من يمسك زمامها؟

منذ 2008-02-19

واليوم في حادث سبّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحف الدانماركية والأوروبية، الجماهير هي الفاعل الحقيقي، ولكن من يأخذ بزمامها؟


من الثوابت التاريخية أنّ الجماهير لا تُسطر التاريخ، ولا تَصنع الحدث، وإنّما يُصنع بها الحدث، وتُساق الجماهير ـ بالنخبة ـ لأمر قد لا تريده هي، ويكون عكس ما تحركت إليه، وسَرقة مجهود الجماهير صناعة يُتقنها كثير من الـمُغرضين. وقد مرَّ التاريخ بأمثلة كثيرة على ذلك، وجُلّها من واقعنا المعاصر.

في ثورة 1919م عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، لم تحصل الأمة المصرية على استقلالها ـ كما وعدهم الإنجليز ـ فهبت الثورة واشتعلت أيّاما، وكان محركو الثورة هم شيوخ الأزهر وطلبة العلم فيه، فقد كانت صبغتها دينية، وكانت ثورة عارمة، ثم جاء المحترفون من المغرضين وسرقوا الثمرة!!
ولم يحدث شي... أي شيء ممّا قامت من أجله الثورة، اللّهم أنّها أخمدت، وأخرجت للأمة أبطالا مزيفين!!

وُضع زمام الأمة في يدّ سعد زغلول ـ وهو عربيد لا يصلي ولا يصوم ـ فمشى بالأمة في دروب المحتل. ومشت خلفه الأمة (الثائرة) (الغاضبة) على المحتل، مشت وهي فرحة مسرورة تهتف (للزعيم)!! (وللأستاذ محمد قطب في كتابه واقعنا المعاصر حديث شيق عن هذا الحدث).

وتكرر (الفيلم) مرات على مسافات تاريخية قريبة جدا، ولم يستطع أحد أن (يحرقه)، ثارت الجماهير في الجزائر، وكان (جهاد) انتهى بـ (بن بلة) ورفاقه.

وشبّ العمل الجهادي ضد اليهود في بيت المقدس وأجوار بيت المقدس، وانتهى الأمر بـ (منظمة فتح) ثم منظمة (التحرير الفلسطينية) ثم ياسر عرفات الذي دخل فلسطين في منتصف العقد الماضي واستقبلته الجماهير استقبال الفاتحين!!

والمقصود أنّ الجماهير أصبحت لعبة (للنخبة). هكذا حقيقة، يُلجأ إليهم لتمرير المشاريع عن طريق ما يسمى بـ (الديمقراطية)، ويُلجأ إليهم لتحريك قضايا معينة من خلال ما يعرف بالمظاهرات.

واليوم في حادث سبّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحف الدانماركية والأوروبية، الجماهير هي الفاعل الحقيقي، ولكن من يأخذ بزمامها؟

هناك حالة صحية ظهرت في هذه الأحداث، ويجب ـ من وجهة نظري ـ الالتفات إليها وترشيدها، وهي أنّ الجماهير أصبحت على درجة من الوعي أكثر ممّا كان، وسبب ذلك ـ من وجهة نظري ـ انتشار عامة طلبة العلم والمثقفين ثقافة دينية صحوية ـ إن صح التعبير ـ بين الجماهير، وأنّ تأثير الصحافة الورقية في الحدث أقل من تأثير مواقع الإنترنت.

والمطلوب هو ترشيد هذه الظاهرة أو الاهتمام بها، بمعنى إعطاء أهمية للخطاب الشرعي الذي يتناول فقه الواقع، فلا شك أنّ خطابا دعويا رزينا عاقلا في العقد الماضي (كَشَفَ الغمة عن علماء الأمة) ودعاتها وعامة المهتمين بأمرها فيما يتعلق بأطماع الكفر في الجزيرة العربية، وأنّ النداء بتَعَلُّم (فقه الواقع)، ومخاطبة (الغرباء) بـ (وسائل دفع الغربة) ومتى تكون (العزلة والخلطة) كل ذلك أثمر نوعا من الثقافة العامة لدى نوعية من عامة المهتمين ـ كالذين يكتبون في المنتديات اليوم ـ لا يمكن تجاهلها، ولا بد من مد العون إليهم، والآن قبل أن يضيق فضاء الشبكة العنكبوتية ـ ولا قدر الله ـ على دعاة الصحوة.

عامة المثقفين من شباب الصحوة هم القنوات الفرعية التي يتغذى منها جسد الأمة (الجماهير)، أو قل هم دعامات البناء، وهم يضبطون الركب خلف العلماء ليسير في وئده واطمئنان. وهذا يعكس ولا شك أهمية (المقال) و(التحليل الشرعي للحدث)، وأهمية الخطاب الديني الذي يتكلم عن فقه الواقع من منطلق شرعي، ويعكس أيضا أهمية الاستكثار من هؤلاء.

أقول وبكل صراحة: ولا بد من تنصيب زعامات فكرية صحوية للأمة الإسلامية، فها هي الجماهير يقظة ثائرة، منصتة لخطاب (الشيوخ)، فمن لها؟

نريد أصحاب التفكير العميق، نريد أن يفسح الوعاظ الساحة قليلا، ليتقدم المربون، وأصحاب النظرة البعيدة، أولئك الذين يخطون التاريخ حقيقة.

أظن أنّنا نضجنا و(لسنا أغبياء لدرجة كافية) أن يأتي لص مجرم لا يرجو لله وقارا ويمد يده في كيسنا ويأخذ ما ادخرناه في سنين غربتنا، ونعود ثانية للغربة كي نجمع من جديد.

إنّ لليوم حديثا لن يسمع غدا، وإنّ السوق قد نصبت، وعما قريب يعود الحضور بين رابح مسرور، وخاسر مغبون.



محمد جلال القصاص

mgelkassas@hotmail.com

 

المصدر: طريق الإسلام