النمر الصغير (قصة واقعية)

منذ 2014-05-08

في صباحٍ من جُمَادى لا تخفى على أحد لَسعات البَرْد فيه، تكامَلَ عقْد ركْبٍ من ثلاثة أطفال، وقد خرج كلٌّ منهم خارجَ منْزله ليَجِد بعضهم بعضًا؛ فهم أبناء عم، وهُم جيران.

النمر الصغير (قصة واقعية)

في صباحٍ من جُمَادى لا تخفى على أحد لَسعات البَرْد فيه، تكامَلَ عقْد ركْبٍ من ثلاثة أطفال، وقد خرج كلٌّ منهم خارجَ منْزله ليَجِد بعضهم بعضًا؛ فهم أبناء عم، وهُم جيران.

أعمار الأطفال: خالد خمسة أعوام، وعبد الله أربعة، وابن عمِّهم عبد الرحمن خمسة.

خرجوا من بيوتهم في غفلة من أهلهم، واتَّسعت الدنيا في وجوههم، وأوحى لهم الشَّيطان بالابتعاد، فساروا بعيدًا عن حيطان القرية، لم يَلْحظهم ولم يَرَهم أحد، ساروا، ثم ساروا.

كان الصغير منهم عبد الله يمسك بيد كلِّ واحدٍ من أبناء عمِّه، ودُون تخطيط ولا دِراية، وجَدوا أنفسهم على طريق دوليَّة تَربِط بين مدينتين. تمرُّ السيارات الشاحنة على بِرَك صغيرة من مياه المطر، فيصيبهم رشَاشٌ من الماء البارد. أثَّر البرد فيهم، فأصبحت شفاههم زرقاء، تصطَكُّ أسنانهم ببعضها البعض، وترتجف شفاههم، وعبد الله الصَّغير يمسك باليد اليمنى بعبد الرَّحمن، وباليد اليسرى بخالد.

مضت ساعتان من السَّير المتواصل، على يمين الطريق هناك ساقيةٌ للرَّي، شقَّها المستعمر الفرنسي إبَّان احتلاله للبلاد، وعلى اليسار الطريق الدوليَّة، لا منفذ إلى جهة الغرب، ولا منفذ إلى جهة الشَّرق، فلم يَكن أمامهم إلاَّ السَّير جنوبًا.

قائد الرَّكْب: الصغير عبد الله.

افتقدهم الأهل بعد ثلاث ساعات، فمسحوا طُرَق القرية طريقًا طريقًا، ودُورَها دارًا دارًا، وبدؤوا بمسح حقولها حقلاً حقلاً، لعلَّهم وصلوا إلى البستان الفلاني، ولعلّهم..

خرجت القرية كلها تطلبهم، بدَا للجميع أنَّ شرًّا أصابهم، ولكن أين هم؟

كاد اليأس أن يصل إلى قلوبهم، فعنَّفوا نساءهم ولاموهم؛ فكيف يخرج عبد الله؟! وكيف يخرج عبد الرَّحمن؟! وكيف يخرج خالد؟! أين أنتم؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، أين نجدهم؟

عاد الرِّجال إلى منازلهم ليسألوا نساءهم: ماذا كانوا يلبسون؟ وماذا كانوا ينتعلون؟

صُعق أبو عبد الله عندما علم أنَّ ابنه خرج حافيًا، ولكنَّه تألَّم أكثر عندما أخبره كلٌّ من أبي عبد الرَّحمن وأبي خالد بِذَات المعلومة.

كان عليهم أن يُوسِّعوا دائرة البحث، وأنْ يَسألوا، ولعلَّ أحدًا يسألهم: ماذا كانوا يلبسون من ثياب ونعال؟

لقد خرج الأطفال حُفاةً، زاد ذلك فيهم ألَمَ فقْدِهم، واتَّسعت دائرة الوساوس في مخيَّلتهم، ولسان حال كلِّ واحد منهم يقول: ماذا حلَّ بهم في هذا الجوِّ القارس الشَّديد البرودة، وهم حفاةٌ، لا يرتدون إلا الخفيف من الثياب؟

كانت الشَّمس تظهر لدقائق، وتغيب تحجبها عنهم غيومٌ تَسير باتِّجاه الشَّرق.

في السَّاعة الثَّالثة لغيابهم وقد تعب الكبار من البحث، لم تَعُد تظهر أشعَّة الشمس، وبدا النَّهار وكأنَّه في المساء، زادت ظلاليَّة الظلمة الخفيفة في النهار مِن مأساتهم، وشعروا بالأسى يزداد، وبالقلوب تزداد اضطرابًا، إنَّها العاصفة آتية، فربَّما، ورُبَّما، وربَّما، ووسَّع لهم الشيطان آفاق السُّوء، وبلغت القلوب الحناجر.

