معنى الإسلام وواقعيته، ولكن الإسلام يقدر العقل والفكر ولايهمل الروح والنفس.

لذلك فإن خاصية التوازن تقتضي ممن يشرفون على التربية إن يأخذوا في الاعتبار قدرات الناس الجسمية والعقلية والروحية، فلا يهتمون بإبراز ناحية على حساب الأخرى فيحصل الخلل التربوي وما يستتبعه من القلق النفسي والاضطراب السلوكي.

ولقد رأينا من المربين من يكيل العلوم لطلبته كيلًا ويهمل في أمرهم بالمحاسبة والمراقبة وحسن الخلق، وينسى أن يتعاهد قلوبهم ويرقق نفوسهم، فيخرج طلبته قساة عبوسين منطوين عن الناس فلا ينفعون بعلمهم الخلق ولا ينشرون به الهدى وبل يتلقونه بقساوة قلب وسوء مثل.

كما رأينا من المربين من يُفهم اتباعه أن واجبهم الدعوي يحتم عليهم البقاء وسط الناس ليل نهار حتى ولو أهملوا في الواجبات وتركوا نوافل العبادات، بل حتى لو أهملوا العلم الشرعي الأساسي، ولعمري إن كان المرء غافلًا فكيف إذن يذكر الغافلين؟!

فالإسلام أيها القارئ الكريم منهج متوازن لا يسبح في الخيال ولا يغرق في الواقع، وهو يتعامل مع المرء في حدود طاقته ويعرف مطالبه وضروراته.

يعرف ضعفه إزاء المغريات فيأمره بالتقوى ويحثه على الصلاة بالليل وصدقة الخفاء وكثرة الأذكار كي يستقوي أمامها، ويدعوه إلى تجديد التوبة كلما سقط في معصية وذنب، ويعلم ضعفه إزاء التكاليف فيساير فطرته في واقعها ولا يفرض عليه من التكاليف ما ينوء به كاهله ويجعل التكليف الملزم في حدود الطاقة الممكنة، ولكنه مع ذلك لا يتركه لفطرته الضعيفة دون تقويم، بل يعلمه أن أساس الإسلام هو اليسر والتيسير وأن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى..

 

خامسًا: العملية:

والتربية الإسلامية تربية عملية لا تكتفي بالكلمات، بل تدعو دومًا للعمل والتطبيق فلا علم بلا عمل، ولا نصيحة بغير قدوة، ولا تصور بغير تنفيذ، إنها تربية تتحول بها الكلمة إلى عمل بناء أو إلى خلق فاضل أو إلى تعديل في السلوك نحو الأصلح.

يقول (ليوتوليستوي) المفكر الروسي الشهير: "إنه من السهل أن تضع آلاف النظريات ولكن أصعب الصعب أن تحول نظرية واحدة إلى تطبيق"... لذلك فالتربية الإسلامية والرؤية الإسلامية تكمن عظمتها في إمكانية تحويلها إلى مارد عملاق من العمل والحركة والإنجاز والتغيير، أما ما يحصل في بعض المجامع من تعليم العلم النظري مع إهمال التطبيق فهو أشبه بما تساءل عنه الغزالي: "هل يحصل البرء بمجرد معرفة اسم العلاج أم لابد من استعماله؟" ويقول: "لو قرأت العلم مائة سنة وجمعت ألف كتاب لا تكون مستعدًا لرحمة الله تعالى إلا بالعمل (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)"، ويقول: "إن العلم بلا عمل جنون والعمل بغير علم لا يكون واعلم أن علمًا لا يبعدك اليوم عن المعاصي ولا يحملك على الطاعة لن يبعدك غدًا عن النار، وإذا لم تعمل اليوم فستقول غدًا: {فَارْ‌جِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة:12]".

والعمل في نظر الإسلام شرف وحق وواجب وحياة وهو سبب الجزاء ووسيلة التفاضل بين بني البشر {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّ‌ةٍ خَيْرً‌ا يَرَ‌هُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّ‌ةٍ شَرًّ‌ا يَرَ‌هُ} [الزلزلة:7-8]، وإتقان الإنسان لعمله قيمة إيمانية كما في الحديث: «إنَّ اللهَ تعالى يحبُّ إذا عملَ أحدُكمْ عملًا أنْ يتقنَهُ» (الجامع الصغير: [1861])، والمنزلة التي احتلها العلماء في الإسلام لم يحتلوها لمجرد علمهم بل لما يترتب على هذا العلم من آثار حيث يكون العالم أقدر على القيام بمهام الاستخلاف في الأرض.

والعمل المطلوب هو ما يعمر الآخرة ويصلح الدنيا، لا العمل الذي يفسد في الدنيا أو يخربها، فلكل فرد دوره كي تنتفي البطالة والركون والتواكل والقعود عن المعالي «لَأَنْ يأخذَ أحدكم حَبْلَهُ، فيَأْتِي بحِزْمَةِ الحطبِ على ظهرِهِ فيَبيعها، فيَكُفَّ اللهُ بها وجهَهُ، خيرٌ لهُ من أن يسألَ الناسَ، أعطوهُ أو منعوهُ» (صحيح البخاري)، و «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها» (الجامع الصغير: [2668]).

