الربانيون الذين صنعتهم العقيدة ومجتمعهم الآمن

منذ 2014-04-28

لا مفر من العودة إلى ظلال هذه العقيدة، ولابد لكم أن تفيئوا إليها، هذا إذا كنتم تفكرون في الخلاص من شقائكم وبناء أنفسكم، وإلا تسلكوا هذه الجادَّة فإنكم هالكون لا محالة، خاسرون دنياكم وأخراكم بكل تأكيد، {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَ‌كُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم}، {خَسِرَ‌ الدُّنْيَا وَالْآخِرَ‌ةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَ‌انُ الْمُبِينُ}.

لقد ربت هذه العقيدة نماذج يحسبها المرء أساطير، ولكنها الحقائق التي هي أكبر من الخيال، فلقد عاشوا للحق به يمسكون، مهما علت التضحية.

ودعني أَسُقْ لك بعض الأمثلة:

أولًا: كان لسعيد بن المسيب التابعي العظيم رأي في البيعة لولي العهد، لا يراها في وجود الوالي لحديث فهمه على وجه صحَّ عنده، واعتقد أنه مقصود الحديث، وقد آذاه الولاة في سبيل هذا، وثبت على رأيه إلى أيام عبدالملك بن مروان الذي أراد أن يبايع لابنه الوليد، وكتب لولاة الأمصار بأخذ البيعة له.

قال يحيي بن سعيد: كتب هشام بن إسماعيل والي المدينة إلى عبد الملك بن مروان: إن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان إلا سعيد بن المسيب، فكتب: "أنْ اعْرِضه على السيف، فإن مضى فاجلده جلدةً وطُفْ به أسواق المدينة"، فلما قَدِم الكتاب على الوالي دخل سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله على سعيد بن المسيب، وقالوا: "جئناك في أمر، قد قدم كتاب عبدالملك إنْ لم تبايع ضُربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالًا ثلاثًا، فأعطنا إحداهن، فإن الوالي قد قَبِل منك أن يقرأ عليك الكتاب فلا تَقُل: لا، ولا نعم"، قال: "يقول الناسُ بايَعَ سعيد بن المسيب، ما أنا بفاعل"، وكان إذا قال: لا؛ لم يستطيعوا أن يقولوا: نعم، قالوا: "فتجلس في بيتك فلا تخرج إلى الصلاة أيامًا، فإنه يقبل منك إذا طلبك في مجلس فلم يجدك". قال: "فأنا أسمع الأذان فوق أذني: حي على الصلاة، حي على الفلاح. ما أنا بفاعل"، قالوا: "فانتقل من مجلسك إلى غيره، فإنه يرسل إلى مجلسك، فإن لم يجدك أمسك عنك"، قال: "أفَرَقًا من مخلوق؟!".

لقد كان الجواب مفحمًا متضمنًا سرَّ هذه الصلابة بجانب الحق، إنه عدم الخوف من البشر.

ثانيًا: ومن ذلك أيضًا أن أبا حنيفة ترك لحم الغنم لما فُقدت شاةٌ في الكوفة إلى أنْ علم موتها، سبع سنين؛ تورعًا منه لاحتمال أن تبقى تلك الشاة الحرام، فيصادف أكل شيء منها، فيظلم قلبه، إذ هذا شأن أكل الحرام، وإن انتفى الإثم للجهل بعين الحرام[1].

ثالثًا: وفي (ترجمة إمام الحرمين): إن أباه -أبا محمد الجويني- كان في أول أمره ينسج بالأجر، فاجتمع له من كسب يده شيء اشترى به جارية موصوفة بالخير والصلاح، ولم يزل يطعمها من كسب يده أيضًا إلى أنْ حملت بإمام الحرمين، وهو مستمر على تربيتها بكَسْب الحل، فلما وضعته أوصاها ألا تمكن أحدًا من إرضاعه، فاتفق أنه دخل عليها يومًا وهي متألمة، والصغير يبكي، وقد أخذته امرأة من جيرانهم وشاغلته بثديها، فرضع منها قليلًا، فلما رآه شق عليه، وأخذه إليه ونكس رأسه ومسح بطنه وأدخل أصبعه في فيه، ولم يزلْ يفعل ذلك حتى قاء جميع ما شربه وهو يقول: يَسْهُل عليَّ أن يموت ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير لبن أمه.

ويحكى عن إمام الحرمين أنه كان يلحقه بعض الأحيان فترة في مجلس المناظرة، فيقول: "هذا من بقايا تلك الرضعة!".

