عقيدة اليهود في المسيح المنتظر
اليهود في انتظار دائم لظهور المسيح (المسيا المنتظر) الذي حين يأتي تَطرح الأرض فطيرًا وملابس من الصوف، وقمحًا حَبُّه بقدر كلاوي الثيران الكبيرة، وفي ذلك الزمن تَرجِع السلطة لليهود، وكل الأمم تَخدم ذلك المسيح وتخضع له
اليهود في انتظار دائم لظهور المسيح (المسيا المنتظر) الذي حين يأتي تَطرح الأرض فطيرًا وملابس من الصوف، وقمحًا حَبُّه بقدر كلاوي الثيران الكبيرة، وفي ذلك الزمن تَرجِع السلطة لليهود، وكل الأمم تَخدم ذلك المسيح وتخضع له، وفي ذلك الوقت يكون لكل يهودي ألفان وثمانمائة عبد يخدمونه وثلاثمائة وعشرة تحت سلطته، لكن المسيح لا يأتي إلا بعد انقِضاء حكم الخارجين عن دين بني إسرائيل.
ويوم الغُفران هو اليوم الذي يُصلي فيه اليهود صلاة يَطلبون فيها الغفران عن خطاياهم التي فعلوها، والأيمان التي أدَّوها زورًا، والعهود التي تعهَّدوا بها ولم يوفوا، ومِن هنا سَهُل عليهم ارتكاب الخطايا، مهما بلَغ تَجاوزها ما دامت تعود عليهم أفرادًا وجماعات بما هو كسب لدُنياهم، إلى أن تقوم دولتهم أو دولة المسيح، فلا يَكونون في حاجة إلى الخطايا؛ لأن كل شيء يأخُذ طريقه لصالحِهم (اليهود تاريخ وعقيدة:[ص:151- 152])، بتصرف.
ولقد كان اليهود يَنتظِرون المسيح المُخلِّص الذي يُخلِّصهم من العبودية بعد تشتُّتهم، ويُعيد إليهم مُلكَهم الدنيوي، فلما ظهر (يسوع) أو (عيسى) في صورة (قديس) وحاول تخليصهم روحيًّا وخلُقيًّا مِن شُرورهم، ولم يظهَر في صورة ملك يُعيد إليهم سلطانهم الدُّنيوي، أنكروه واضطهدوه، وحتى الآن وهم يَنتظِرون المسيح المُخلِّص في صورة ملك مِن نَسلِ داود، يُخلِّصهم مِن الاستعباد والتشتُّت؛ ولهذا لم يؤمن أصحاب المصالح بالسيد المسيح عيسى ابن مريم حين ظُهورِه، على الرغم مِن انطِباق الصفات التي بشَّر بها الأنبياء مِن قبله عليه.
وظلَّت الكتابات اليهودية على حالِها تدعو إلى ظهور (المسيح المنتظر) حتى أيامنا هذه. فاليهود القاطنون في حي (مياشعاريم) بالقدس، يَعتبِرون دولة إسرائيل ثمرة (الغطرسة الآثمة)؛ لأنها قامت على يدِ نفر مِن الكافرين الذين حرَّفوا مشيئة الله بعلمهم، وتطاوَلوا على وعد الربِّ، بدلاً مِن انتظار المسيح الموعود، فالمسيح المُنتظَر هو وحده القادر على إقامة الدولة لتكون مملكة الكهنة والقديسين، واعتقاد سكان (مياشعاريم) هؤلاء، إنما انطلَقوا في مُعتقدهم هذا عن إيمان صادق، أوحاه الكُهَّان إليهم، وعمَّقوه في نفوسِهم، وغيرهم مِن اليهود يَلتقون معهم في المُعتقَد، وهو مجيء المسيح، الذي لم يأتِ بعدُ، وإن خالَفوهم في جزئية إقامة الدولة قبل مجيئه (المرجع السابق:[ص:165- 167]) بتصرف.
