حركة العصر الجديد (1)

منذ 2014-05-05

يتناول هذا البحث حركة باطنية معاصرة تشترك في الأصول والفلسفة والمنهج مع سائر الحركات الباطنية، ولكنها تتخذ أشكالاً وتطبيقات جديدة تتناسب وطبيعة العصر...

مقدمة:

الحمد لله ربّ العالمين، فطرنا موحدين، واصطفى لنا خير دين، وأرسل لنا الهادي الأمين فما ترك خيراً إلا ودلَّنا عليه، ولا شراً إلا وحذَّرنا منه، فجزاه الله عنا بخير ما جزى نبياً عن أمته، وصلى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ويتناول هذا البحث حركة باطنية معاصرة تشترك في الأصول والفلسفة والمنهج مع سائر الحركات الباطنية، ولكنها تتخذ أشكالاً وتطبيقات جديدة تتناسب وطبيعة العصر.

فالباطنية التي وصفت بها بعض المذاهب والفرق في التاريخ الإسلامي كالقرامطة والنصيرية والشيعة والصوفية ليست وصفاً خاصاً بهم، وإنما هي صفة لفلسفة ومنهج يتلون في كل عصر بطرق تناسب أهل ذلك العصر.

وهي أساليب متجدِّدة لعرض الكفر بالله تعالى يوحي بها إبليس اللعين إلى أوليائه ليضل فئام من أهل الإيمان ويُفسِد عليهم دينهم ويوقعهم في الكفر بطرق خفية وأساليب باطنية كلما فشل الباطل في مواجهة الحق ومناظرة علمائه بالحجة والبيان.

وقد حذَّرنا الله تعالى من إبليس وجنده، وأخبرنا عن عداوته، وحرصه على إضلالنا وتزيين الباطل لنا، فقال تعالى مخبراً عن تربُّص إبليس ببني آدم إلى آخر الزمان: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16].

ولا شك أن دور أهل التخصص في العقيدة والمذاهب المعاصرة كبير في ملاحظة مثل هذه الحركات، وفضح أساليبها قياماً بأمانة العلم ومسؤولية الدعوة إلى الله تعالى، لا سيما وقد أصبحت الأمر أكثر خطورة في زماننا هذا لانتشار تطبيقات العولمة في أكثر جوانب الحياة، وللانفتاح الاتصالي الكبير بين الثقافات والشعوب الذي أُتيح لعامة الناس بعد أن كان محصوراً في قلة منهم؛ فظهرت أنواع جديدة من الحركات الباطنية لا تحارب ديناً بعينه، ولا تتصدى للإسلام خاصة..

وإنما تحارب جميع العقائد السماوية، ومن ثم اختلف منهجها قليلاً عما عُرفت به الباطنية في التاريخ الإسلامي؛ فلم تلبس ثوب الإسلام والدين في بدايتها كما هو شأن الحركات الباطنية في تاريخ الأمة، وإنما أخذت طابع الثقافة المحايدة والفكر الجديد، ورُوّج لها تحت اسم التنمية البشرية، وسُوقت برامجها عبر مؤسسات التدريب والتطبيب كبرامج حيوية عامة لا تُقدِّم فكراً أو فلسفة ولا تتعلَّق بدينٍ أو مذهب.

كما تمَّت صياغة برامجها وأدبياتها بطريقة تخفي حقيقة أصولها الفلسفية الغنوصية وتُقدِّمها لعامة الناس كأساليب حياة معاصرة تُوصل من يمارسها بشكلٍ دائم إلى الصحة والسعادة التي هي غاية ما ينشده أكثر الناس. ولذلك سارع كثير من عامة الناس إلى تطبيق واعتقاد ما تضمنته هذه البرامج من الباطل ظانين أنها السبيل إلى ما ينشدون غافلين عما تعج به من باطل.