رابعًا: قال القعقاع بن حكيم: كنت عند المهدى وأتى سفيان الثوري، فلما دخل عليه سلَّم تسليمَ العامة ولم يسلِّم بالخلافة، والرَّبيع -وزير المهدي- قائمٌ على رأسه، متكئًا على سيفه يرقُب أمره، فأقبل عليه المهدي بوجهٍ طَلْقٍ وقال له: "يا سفيان، تفر هاهنا وهاهنا، وتظن أنا لو أردناك بسوءٍ لم نقدر عليك؟ فقد قدرنا عليك الآنَ، أفما تخشى أن نحكم فيك بهَوَانٍ؟"، قال سفيان: "إنْ تحكم فيَّ يحكم فيك ملك قادر، يفرق بين الحق والباطل"، فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين؛ ألهذا الجاهل أنْ يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أنْ أضرب عنقه، فقال له المهدي: "اسكت ويلك، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أنْ نقتلهم فنشقى لسعادتهم؟ اكتبوا عهده على قضاة الكوفة على ألا يُعترَض عليه في حكم"، فكتب عهده ودفع إليه، فأخذه وخرج، ورمى به في دجلة وهرب، فطُلِبَ في كل بلد فلم يوجد، ولما امتنع من قضاء الكوفة تولاه شريك النخعي، فقال الشاعر [2]:

تحرَّز سفيان وفر بدينه وأمسى *** شريك مرصدًا للدراهم

خامسًا: وكم يهزني موقف سعيد الحلبي أمام إبراهيم باشا -وهو صاحب الهيل والهيلمان والسلطان-، عندما دخل إبراهيم المسجد بقى الشيخ سعيد جالسًا مادًّا رجله، وأَقْبَلَ الناس جميعًا يُحَيّون ويصافحون، ووقف إبراهيم باشا طويلًا أمام الشيخ سعيد الذي لم يقبض رجله، وسار وهو يغلي غيظًا وقد استشاط غضبًا، فأخذ صُرَّة من النقود وقال لحاجبه: ادفعها للشيخ، فعندما وُضعت في حجر الشيخ سعيد قال للحاجب: "قل لسيدك: إن الذي يمد رجله لا يمد يده" [3].

أما المجتمع الذي صنعته هذه العقيدة:

1) فإنه مجتمع آمن، كل فرد من أفراده آمن على عِرْضه، فالزنا من أكبر جرائمه، يستحق عليها المحصن عقوبة الموت رجمًا بالحجارة.

وهو آمنٌ من أن يمس جنابه بكلمة؛ سواء كانت كلمة قذف في عِرْضٍ، إذ أن هذه الكلمة توجب جلد ثمانين أمام الناظرين، ولا يمس طرفه بكلمة معيبة.

وهو آمن على ماله؛ فالسرقة كبيرة، ومَن سرق من ماله مقدار ربع دينار فإن هذا المبلغ يُعرِّض يد السارق للقطع، وهو آمن من أن يعرض ماله للضياع عن الطرق المحرمة، فالربا محرَّم، والاحتكار ممنوع، والغش منفي بتاتًا، والقمار رجس من عمل الشيطان.

وهو آمن على نفسه، فكل يدٍ تمتد لتسفك دمه ظلمًا فلن يكتب لهذه اليد البقاء، إذا أصر أولياؤه على الثأر من القاتل، فهذا المجتمع فيه؛ {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُ‌وحَ قِصَاصٌ ۚ} [المائدة:45].

وهو آمن على نفسه وماله وعِرْضه من الحاكم، فالحاكم والمحكوم مقيَّدون بأحكام الشرع، لا يستطيعون أن يخرجوا عليها.

2) وهو مجتمع متحاب: أفراده كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

مجتمع إذا صاحت امرأة مستغيثة في عمورية هَبَّ الخليفة لنجدتها من بغداد، وتحرك الجيش بأسره لمجرد صرخة ألم انطلقت من فم مسلمة.

مجتمع يقول فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أنْ أتقدَّم إلى سيف، فيقطع عنقي -في غير معصية-؛ أحب إليَّ من أن أتأمر على أناس فيهم أبو بكر".

مجتمع يقول فيه الشافعي عن الإمام أحمد بن حنبل:

قالوا يزورك أحمد وتزوره *** قلت المكارم لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته *** فلفضله فالفضل في الحالين له

ويقول أحمد عن الشافعي: "لقد كان الشافعي كالشمس للدنيا، والعافية للجسد، وهل لهذين مِن خَلَفٍ، أو عنهما من عِوَض؟!" [4].

ويقول أحمد بن حنبل: "ما بتُّ منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له" [5].

ويقول الشافعي: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة" [6].

3) وهو مجتمع نظيف: ليس فيه من الزَّبَد ما يطفو على وجهه، ولا من  الأقذار والمشاكل ما يعكر صفوه، مجتمع لا تُرفَع فيه قضية واحدة خلال عام كامل في زمن أبي بكر.

4) وهو مجتمع غني: يجمع يحيي بن سعيد صدقات إفريقيا في زمن عمر بن عبد العزيز، وينادي شهرًا كاملًا؛ ليأتي مستحقوها لأخذها، ولم يتقدم أحدٌ، فأمره عمرُ أنْ يشتري رقيقًا ويُعتقهم.

5) وهو مجتمع متراصّ متضامن لا خَلَل فيه ولا جيوب، فلا يستطيع أي جسم غريب أن يتخلل فيه أو أنْ يعيث فسادًا، ولقد حاول ملك غسان أنْ يُراوِدَ كعبَ بن مالك في أزمته التي وصفها القرآن: {حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْ‌ضُ بِمَا رَ‌حُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّـهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118].

