بطالة العقول - صناعة الإبداع والمبدعين

منذ 2014-04-29

اهتمام العمل الإسلامي بصناعة الإبداع (23):

تتأكد أهمية اقتناء سفينة الإبداع للعاملين في الحقول الإسلامية في هذا الوقت بالذات الذي تكالبت فيه العوائق والصعوبات، وتفاقمت فيه الانشطارات والانقسامات، وشحت فيه الموارد والمساعدات، والتفكير العلمي والإبداعي الذي يضمن بالإخلاص والمتابعة التغلب على تلك المشاكل والأزمات، ويرسم طريقاً تعرف فيه الأولويات، وترسخ به الثوابت، وتميز به الصفوف، وتلتحم به العلاقات، وينهض به العمل الإسلامي، وتطيب ثماره، وتدار مشاريعه ومؤسساته، وتستكشف آفاقه ومجالاته.

 

المواد الأساسية لصناع الإبداع:

وفيما يلي أهم المواد التي تسهم في صناعة سفينة الإبداع بشرط الالتزام بمصدر التلقي كتابًا وسنة وبعد توفيق الله تعالى وعونه:

1- الإيمان بأهمية صنع البيئة الإبداعية وبإمكانياته، وبضرورة انبثاقه من قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، الأمر الذي يحتم إحداث (انقلاب فكري) في العقل المسلم الجمعي والفردي على حد سواء، ينشأ معه انجذاب صادق للمعرفة لا للمعرفة ذاتها، ولا لتحصيل لذة عقلية، ولا للظفر بشهرة علمية، ولا لتحقيق رغبة دنيوية وإنما هو انجذاب للمعرفة بقصد تطوير الذات وبنائها، لا للتطوير ولا للبناء ذاتهما أيضاً، وإنما للإبداع وللنهوض وللنماء وللعطاء المراد به وجه الله تعالى.

2- الإشاعة في العقل المسلم، والإيحاء في ذاته أن (الإبداع عادة) تُكتسب بشيء من البذل في تعلم وسائلها، والتلبس في خصائصها، والتدرب على تطبيقاتها.

3- تكييف العملية التعليمية والتربوية بما يجعلها دافعًا للإبداع ومحضنًا للمبدعين، ومثل هذا التكييف يستلزم بالضرورة إعادة النظر في الأهداف التربوية، ومن ثم في وسائلها وبرامجها؛ بمعنى: أنه يجب أن يكون إكساب المتربين طرائق التفكير العلمي والإبداعي من الأهداف الأساسية.

4- صياغة شعارات جذابة ترسخ أهمية الإبداع، وتبشر بنتائجه وتحتفي بكل ملتبِّس به، والاجتهاد في بثها وإذابتها في النفوس وتفعيلها في العقول.

5- تنظيم دورات ودروس في التفكير العلمي والإبداعي لمختلف شرائح العمل الإسلامي.

6- ضرورة تلبُّس المربين والمعلمين بخصائص الإبداع ولو تكلفًا تجسيدًا للقدوة الصالحة.

7- الاحتفاء بالمبدعين، وخاصة الأحداث منهم والاعتناء بهم وتقديرهم معنويًا وماديًا.

 

العوامل التي تؤثر في نشاط الإبداع:

- أسلوب التربية والتعليم.

- المؤسسات الثقافية: (الإعلام المنتديات والنوادي والمراكز الثقافية والعلمية والفكرية الثقافة الذاتية بالاطلاع الواسع المتجدد على مصادر المعرفة).

- المنزل والأسرة (حيث يمكنها زرع الثقة والدفع للإبداع، ويمكنها كبت الطاقات وقتلها).

- المجتمع ومدى الشعور بالانتماء إليه؛ الألعاب وطريقة اختيارها؛ الاهتمام بملكة التأمل والتخيل؛ فائض الوقت واستثماره؛ تأثير الجوائز التشجيعية.

- العمل على اكتشاف الموهوبين وذوو الخصائص الإبداعية: إن القدرة على الاستفادة من مكامن التفوق، والتميز لدى المرؤوسين (المدعوين) بأفضل ما يمكن يعتبر من مسلّمات الإدارة الناجحة. ولكي يتحقق هذا كان لزاماً على الدعاة والمربين معرفة وتمييز هذه المكامن لدى المدعوين والمتربين وهو ما نعنيه باكتشاف الطاقات. إن توفر الرجال (أولاً)، والقدرة على توظيفهم لخدمة أهداف رسمها لهم القادة (ثانياً) هما طرفا المعادلة الإدارية التي ينتج عنها نجاح القادة.