لكنَّ ركب الصغار استمرَّ بالمسير، يقودهم النَّمر الصَّغير عبد الله، لا يُفْلِت منه أحد، خالد وعبد الرحمن يبكيان، بينما دمعة عبد الله في عينه تأبى أن تخرج أنَفَةً وعِزَّةً؛ فقد كان الصَّغير يظنُّ نفسه القائد، ومِن المَعِيب على القائد أن تدمع عيناه.

ساروا أكثر من عشرة كيلو مترات متواصلة، فدَمِيت أقدامهم وتورَّمت، وأجهشوا بالبكاء، إلاَّ عبدَ الله، كان مِن بينهم رابِطَ الجأش؛ فهو بأمْر الملمَّات ضليع، وإن كان الخوف والبرد قد لفَّهم جميعًا.

الساقية عن يمينهم والطريق عن يسارهم، إنَّه طريق دوليٌّ، لم يجرؤوا على قطعه. واستمرُّوا بالسير جنوبًا، ساروا خمس ساعات متواصلة قبل أن تفارقهم السَّاقية؛ لأنَّها تقطع الطريق الدوليَّة، وتتَّجه إلى الشمال. وأخيرًا وجدوا الجهة اليمنى من طريقهم لا ساقية فيها ولا ترعة.

استمرَّ الرَّكب الجائع من الأطفال بالسير جنوبًا، فلاَحَ لهم بناءٌ على جانب الطريق، عطف بهم عبد الله إلى ذلك البناء الَّذي كان عبارةً عن محطَّة للمحروقات، وَجدوا عمَّال المحطَّة، وعندما رأوهم تعالَتْ أصواتهم بالبكاء إلا عبد الله.

أدخلهم أحد عمَّال المحطَّة إلى غرفة؛ لِيَنعموا بالدِّفء الذي افتقدوه لساعات، كانت أرجلُهم متورِّمة مُدْماةً، وشفاههم زرقاء، وأذقانُهم تهتزُّ علوًّا وانحدارًا من شدَّة البرد:

- مِن أين أنتم؟ ماذا جاء بكم؟

كان الجواب البكاء.

- لا تخافوا يا أولاد، سنعيدكم إلى أهلكم، وَجد عامل المحطَّة أنَّ عبد الله الصغير لم يكن يَبكي، فتوجَّه إليه:

- من أين أنتم؟

- نحن من قرية الفرحانة.

- حسنًا، أعندكم هاتف في المنزل؟

- نعم.

- أتعرف رقمه؟

- لا، ولكنني أعرف رقم هاتف بيت عمِّي أبي عبد الرحمن.

لقَّن النَّمر الصغير عبدُ الله عامل المحطَّة رقم الهاتف رقمًا رقمًا، وعامل المحطَّة يضغط على الهاتف ليجري الاتصال.

شعر عامل المحطَّة أنَّ الثواني التي تفصل بين طلبه وبين أن يردَّ أحد على الهاتف دهْرٌ طويل، فعاش تلك الثواني قَلقًا، زاد من بكاء عبد الرحمن وخالد؛ فقد قرؤوا مَخاوِفَه وقلقَه في وجهه.

وأخيرًا رَفع أحدهم سمَّاعة الهاتف مجيبًا، فقال عامل المحطَّة: هنا بيت أبي عبد الرحمن؟

وما أنْ سمع كلمة (نعم) حتَّى أجهش الرجل بالبكاء، ثم استدرك:

- أأنتم من الفرحانة؟

- نعم يا أخي، ماذا تريد؟

- حسنًا، عندي أطفال ثلاثة يَبدو أنَّهم ضلُّوا الطريق، نحن محطَّة الأقصى للوقود، أتعرفونها؟

- نعم، جزاك الله خيرًا، كنا نبحث عنهم، نحن قادمون.

لم يمض من الوقت إلا نصف ساعة، حتى كان وفد قرية الفرحانة في محطَّة الوقود، ثلاث سيَّارات نَزَل منها ما يَربُو على عشرة رجال.

كان اللِّقاء ساحةً للدموع؛ فما أنْ وصل الأهل وشاهد الأطفالُ الثَّلاثة ذَوِيهم حتى انفرط عقْدُهم، وتوجَّهوا إلى آبائهم بالبكاء، ضمَّ الآباء أبناءهم، وبكوا بكاءً أفرح كلَّ مَن رآهم.

توجَّه أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن وأبو خالد إلى عامل المحطَّة:

- شكرًا لك أيُّها الطيِّب، مِنَّتك وجبَتْ علينا.

- إذا أردتم أن تشكروا أحدًا فاشكروا هذا النَّمر.

- مَن تعني؟

- هذا الصَّغير عبد الله، هو الذي يجب أن تشكروه؛ هو الذي أعطاني رقم الهاتف.

 

مصطفى شيخ مصطفى