حركة العصر الجديد (2)

منذ 2014-05-05

تمهيد:

معنى "الباطنية" و"الغنوصية" من المسلّم به أنه لا بد من ملاحظة السياق الذي ترد فيه المصلحات لفهمها ومعرفة معانيها.

ومن ذلك المصطلحات في أبواب العقائد والفرق والأديان؛ فقد يرد المصطلح في سياق يعتمد على منهج شرعي ولغوي صحيحين، وقد يكون في سياق كفر ظاهر أو دين باطل، كما أنه قد يكون في سياق توفيقي بينهما سببه اشتباه الأمر على بعض المصنفين المسلمين، كما أنه قد يرد في سياق باطني يُدلس به أهل الباطل على باطلهم أو يبررون به عقيدتهم أو يفتنون به أهل الحق. وفيما يلي بيان لمعنى "الباطنية" و"الغنوصية" مأخوذ من سياقات متنوعة لتوضيح معناها وفهم منهجها.

أولاً: معنى الباطنية (Esoteric)

"الباطنية في اللغة من بطنت الأمر إذا عرفت باطنه، والباطني تطلق على الرجل الذي يكتم اعتقاده فلا يظهره إلا لمن يثق به، وقيل الباطني: هو المختص بمعرفة أسرار الأشياء وخواصها، وقيل هو الذي يحكم بأن لكل شيء ظاهرٌ وباطنٌ، ولكل تنزيل تأويل. والباطن هو الخافي، ويقصد بالعلم الباطن -عند أهله- معرفة الأسرار والخفيات كـ"علم الجفر"، أو "علم الحروف" الذي يدّعي أصحابه أنهم يعرفون به الحوادث إلى انقراض العالم، أو القبالة التي هي تفسير التوراة السري بالأرقام والحروف، وكعلم السحر والطلسمات وعلوم التنجيم والعرافة وغيرها" (ينظر: المعجم الفلسفي: [1/195]).

و"التأويل الباطني هو إخراج النص عن دلالته الظاهرة لمعاني خفية لا تتجلى -بزعم أهل الباطن- إلا لخواص من الناس يتوارثون أسراراً خاصة، ويدربون أنفسهم على الغوص في خفايا النصوص واستخراج أسرارها من خلال خصائص روحانية للحروف والأعداد. وقد كان التأويل الباطني للنصوص ولا يزال أحد الوسائل الرئيسة التي تتخذها الحركات الباطنية لإيهام عامة المسلمين بأن العقائد الباطنية وفلسفاتها أو تطبيقاتها صحيحة ونافعة وأنها متفقة مع نصوص الكتاب والسنة وتاريخ الأمة" (ينظر: المعجم الفلسفي: [1/234]).

يقول الغزالي [ت 505هـ]: "إن الباطنية إنما لقبوا بها لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورا جلية، وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة" (فضائح الباطنية للغزالي: [11]).

ثانياً: معنى الغنوصية[1] (Gnosticism)

"الغنوص" (gnosis) لفظة يونانيّة الأصل، معناها المعرفة أو العرفان وخاصة في أمور الفلسفة والدين، وتدل اصطلاحاً على معرفة كشفية إشراقية تصل إلى المعارف العليا مباشرة دون استدلال أو نظر، فهي -بحسب ما يرون- إدراك حدسيّ للحقيقة الروحانيّة.

ومصطلح "الغنوصية" يدل على طريقة سرّية باطنيّة تسعى إلى معرفة الحقيقة، وتعدها غاية الحياة[2]، وطريق الخلاص فيها[3].

ويعتبر الغنوصيون عقيدتهم أقدم مافي الوجود من عقائد وصلت مباشرة من المطلق[4] إلى الإنسان، كما يعتقدون أنها تختلف عن جميع العقائد الدينية بأنها متغيرة ونسبية ودائمة التدفق لا تتوقف.

وهكذا يتضح أن الباطنية والغنوصية كلمتان لمدلول واحد، فالباطنيُّون من جميع الملل يؤمنون أن المعرفة الباطنية هي الغاية المنشودة، ويُسمُّون الوصول إلى "الغنوص" إشراقاً، وهو حالة من التحرر من الماديات تنكشف فيها المغيبات وتتجلى الحقيقة المطلقة. وليس الوصول إلى هذه الحالة مقصوراً على أحد كالوحي للأنبياء، وإنما يمكن لأي أحد تحصيل هذا "العرفان" عن طريق ذوق خاص ومجاهدات، وتتبّع لباطن وأسرار نصوص الكتب المقدَّسة واستخلاص الحكمة السريَّة المحجوبة فيها، وكذلك أسرار التعاليم والتقاليد الخاصّة المتوارثة من الحكماء الأوائل العارفين (يجمع الباطنيون ومن ينقل عنهم تحت اسم "الحكماء الأوائل" الأنبياء صلوات الله عليهم أو بعضهم مع من يقدسون من أشخاص كبوذا وكنفشيوس وغيرهم).