كتبت إحدى أكبر المنظمات العالمية هذه الكلمات لتعبر عن سر نجاحها وتفوقها: "لقد حققنا هذا النجاح من خلال تنظيم إداري وجو عمل يساعدان على اجتذاب أفضل الطاقات البشرية، وتطوير وشحذ المواهب الفردية". ويقول أحد المفكرين: "إن معرفة الرجال بعمق من أدق أعمال الرئيس وأكثرها تأثيراً، إنها ينبوع القوة التي يملكها، إنها سر الرؤساء العظام" (24).

ولكي نستطيع التعرف على الموهوبين ورعايتهم،ينبغي علينا أن نعرف الخصائص والسمات التي يتميز بها المبدعون لكي يساعدنا ذلك على اكتشافهم:

 

خصائص المبدعين:

ثمة خصائص كثيرة يذكرها باحثو الإبداع، غير أن من أهمها ما يلي:

1- الخصائص العقلية:

أ- الحساسية في تلمُّس المشكلات: يمتاز المبدع بأنه يدرك المشكلات في المواقف المختلفة أكثر من غيره؛ فقد يتلمس أكثر من مشكلة تلح على بحث عن حل لها، في حين يرى الآخرون أن (كل شيء على ما يرام)، أو يتلمسون مشكلة دون الأخريات.

ب- الطلاقة: وتتمثل في القدرة على استدعاء أكبر عدد ممكن من الأفكار في فترة زمنية قصيرة نسبياً، وبازدياد تلك القدرة يزداد الإبداع، وتنمو شجرته، وهذه الطلاقة تنتظم:

- الطلاقة الفكرية: سرعة إنتاج وبلورة عدد كبير من الأفكار، (اذكر كل الاستخدامات الممكنة لكوب الشاي).

- طلاقة الكلمات: سرعة إنتاج الكلمات والوحدات التعبيرية واستحضارها بصورة تدعم التفكير (اذكر أكبر عدد من الكلمات التي تبدأ بحرف الصاد).

- طلاقة التعبير: سهولة التعبير عن الأفكار، وصياغتها في قالب مفهوم.

ج- المرونة: وتعني القدرة على تغيير زوايا التفكير (من الأعلى إلى الأسفل والعكس، ومن اليمين إلى اليسار والعكس، ومن الداخل إلى الخارج والعكس، وهكذا) من أجل توليد الأفكار عبر التخلص من (القيود الذهنية المتوهمة) (المرونة التلقائية)، أو من خلال إعادة بناء أجزاء المشكلة (المرونة التكيّفية) مثال: الإمساك بطير وقع في حفرة عميقة.

د- الأصالة: وتعني القدرة على إنتاج الأفكار الجديدة على منتجها وغير المكررة؛ فهي (أي الأصالة) تقاس بقيمة الأفكار لا بعددها، بشرط كونها مفيدة وعملية.

هذه الخصائص الأربع حددها (جلفورد)، وتشكل هذه الخصائص بمجموعها ما يسمى بالتفكير المنطلق (المتشعب)، وهو استنتاج حلول متعددة قد تكون صحيحة من معلومات معينة، وهذا اللون من التفكير يستخدمه المبدع أكثر من التفكير المحدد (التقاربي)، وهو استنتاج حل واحد صحيح من معلومات معينة.

هـ- الذكاء: أثبت العديد من الدراسات أن الذكاء المرتفع ليس شرطاً للإبداع، وإنما يكفي الذكاء العادي لإنتاج الإبداع. وزادت بعض الدراسات العربية: الاحتفاظ بالاتجاه، وتعني القدرة على التركيز لفترات طويلة في مجال اهتمامه، برغم المعوقات والمشتتات.

 

2- الخصائص النفسية:

يمتاز المبدع نفسياً بما يلي:

أ- الثقة بالنفس والاعتداد بقدراتها.

ب- قوة العزيمة ومضاء الإرادة وحب المغامرة.

ج- القدرة العالية على تحمل المسؤوليات.

د- تعدد الميول والاهتمامات.

هـ- عدم التعصب.

و- الميل إلى الانفراد في أداء بعض أعماله، مع خصائص اجتماعية وقدرة عالية على اكتساب الأصدقاء.

ز- الاتصاف بالمرح والأريحية.

ح- القدرة على نقد الذات والتعرف على عيوبها.

