رحـلـة الـفـلاح

منذ 2008-02-21

روي أنّ الإمام زين العابدين ـ أحد أحفاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ـ رحمه الله حين وضوءه يصفر ويتغير وجهه فيُسأل عن ذلك فيقول: "أتدرون من أقابل؟".


{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [سورة المؤمنون: 1-2]، أول الطريق إلى رحلة الفلاح (الخشوع في الصلاة) يبدأ من النداء إلى هذا الركن العظيم، هذا الركن الذي يعد الركن الثاني من أركان الإسلام، ولعلك أُخي قد خطر في ذهنك أنّ هذه الفريضة التي فرضها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم تم فرضها من دون واسطة جبريل عليه السلام كسائر الفرائض، لقد فرضها الله في بادئ الأمر خمسين صلاة ثم خففها بعد مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم عدة مرات، فخففت إلى خمس صلوات وبقي أجرها كخمسين صلاة، إذا استشعر المسلم هذه المعاني علم منزلة الصلاة العظيمة فأصبح وأمسى وهو مشتاق إليها وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما بين رجلاً هذه صفته فقال: «ورجل قلبه معلق بالمساجد»، فإذا علمنا منزلة الصلاة وعلمنا أنّ الخشوع في الصلاة هو روحها ولبها وقلبها فما الطريق إلى هذا الخشوع؟ أقول والله المستعان أنّ طريق الخشوع يبدأ من قبل أداء الصلاة، فهذه الرحلة الإيمانية تبدأ من النداء لها كما قدمنا، فالنداء للصلاة أو ما يسمى بالأذان يحمل النداء للصلاة ويحمل الدعوة للفلاح المنشود ((حي على الفلاح))، والفلاح يعني سعادة الدارين فيقبل المسلم إلى الصلاة لأنّه لا شيء يوازي هذا الفلاح، لهذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله فإذا سمع النداء انصرف للصلاة، ثم إنّ المرحلة الثانية من مراحل هذه الرحلة المباركة يتمثل في الوضوء فهذه القطرات التي تتحات معها الذنوب والسيئات تذكيرٌ آخر بالاستعداد للصلاة.

روي أنّ الإمام زين العابدين ـ أحد أحفاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ـ رحمه الله حين وضوءه يصفر ويتغير وجهه فيُسأل عن ذلك فيقول: "أتدرون من أقابل؟". إنّ هذا الاستشعار في هذا الموطن دافع كبير للخشوع في الصلاة، ثم محرك آخر لهذا الخشوع يتمثل في استشعار الأجر العظيم المتمثل في الذهاب إلى المسجد، فخطوة ترفع درجة وأخرى تحط خطيئة فكم من الحسنات المكتسبة وكم من السيئات المكفرة. ثم يا أُخي تذكر الرحمة التي تسألها ربّك حين تضع أول رجل لك في المسجد وتذكر المغفرة التي تسألها ربّك حين تضع أول رجل في دخولك للمسجد ((اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك))، نعم لقد دخلت الآن إلى مكان الرحمات والمغفرة والتوبة والأوبة، الملائكة تستقبلك وتستغفر لك، ((اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)) تصلي ركعتي المسجد فتزداد قربًا من الله، تأخذ مصحفًا وتفتحه وتقرأ منه فتزداد قربًا من الله، ترفع يديك وتدعو ربّك، وتتوسل إليه وتتضرع إليه فتزداد قربًا منه، تذكُر الله وتسبّحه وتستغفره، وتكبره فتزداد قربًا منه، وما هي إلاّ لحظات ويأتي النداء الربّاني الثاني لتُقام الصلاة ويأتي التذكير بالفلاح المطلوب مرة أخرى ((حي على الفلاح)) فتنهض الهمة قبل القامة ويزداد المسلم إيمانًا، وهكذا لكي يقبل الإنسان إلى الصلاة وهو في أتم الاستعداد لها، وهناك يقف المصلون صفًا واحدًا متوجهين لاتجاه واحد إلى القبلة ليعلم هؤلاء المصلين أنّ قلوبهم ينبغي أن تتجه إلى الله الواحد كما اتجهت أجسامهم إلى قبلة واحدة.