وفي كتاب (قصة الحضارة) لـ:ول ديورانت يتساءل مؤلف الكتاب: إن كان المسيح عليه السلام قد وجد حقًّا، ويُثير حول الأناجيل مختلف الشبهات ويُشكِّك في نسبه، وفي أنه ولد مِن عَذراء، ويُنكِر كل مُعجزاته، فينسبها جميعًا إلى الكذب والتلفيق، أو يردها إلى خداع الحواس والوهم، أو ما سماه العلاج النفسي، ويتناوَل شخص المسيح عليه السلام وكلماته وروايات الأناجيل بالسخرية (قصة الحضارة:[11: 202- 222])، بتصرف؛ نقلاً عن: (حصوننا مهدَّدة من داخلها، د. محمد محمد حسين:[ص:131- 132])، بتصرف، ط مؤسَّسة الرسالة، الثانية، 1401هـ - 1983م).
فما المسيح المنتظَر:
مسيا كلمة آرامية معناها مُنتظَر أو موعود، واليهود منذ بدأ شتاتهم في الأرض بالسبي البابلي حتى اليوم، وهم يَنتظرون مسيا (مسيحًا) يُخلِّصهم مما هم فيه مِن ذلٍّ واضطهاد، وحين جاء موسى بن ميمون، أدخل فكرة المسيح المنتظر في إطار العقائد اليهودية، وما يزال اليهود يَنتظِرون مسيحهم الموعود، ليتوَّج ملكًا على جميع العالم، ويَحكمه من عاصمة مملكته في يهوذا.
بقي خيال مسيا يُصاحب اليهود أينما حلوا، فقد تحدَّثت عنه البروتوكولات، ورأته خصمًا لعيسى ابن مريم، ورآه (شهود يهوه) كامنًا في الهيكل، أما أقطاب الصهيونية فقد رأوا أنفسهم نوابًا عنه، يُمهِّدون لقيام دولة له تستقبله، ورآه (هيرتزل) في منامه يقول: "أعلن، أعلن أني آتٍ قريبًا"، وأما (ابن غوريون) فإنه رآه درعًا يدفع عن اليهود المِحَن، وعلى كلٍّ، فاليهود يرون مسياهم المسيح الحقيقي، الذي سوف يظهَر على الأرض، يوم أن تَمتلئ الأرض جورًا وحروبًا، يُخلِّص الناس مِن أوضارهم وآثامهم، فيستأصل جميع الأديان، ما عدا الدين اليهودي، ويحل كل الحكومات، ما عدا مملكة يهوذا، وعندها يَستريح ربُّ الأرباب، رب إسرائيل بين خصومه، ويعمُّ العالم سلام، كما يقول التلمود، فيَنتهي بذلك بكاء رب الجنود وندمه وأنينه، لتفريطه في حق شعبه المختار، فتُمطِر السماء فطيرًا وملابس صوفية مخيطة، وهذه هي الدينونة الكبرى في عرف اليهود، ولا دينونة بعدها؛ فالقيامة عند اليهود هي قيام مملكة يهوذا، والبعث هو بعثها مِن رُقادها، والجنة هي التمتُّع برؤية رايتها مرفوعة، ورؤية أعدائها مهزومين، والاستحواذ على أموالهم وممتلكاتهم غنيمة لبني إسرائيل، والنار هي مناوئتها؛ فالدينونة الحقيقية في عرفهم إذًا إنما هي إدانة جميع شعوب الأرض، والانتقام منهم؛ لأنهم تسبَّبوا في شتات بني إسرائيل واضطهادهم وظلمهم (انظر بتوسُّع: القوى الخفية:[ص:119– 120])، و(الفكر الديني اليهودي- د. حسن ظاظا:[ص:98– 128])، ط. بيروت، الثانية، 1987م، و(الموسوعة النقدية للفلسفة اليهودية، د. عبدالمنعم الحنفي:[ص:224- 225])، ط. دار المسيرة، بيروت، ط أولى، 1980م.
وهذه جماعة (شهود يهوه) يتظاهَرون أنهم رسل سلام ومحبة، إلا أنهم يُنادون بأن (يهوه) سوف يدمِّر جميع حكومات هذا العالم الشرير، عندما يظهَر المَسيح المُنتظَر. وهم يدَّعون بأنهم قد ذاقوا المرَّ مِن الفاتيكان والنازية؛ ولهذا فإنهم يُنادون بتحويل فلسطين بكاملها إلى دولة يهودية، ويؤيدون الحركة الصهيونية التي تَسعى إلى ذلك تأييدًا سافرًا؛ (القوى الخفية:[ص:153- 154])، بتصرُّف.