 

خصائص متفرقة:

أ- حب الاستكشاف والاستطلاع بالقراءة والملاحظة والتأمل.

ب- الميل إلى النقاش الهادئ.

ج- الإيمان غالباً بأنه في (الإمكان أبدع مما كان).

د- دائم التغلب على (العائق الوحيد) (العائق الذي يتجدد، ويتلون لصرفك عن الإنتاج والعطاء).

هـ- البذل بإخلاص وتفان، وعدم التطلع إلى الوجاهة والنفوذ، بمعنى أن تأثره بالدافع الداخلي (كالرغبة في الإسهام والعطاء، تحقق الذات، لذة الاكتشاف، والانجذاب المعرفي، ونحوها) أكثر من الدافع الخارجي (المال، الشهرة، المنصب، ونحوها).

 

هل يتوجب توفر هذه السمات جميعها في الإنسان حتى يكون مبدعاً؟

بالنسبة للخصائص العقلية ينبغي توفرها كلها بدرجة معقولة، أما الخصائص الأخرى فيكفي أغلبها. وهناك بعض الروائز (المقاييس) التي يطبقها بعض من المعاصرين للتعرف على الشخص المبدع، وتقوم تلك الاختبارات على طرح بعض الأسئلة التي تقيس مستوى الثقافة وحسن التصرف، وتحدد الفارق بين المستوى العمري والمستوى العقلي. لكن تلك الاختبارات في الغالب ليست دقيقة النتائج؛ حيث يضعف من مصداقيتها، ودقة نتائجها عوامل متعددة كطبيعة البيئة الأسرية والاجتماعية للفرد، والمستوى الثقافي والحضاري فيهما.

 

كيف يتم اكتشاف الموهوبين والمبدعين؟

يعتمد نجاح البرامج المعدة لرعاية الموهوبين إلى حد بعيد على مدى النجاح في تشخيصهم وحسن اختيارهم؛ ولذلك تعددت وتطورت وسائل طرق التعرف على الموهوبين، إلا أننا يجب أن نتذكر دائماً أنه لا يوجد طريقة واحدة يمكن من خلالها التعرف على جميع مظاهر الموهبة؛ لذلك فإن التعرف يتحقق بشكل أفضل دائماً باستخدام مجموعة من الأساليب المتنوعة التي تعتمد بشكل أفضل دائماً على عمل الفريق.

كما يجب أن نتذكر أيضًا أنه كلما بكّرنا في اكتشاف الطفل المتفوق أو الموهوب، وهو ما زال في مرحلة عمرية قابلة للتشكيل كان ذلك أفضل كثيرًا من الانتظار إلى سن متأخرة، قد يصعب فيها توجيه الموهوب الوجهة المرجوة؛ نظرًا لما يكون قد اكتسبه من أساليب وعادات تجعل من الصعب عليه التوافق مع نظام تربوي، أو تعليمي مكثف (25).

 

الخاتمة:

أرجو أن يكون هذا المبحث قد أسهم في إلقاء الضوء على تلك المشكلة التربوية، وأن يكون من الأبحاث العملية، وليس من الأبحاث النظرية، فكاتب هذا المبحث يعتقد بأهمية كل كلمة وكل حرف في هذا المبحث، وقد كان هذا المبحث أحد النتائج التي نتجت نتيجة (واقع يحمل هذه المظاهر الإيجابية) في الدعوة والتربية، فأسال الله بكرمه وعفوه أن يهيئ له أفئدة خالصة تعمل على تصحيح الطريق وتقويم الخطأ،وأن يجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه،وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله المستعان وعليه التكلان، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

(23) اكتشاف الطاقات وتوظيفها- علي القحطاني- مجلة البيان-السنة التاسعة عشرة- العدد 207- ذو القعدة 1425هـ- ديسمبر/يناير 2005م.

(24) سامي سلمان، بعنوان: (معرفة الرجال من سمات القيادة الناجحة)، البيان، بتصرف.

(25) اكتشاف الطاقات وتوظيفها- علي القحطاني- مجلة البيان-السنة التاسعة عشرة- العدد 207- ذو القعدة 1425هـ- ديسمبر/يناير 2005م بتصرف.

محمد المصري

معلم وباحث إسلامي مهتم بالقضايا التربوية والاجتماعية ،وله عديد من الدراسات في مجال الشريعة والعقيدة والتربية الإسلامية.

المقال السابق
كيف نقوّي الإبداع