تُفتتح الصلاة بذكر هو من أعظم الأذكار وأجلها ألا وهو تكبير الله، وكأنّ في هذا تذكير والله أعلم أنّ هناك أمرًا ينبغي أن يعتني به المسلم في صلاته، فتكبيرة الإحرام في افتتاح الصلاة والتكبيرات الأخرى هذا التكرار لهذا الذكر العظيم ((الله أكبر)) يذكر المسلم.. يذكر المصلي أنّ الله أكبر من كل شيء تلتفت إليه ببدنك، والله أكبر من كل شيء تلتفت إليه بنظرك، والله أكبر من كل شيء تلتفت إليه بقلبك، وهذه الأشياء التي إذا التفت إليها الإنسان ألهته عن صلاته والخشوع فيها، وهذا المعنى العظيم يتكرر فإن غفل الإنسان أو التفت قلبه أو نظره أو جسده تذكر بتكرار هذا اللفظ العظيم ((الله أكبر)).

ثم ليعلم من يريد الخشوع في صلاته أنّ من أعظم أسباب الخشوع في الصلاة تدبر ألفاظ الصلاة وما يتلى من الآيات، وفاتحة الكتاب تلك السورة التي تردد في كل ركعة وهي أعظم سورة في كتاب الله وفي تدبرها طريق أكيد للخشوع، فهذه السبع آيات فيها من المعاني العظيمة والعظات الجليلة ، فالبداية بالحمد لمن يستحق الحمد سبحانه وتعالى فهو رب العالمين، والعالم كل من سوى الله، وفي هذه الآية تأكيد على توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، ثم تنتقل بنا الآيات إلى بيان رحمة الله الواسعة فهو سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته السموات والأرض، خلق جل جلاله مائة رحمة أنزل في هذه الدنيا رحمة واحدة وأبقى بكرمه ورحمته تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده في الآخرة {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة الحجر: 49].

ثم إنّه سبحانه مع هذه الرحمة الواسعة فهو العدل ورحمته تذهب لمن يستحقها وعذابه يصيب من يستحقه، فهو جل جلاله في يوم الجزاء والحساب يجزي كل نفس بما كسبت، فهو سبحانه {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة: 4]، {يوم لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الإنفطار: 19]، وإنّ الطريق إلى هذه الرحمة والسعادة الدنيوية والأخروية عبادة الله سبحانه والاستعانة به والتوكل عليه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة: 5]، فالعبادة وهي الغاية من الخلق لا تصح إلاّ لله وحده، والاستعانة لا تكون إلاّ بالله وحده، ولهذا جاء الحصر بلفظ {إِيَّاكَ}، ثم تدبر ذلك الدعاء الجميل الجليل {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة: 6-7]، والمنعم عليهم هم الأنبياء والصديقون (العلماء العاملون)، والشهداء والصالحون، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة: من الآية 7] الذين يعلمون ولا يعملون، {وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة: من الآية 7] الذين يعملون من غير علم، آمِين اللّهم استجب.

ثم يتدبر ما يقرأ من الآيات ويقف مع ما يتلى من العظات.

ثم إنّ من أعظم أسباب الخشوع استشعار عظمة الله جلاله، فأنت أخي المصلي واقف أمامه تناجيه وتدعوه، تعبده وتستعين به وتسبحه بـ ((سبحان ربي العظيم)) في ركوعك فتصفه بالعظمة، و((سبحان ربي الأعلى)) في سجودك، فتصفه بالعلو، فهو سبحانه العلي الأعلى المستوي على عرشه، جل جلاله، فتفكر يا أخي أنّك في هذا الموضع أعني موضع السجود حين تضع جبهتك على الأرض وتذل نفسك لخالقك أتعلم أن هذا الموضع ـ هو موضع العزة والارتفاع والقرب ـ وصدق إمام الخاشعين صلى الله عليه وسلم: «وأقرب ما يكون العبد لله وهو ساجد».




د. محمد بن عدنان السمان
المدير التنفيذي لموقع شبكة السنة النبوية ـ السعودية ـ


المصدر: طريق الإسلام