كما يفيد في ذلك دراسة ما يُسمُّونه كتب "الحكمة القديمة" التي تمثل عندهم تراثاً سِريّاً منقولاً للمعرفة الباطنيّة، وأشهرها كتب "الفيدا" عند الهندوس، وكتاب "القبالة" Kabbalah وكتاب "زُهر" لدى باطنية اليهود، وكتاب "الجفر" لدى الرافضة (ينظر: المعجم الفلسفي: [1/195]، وتاريخ الفكر الفلسفي عند العرب: [102]، والمعرفة الباطنية لبوريس مورافييف: [1/4]).

وتتسم جميع المدارس الغنوصية في جميع الأديان بالثنائية الظاهرة أو المستترة القائلة بوجود إلهين أو إله أعلى ينتشر بأشكال الفيوضات والأقانيم. ومن أبرز مواضيع الغنوص وموارده: "القيمة الرمزية للحروف الأبجدية، وتقسيم تاريخ العالم إلى دورات تطابق الحلول الجديد، والخلاص، والأرواح، والتناسخ، وتفسير النصوص رمزياً...." (ينظر: الغنوصية في الإسلام لهاينس هالم: [6-12]. وهذا ما نشطت مؤخراً حركة التأليف والنشر والترجمة فيه ككتب أسرار الحروف التي يُزعم أنها تكشف أسرار المستقبل وأسرار الأعداد والألوان، وكتب أصول التنجيم والسحر والطلسمات وما يُسمَّى بالطاقة الخفية أو الحاسة السادسة وغيرها وزخرت بها أرفف المكتبات حتى في بلاد الحرمين!) ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد تُرجم الغنوص في سياقات باطنية أو إسلامية -بطريق الخطأ- على أنه الوحي أو الإلهام (ينظر: فاتحة العلوم للغزالي: [29]، وتلبيس إبليس لابن الجوزي: [363]).

وسُمِّي الغنوص في مذاهب التصوف والتشيع الغالي ومعتقدات القرامطة والإسماعيلية والبهرة والنصيرية والدروز والزنادقة المتأثرين بالمانوية والصابئة المندائية بـ "الغنوص الإسلامي"! (ينظر: الغنوصية في الإسلام لهاينس هالم ص: [6-12]).

والحق أن الفرق بين الوحي والإلهام وبين الغنوص والإشراق كبير جداً يعرفه أهل العلم ويدركون خطرة مثل هذه الترجمة الخاطئة ودورها في تلبيس الحق بالباطل. وفي الموسوعة الفلسفية عُرِّفت الغنوصية بأنها فلسفة صوفية، واسم علم على المذاهب الباطنية، وأن غايتها معرفة الله بالحدس لا بالعقل، وبالوجد لا الاستدلال (الموسوعة من إعداد الدكتور عبد المنعم الحفني: [296-298]).

وهي كذلك حقاً إلا أن الغنوصية غايتها معرفة ما تسميه الحقيقة أو المطلق وليس (الله) تعالى. والتعبير عن المطلق أو الحقيقة بلفظ الجلالة (الله) في تعريف الغنوصية أو وصفها إنما هو خلط بين الفلسفة والدين، فالدين يجعل الوحي هو طريق معرفة الله وأسمائه لا الحدس والعقل، ويعرِّف بأن لهذا الكون موجد واحد خلقه بإرادة وحكمة وقدرة هو الله تعالى الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا وليس مجرد مطلق كلي سابق في الوجود لكل الموجودات كما يعتقد أكثر الفلاسفة.

وقد سُمِّيت المعرفة الباطنية الغنوصية في التراث الصوفي بأسماء عدة، وعُرِّفت في سياق تلفيقي باطني بما يقربها للمسلمين ومن ذلك: "المعرفة الإشراقيّة" التي عرّفت بأنها ظهور أنوار عقليـّة تفيض على الأنفس الكاملة عن المواد الجسميّة، فهي تلقٍ مباشر من العالم الغيبيّ والمعرفة الإلهيّة لمن لهم رياضات روحيّة ومجاهدات نفسيّة جعلت نفوسهم تصفو من الأكدار البشريّة فتتأهل لإشراق العلوم والمعارف المنقوشة في العالم العلويّ بزعمهم (ينظر: المعجم الفلسفي: [1/94]، والمنقذ من الضلال للغزالي: [120]، وأصول الفلسفة الإشراقية لمحمد أبو ريان: [119]، وعقيدة الصوفية وحدة الوجود الخفية لأحمد القصير: [499]).