ومن هنا؛ فخطر هذه الحركات الباطنية المعاصرة عظيم، لتخفيها عن أهل العلم وتوجهها كلياً إلى عامة الناس، وتقديمها للفلسفات والمعتقدات ضمن القوالب التدريبية المصمَّمة بصورة تظهر مناسِبة لاحتياجات الناس الحيوية، وبذلك أدخلت كثيراً من الشُّبه، والعقائد المنحرِفة، والفلسفات الضالة إلى نفوس وقلوب عوام من المسلمين، كما تمكنت من تسريب مختلِف الشركيات الاعتقادية والقولية والعملية على أنها فرضيات ونظريات علمية، أو تمارين حركية مجرّبة تهدف إلى إحداث التغيير المطلوب في الشخصية المعاصرة، وتعزيز الصحة والشفاء والسعادة والإيجابية لدى الأفراد.

ويزعم أتباع هذه الحركات ومروجو برامجها أن برامجهم مأخوذة من نتاج موروث منتقى من جميع الحضارات، يخدم الإنسان بصفته إنساناً وليس هناك ثمة فلسفة أو دين أو معتقد! وإنما هي روحانيات عامة تُنمِّي الشخصيات وتُطوِّر نوعية الأداء، وتُحسِّن صحة البدن والعقل والروح معاً! وتنشر الحب والسلام في الأرض، وتدعو إلى التناغم مع الكون!

والحق الذي تكشفه هذه الدراسة يظهر الأصول والجذور الفلسفية الباطنية لواحدة من أكبر هذه الحركات، ويكشف أن ما تُقدِّمه في برامجها التدريبية والثقافية والعلاجية هو خليطٌ ظاهره العلم والتجربة الصحيحة منتحل من كثير من فروع العلم المعروفة، وباطنه دجل وجهل وشرك وكفر يُعرض مدلّساً بصورة العلم والحقائق والنظريات والروحانيات ليشتبه على الناس. وإنما سُمِّيت الشبهة شبهة لأنها باطل يلبس ثوب الحق فيشتبه على الناس.

فهذه الدراسة تتناول حركة "العصر الجديد" (New Age Movement) وهي حركة كبرى من الحركات الباطنية المعاصرة تجاوز أتباعها في الغرب الملايين وتخطت حدود محاضنها في أمريكا وأوروبا إلى أنحاء العالم ومنه بلاد الإسلام، ويتبنى أعداد من أبناء الأمة اليوم نشر برامجها والتدريب على منهجها بعد أن اغتروا بظاهرها التطويري والاستشفائي، وجهِلوا أو غفِلوا عن باطنها العقائدي الخطير، ومما زاد الطين بلَّة أن بدأ هؤلاء يلفقون بين فلسفتها وتطبيقاتها، ونصوص الكتاب والسنة فكرَّروا بذلك صنيع بعض فلاسفة المسلمين من قبل عندما لفقوا بين الفلسفة والدين فضلوا وأضلوا.

وتنتظم هذه الدراسة في تمهيد وأربعة مباحث:

الأول: نشأة الحركة وجذورها التاريخية.
الثاني: أهم المبادئ والمعتقدات.
الثالث: طرق نشر الفكر وأبرز برامجه التطبيقية.
الرابع: مخاطر الحركة على الأمة الإسلامية.


هذا وقد اجتهدت في توضيح الحقائق والمفاهيم مع حرصي على مراعاة الإيجاز المطلوب في مثل هذا البحث، لذلك اكتفيت بذكر سنة الوفاة عند ذكر الأعلام للتعريف بهم، واكتفيت بالإحالة على المراجع عند ذكر كثير من الفرق المعروفة في التاريخ، كما أنني تجنبت التفصيل في بيان العقيدة الصحيحة وأدلتها لوفرة المراجع التي تعتني بذلك ولله الحمد.

وجعلت البحث مُنصبَّاً على التعريف بهذه الحركة الباطنية المعاصرة وجذورها ومخاطرها لبيان ذلك لأهل العلم والدعوة فتتكاتف الجهود من أجل مواجهة خطرها.

أسأل الله العظيم أن يقبل هذا الجهد جِهاداً في سبيله، وذوداً عن حمى الدين ونصحاً لعامة المسلمين وخاصتهم.
 

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

فوز بنت عبد اللطيف كردي

دكتوراه فلسفة التربية والدراسات الإسلامية، تخصص العقيدة والمذاهب المعاصرة. جامعة الملك عبد العزيز بجدة