الخنساء.. وأنا

منذ 2014-05-05

في حضرة أم نضال ستدهشك أعضاؤك بأنها تريد أن تتأدب وتعتدل، وفمك برغبته الشديدة في الصمت، فأنت في مجلس علم وأدب، وأمام قامة شهدت لها الدنيا بمعانٍ لن تتعلمها في الكتب ولا القراءة، وقد لا تفهمها أنت حتى لو شاهدتها في واقع الحياة، فالبشر مقامات في وصولهم إلى الله، وهم مقامات كذلك في تعاليهم على الدنيا.

منذ استشهاد ثالث أبنائها حصلتُ على رقمها وأردت أن أتصل لأهنئها أو أعزيها، وظللت أؤجل ماذا أقول لها: عظم الله أجرك؟ ولكن أجرها عند الله عظيم، رحمه الله، لقد رحمه الله رحمة واسعة فاصطفاه شهيدًا، صبرك الله؟ ولكنها صبرت صبر أيوب عليه السلام، ففقد ولد واحد كفيل أن يورث القلب حسرة لا تزول فكيف وقد كانوا ثلاثة؟ خفت أن أتصل فأسكت وأتلعثم وأبدو كالبلهاء، فآثرت أن أحبها عن بعد.

ولكنها حلت ديارنا مريضة متعبة قد أنهكتها السنون والمنون، ولكن على وجهها ذات التصميم وفي منطقها ذات الإصرار، وحتى لو لم يطاوع الجسد القلب، فإنه لن ينفك يحمل الراية حتى تدخل معها إلى مثواها الأخير شهيدة على الأمة بأكملها.

في حضرة أم نضال ستدهشك أعضاؤك بأنها تريد أن تتأدب وتعتدل، وفمك برغبته الشديدة في الصمت، فأنت في مجلس علم وأدب، وأمام قامة شهدت لها الدنيا بمعانٍ لن تتعلمها في الكتب ولا القراءة، وقد لا تفهمها أنت حتى لو شاهدتها في واقع الحياة، فالبشر مقامات في وصولهم إلى الله، وهم مقامات كذلك في تعاليهم على الدنيا.

لا أحد يخرج من عند أم نضال خالي الوفاض، والزاد ليس طعامًا بل زوادة للنفس والعقل والهمة.
سألناها عن مآسي غزة والمعاناة التي نقرأ عنها ونشاهدها، فأدهشتنا بذكر اللإنجازات والأعمال وكأنها تعلق بصرها بالأعالي فلا ترى إلا المعالي، وتبث طاقة الأمل التي تجعل من الجسد المنهك والبلد المُحارَب والناس المشردين أبطالاً، يؤقلمون الدنيا بحسب مبادئهم دون أن تغريهم أو تهزمهم.

من كان يظن أن الوصف رومانسي كان يجب أن يجلس إلى أم نضال، ليعلم أن المثالية ممكنة والأحلام قد تتحقق، ولكن لها أهلها الذين يجري الله المعجزات على أيديهم دون غيرهم.

المدارس نوعان: مدارس تنظر على دماء الشعوب، ومدارس تخلط دمها بدماء الشهداء، والتاريخ يشهد أن أم نضال رائدة من رواد مدرسة التضحية، كان بيني وبينها رسائل بعثتها لها في غزة أوصيها بالدعاء لي ولابنتي، فلما قمنا نودعها من الزيارة نادتني أحد الأخوات باسمي! فقالت لي أمي أم نضال: "ديمة طهبوب! الله يسامحك يا ديمة ما تقولي من أول الزيارة!"، قلت لها: ومن ديمة يا أماه؟! كلنا في حضورك نكرات، واستبقتني ربع ساعة تمسك بيدي وتبثني شيئًا من الطهر والصبر والدعاء، فليرحمنا الله من بعدك يا أماه فقد كنا بحاجة للرمز والقدوة.
ابنتك.


ديمة طهبوب

المصدر: موقع شبكة مسار