وسُمِّيت بـ"علم الأسرار"، أو"المعرفة السّرية" يقول ابن عربيّ [ت.638هـ]: "علم الأسرار، العالم به يعلم العلوم كلّها، ويستغرقها وليس صاحب العلوم الأخرى كذلك، فلا علم أشرف من هذا العلم المحيط، الحاوي جميع المعلومات" (ينظر: الفتوحات المكية: [1/140]).

وهو علم فوق طور العقل، فهو نفث روح القدس في الروع يختص به النبيّ والوليّ ويحصل من طريق الإلهام (ينظر: اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر للشعراني: [1/21]).

وسُمِّيت كذلك بـ"المعرفة اللدنيّة"، إشارة إلى ما ذكر سبحانه من شأن الخضر {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف:65]، فهي معرفة كالضوء من سراج الغيب يقع على القلب الصافي (ينظر: الرسالة اللدنية للغزالي: [114]).

وسُمِّيت "علم الحقيقة"[5]عند غلاة الصوفية الذين قسّموا العلوم إلى علم شريعة وعلم حقيقة، فجعلوا الشريعة التزام العبوديّة، والحقيقة مشاهدة الربوبيّة[6]، ومن يصل إلى الحقيقة -عندهم- لا يتقيّد بأمر الشارع ونهيه مما جاء عن طريق الرسول، وإنما يتّبع ما يكشف له ويذوقه ويجده ونحو ذلك (ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية: [10/169]).

فالمعرفة الباطنيّة والغنوصية بمختلف الأسماء الدالة عليها هي -عند معتقديها- طريقة وصول للحقيقة القطعيّة للغيب تتجاوز جميع الطرق الأخرى قدراً وسعة؛ فهي تتناول حقائق لا يتوصل إليها بالعقل ولا النقل، كما أنها طريقة متاحة لكل الناس بشرط قدرتهم على التحرُّر من تأثير الحسّ والعقل اللذين يحجبان الإنسان عن السموّ إليها. ويتم تحصيل هذه القدرة عن طريق رياضات وجوع وسهر وتصفية وفناء ومقامات وأحوال، فعندها تحدث المعارج الروحيّة والتجليـَّات النورانيـّة التي يزعمون! بناء على أصلهم الفاسد وهو أن النفوس إذا صفت اتصلت بالمطلق (ينظر: الرد على المنطقيين لابن تيمية: [510]).

وقد أخذت الرياضات الهادفة إلى تصفية النفس والتحرُّر من تأثير الحس والعقل في العصر الجديد أشكالاً جديدة كالتنويم الإيحائي والمغناطيسي وممارسات التأمل الارتقائي والتنفس العميق وغيرها.

ومن المهم التأكيد على أن وصف الفرق القديمة من القرامطة والاسماعيلية وغيرهم بالغنوصية والباطنية هو لبيان أصولهم الفلسفية ومنهجهم في المعرفة لكنه أبداً ليس لحصر الباطنية فيها فالفكر الباطني الغنوصي يتلون ويتجدد كل عصر ليخرج للعالم فرقاً جديدة، أو يكوّن مذهباً، أو يُشكِّل حركة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش والمراجع:

[1]- (ينظر: نشأة الفكر الفلسفي للنشار: [1/186]).

[2]- (قال ابن تيمية عن الفلاسفة الباطنيين: "يظنون أن كمال النفس في مجرد العلم، ويجعلون العلم الذي به تكمل النفوس، ما يعرفون هم من علم ما بعد الطبيعة، ويجعلون العبادات رياضة لأخلاق النفس، حتى تستعد للعلم فتصير النفس عالماً معتزلاً موازياً للعالم الموجود" مجموع فتاوى ابن تيمية: [3/94]).

[3]- ينظر: الهرطقة في الغرب لرمسيس عوض: [25]، و:
-The American Heritage dictionary of the English language, 2000.

[4]- ("المطلق" مصطلح قد يترجم في سياق إسلامي تلفيقي أو في سياق باطني بـ"الله" أو الإله. والصواب أن القائلين بالمطلق لا يؤمنون بالله ولا بإله غيره، وإنما يؤمنون بقدم العالم ودوامه وتحولاته والمطلق الذي يؤمنون به يعدونه أصلاً انبثقت منه كل الأشياء ويُسمَّى في الكتابات الباطنية بأسماء أخرى منها "الكلي" و"الطاو" والطاقة الكونية" و"القوة العظمى"... وغير ذلك).

[5]- (ينظر: اللمع في التصوف للطوسي: [457]).

[6]- (ينظر: الرسالة القشيرية: [82]).

 


المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

فوز بنت عبد اللطيف كردي

دكتوراه فلسفة التربية والدراسات الإسلامية، تخصص العقيدة والمذاهب المعاصرة. جامعة الملك عبد العزيز بجدة