إن كثيرين من المنتسبين للحركات الإسلامية يعتبرون أن عطاءهم وبذلهم لهو حضورهم لقاءاتهم التربوية أو العلمية مهملين دعوة الناس إلى ربهم وعملهم الإيجابي المنتج الذي يتحدث عنهم ويصلحون به أنفسهم ومجتمعاتهم ويدعون الناس بالعلم والعمل بالكلمة والقدوة، لا بالشعارات والخيالات .

 

سادسًا: الأخلاقية:

الخلق الحسن هو القيد الذي يقيد السلوك عن الانحراف والجنوح والشطط، ومن لاخلق له لا صحبة له ولا أخوة، وينفض الناس من حوله، ويبغضه أقرب الناس إليه، وعديم الأخلاق تسيطر عليه نفسه فتدفعه إلى هواها فيقع في المحظور، وقليل االخلق لا يبدو عليه العلم مهما تعلم، ولكن تراه كالحمار يحمل أثقالاً.

ومن الأخلاق ما هو واجب وتركه محرم، ومنها ما هو مستحب وتركه مكروه، لذا فإن العلم لا يكفي لتربية النفس إن لم يكن مقترنًا بالأدب والخلق وملفوفًا في ثوبيه، والأدب لطالب العلم يستر عورته ويخفي سوءته، وهو للعالم يرفع درجته ويُعلي شأنه ويكثر بين الناس أحبابه ومريديه وتلامذته، وصدق الحكيم الذي قال: "أدب السائل أنفع من الوسائل".

والخلق الحسن للدعاة إلى الله سبحانه أمر لازم يحتاجه الداعية كحاجته للسانه وقلمه بل قد يزيد، وإنه لمما يحزن أنك ترى البعض ممن تربى في حضن بعض المحاضن التربوية قد عافوا الأدب والأخلاق وأعرضوا عنها، وولغوا في قصعة السفهاء والجهال.

وإذا كانت المناهج الأخرى تبني المواطن الصالح الذي لا يهمه ما يفعله الآخرين فإن الإسلام يبني الإنسان الصالح صاحب الأخلاق الذي يحب للآخرين ما يحب لنفسه، الرفيق الرقيق، لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (السلسلة الصحيحة: [45])، أما واقعنا اليوم فحسرة على حسرة في شأن الخلق، فقد ترى شخصًا هادئ الطباع فتحسبه خلوقًا فإذا عاملته بالدرهم والدينار وجدته لصًا، وإذا تعرفت عليه في عالم السياسة وجدته ذئبًا، وإذا ابتعت منه أو اشتريت غشك أقبح الغش..

في المنهج التربوي الإسلامي الفضيلة هي الصفة الجامعة للخصائص التي يتميز به الإنسان في الفكر والسلوك مما يجعل الأخلاق جوهر العملية التربوية.

الأخلاق في كل شيء في القول والعمل في البيت والشارع في المصنع والمتجر في السياسة والمعاملات في بلدك وفي بلدان الآخرين فهي أخلاق تنبعث من عقيدة المسلم ومبادئة لا من أنانياته ومصالحة.

ولا يقتصر حسن الخلق على مجرد الفعل وذلك لأن الصورة الظاهرة قد لا تعبر عن الصورة الباطنة فرب شخص خلقه السخاء ولا يبذل إلا لفقد المال أو لمانع وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل لباعث أو رياء، إن السلوك الأخلاقي ليس هو الفعل الظاهر فحسب بل يدخل فيه أعمال القلوب من النيات والإرادات والغايات ويترتب عليها المسئولية والجزاء.

إنه تكامل لجميع المبادئ الأخلاقية الصالحة للحياة الإنسانية في كل الميادين فتدعو إلى احترام العقود وأداء الأمانات والنزاهة والصدق وتنهى عن الاستغلال والمماطلة والغش والكذب والخداع والخيانة وما يفتك بالكيان الاجتماعي ويقطع أوصاله، كما تدعو إلى احترام العهود والمواثيق وإلى العدل والعمل من أجل رفع مستوى الأمة وتنهى عن الغدر والمفاجأة بالعدوان والتسلط والتجبر وغيرها من الصفات القبيحة.

وقبيح بنا ونحن أبناء هذه الحركة الإسلامية المباركة أن نكون ممن يتصفون بالأخلاق ظاهرًا وقلوبهم منطوية على التملص منها، فيبدو منها الحسد لأهل النعم أو يبدو منها اللؤم والثعلبة والتهرب من المسئوليات والعهود، أو يبدو منها الجبن والخور في مواطن الشجاعة والمروءة، أو يبدو منها المجون إذا خلت بمحارم الله.. نعوذ بالله من ذلك كله.

 

خالد رُوشه.

29/2/1435 هـ