في هذا الوقت الذي قاطعته المدينة بأسرها، كما يقول كعبٌ في رواية البخاري عنه: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي..." [7].

يقول كعب: "فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنَبَطيّ من أنباط الشام ممن قدم بطعامٍ يبيعه في المدينة، يقول: مَن يَدلّ على كعب ابن مالك، فطفق الناس يشيرون له، حتى جاء فدفع إليَّ كتابًا من ملك غسان وكنت كاتبًا، فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك في دار هوانٍ ولا مَضْيَعة، فالْحَقْ بنا نُوَاسِك، قال: فقلتُ حين قرأته: وهذا أيضًا من البلاء، قال: فيمَّمت به التنور، فسجرته به" [8].

إنه مجتمع عجيب حقًّا، يعجز ملك غسان أنْ يستميل إلى جانبه رجلًا منبوذًا منه، تنكرت له الأرض التي عليها يعيش، وتنكر له الناس الذين عاش وشبَّ بين ظهرانيهم.

6) وهو مجتمع أفراده على قلب رجل واحد منهم، ملتفون حول قائدهم، يتحركون بإشاراته، ويضحون لمجرد نظرة من الأمير.

هذا المجتمع الذي قاطع كعب بن مالك حتى عن رد السلام والكلام، قاطعه حتى لم يَعُدْ يحظى بكلمةٍ واحدةٍ من أي فرد من أفراده، وذلك بمجرد كلمة سمعها المجتمع من الرسول القائد صلى الله عليه وسلم.

ودعنا نستمع إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة وهو يعبر بكلماته القليلة عن معنى الطاعة في أعماقه للأمير، فلقد مَنَعَه المنصور من الإفتاء، وفي إحدى الليالي جرح أصبع ابنته، فجاءت تسأله عن تأثير الدم على وضوئها، فقال: "اسألي حمادًا، فلقد منعني أميري من الإفتاء، وما كنتُ لأعصي أميري بالغيب".

فيا أبناء هذا الجيل:

إن ما تعانيه البشرية اليومَ من ضنك وشقاء وبؤس؛ كان سببه عبث أيدى البشر بالعقيدة الربانية، حتى حصل هذا الانفصام النكد بين الدين والعلم، وأصبح العلم عدوًا لدودًا للغيب والدين، ولكن العلم -والحمد لله- أخذ يتراجع أمام ضغط الحقائق، ولم يعد يستطيع التمحل والمماحكة أمام الاكتشافات العلمية خاصة في ميداني النفس والفلك.

يا أبناء هذا الجيل:

لا مفر من العودة إلى ظلال هذه العقيدة، ولابد لكم أن تفيئوا إليها، هذا إذا كنتم تفكرون في الخلاص من شقائكم وبناء أنفسكم، وإلا تسلكوا هذه الجادَّة فإنكم هالكون لا محالة، خاسرون دنياكم وأخراكم بكل تأكيد، {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَ‌كُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [محمد:38]، {خَسِرَ‌ الدُّنْيَا وَالْآخِرَ‌ةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَ‌انُ الْمُبِينُ} [الحج:11].

والبشرية بأسرها لا يمكن لفطرتها أن تحتمل هذا الشقاء، ولقد أضناها السير في هذه المفازة المهلكة، ولابد أن تعود بعد أن جرَّبت جميع الأنظمة من اشتراكية وقومية ورأسمالية، فتحطمت جميعًا تحت مطارق الفطرة، وكان الإنسان هو الضحية والفداء.

عودوا واحملوا الإسلام، وقدِّموه للبشرية المنكودة التي تنتظر مَن ينقذها.

التفوا حول مَن تثقون به ممن يحمل هذا الدين علمًا وعملًا وحياةً، عقيدةً وعبادةً ودستورَ حياةٍ.

وأوصيكم وصية بسيطة؛ أن تتعرفوا على كتاب الله، وحبذا لو حمل كل واحد منكم مصحفًا صغيرًا في جيبه، حتى يتعرَّف على رسالة رب العالمين التي أرسلها إليه ويقرأها.

وبِوُدِّي لو اشترى كلُّ واحد كتابًا مبسطًا للحديث الشريف، وليكن مثلًا (رياض الصالحين)، عليكم بمطالعة كتب المودودي، وكتب الأستاذ سعيد حوى، وكتب سيد قطب، ومحمد قطب، والندوي.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك،
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين،
والحمد لله رب العالمين
.

--------------------------------------------------------------------------

[1]  أخلاق العلماء لمحمد سليمان ص (100).
[2]  محمد سليمان في كتابه أخلاق العلماء ص (160).
[3]  مقدمة كتاب ربانية لا رهبانية لأبي الحسن الندوي.
[4]  أخلاق العلماء لمحمد سليمان ص (23).
[5]  أخلاق العلماء ص (23).
[6]  أخلاق العلماء ص (23).
[7]  فتح الباري لابن الحجر (9/ 214).
[8] تفسير ابن كثير (2/ 893).

المصدر: من كتاب: (العقيدة وأثرها في بناء الجيل).