وهذا الواقع خير دليل، فما يَحدُث الآن في فلسطين زاد مما قالوه وخطَّطوا له، وهذا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، يُهنِّئ رئيس وزراء إسرائيل على ما حقَّقوه في فلسطين، مِن قضاء على الإرهاب الفلسطيني، وقد رشَّحوه ليكون رجل السلام بعد أن قام بهذه المذابح -خاصة في جنين- التي لم يَسبِق لها مثيل في مذابحهم السابقة! ويرجع ذلك المعتقد بسبب عنصرية اليهود؛ حيث زعم اليهود أنهم أفضل الشعوب والأجناس، لنصوص توراتية عندهم تقول: "أنا الرب إلهكم الذي ميَّزكم عن الشعوب، تكونون لي قدِّيسين؛ لأني قدوس، أنا الرب وقد ميَّزتُكم من الشعوب لتكونوا لي. إنك يا إسرائيل شعب مقدس للربِّ إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبًا أخصَّ مِن جميع الشعوب الذين على وجه الأرض، ليس مِن كونكم أكثر من سائر الشعوب التصَقَ بكم الرب واختاركم، لا لأنكم أقل مِن سائر الشعوب، بل مِن محبة الرب إياكم، وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم".
وما السبب في كون اليهود شعبًا مختارًا؟
هناك عبارات اصطلاحية يذكرها اليهود للتعبير عن مصدر هذا الاختيار، وهي عبارات تدعو للسخرية والضحك؛ فالباحث (Arthur Hertzberg) يُقرِّر أنه في سيناء عندما تجلَّى الله لموسى ولبني إسرائيل، تمَّ زواج بين الله وبين إسرائيل، وسجل عقد الزواج بينهما، وكانت السموات والأرض شهودًا لهذا العقد. ويرى اليهود أن الامتياز الذي حصل عليه الشعب اليهودي هو في الوقت نفسه مسؤولية عليهم، وعدم رعايتهم هذه المسؤولية بأمانة وصدق جعلهم هدفًا للانتقام؛ ولذلك فإنهم يُفسِّرون ما نزل بهم مِن ضرٍّ بأنه عقاب لهم على عدم حملهم الأمانة، وعدم سَيْرِهم بمقتضى ما مُنحوه من امتياز وتفوُّق، ويُضيف مُفكِّروهم -دفاعًا عما أصابهم مِن ويلات- أن اليهود لم يكونوا أكثر الناس خطايا، ولا أبعدهم عن الصواب، ولكن المصائب لحقت بهم أكثر من غيرهم؛ لأن اختيارهم وتفضيلهم على سواهم، كان يحكم عليهم أن يكونوا أكثر طاعة وأكثر استجابة، فلما عَصوا كان عقابهم أقسى مما نزَل بسواهم على نفس العصيان.
والصراع الذي وقع بين اليهودية والنازية إنما هو صراع عنصري، منشؤه أن الصهيونية والنازية تَشترِكان في ادِّعاء السيادة والامتياز على البشر؛ فالنازية أُسِّست على أن الألمان عنصر ممتاز نقيٌّ يسمو على كل عناصر البشر، وليس هناك مَن يُضاهيه رفعة وسموًّا، ولما كانت هذه المبادئ نفسها هي مبادئ اليهود، فإن صِدامًا ضخمًا حدث بين الطائفتين؛ لأن كلاًّ منهما يدعي أنه أفضل مِن الآخَر، وفي مكان السيادة بالنسبة له.
ونتج مِن طبيعة الاختيار عقيدة أخرى عند اليهود، هي عقيدة المسيح المُنتظَر، فهذه جذوره الفِكريَّة، فإن اليهود وجدوا أنفسهم لا خيرة البشر كما زعموا، ولا صفوة الخَلقِ كما أملوا، بل لم يجدوا أنفسهم في نفس المكانة التي يَنعم بها الآخرون، وإنما كانوا هدفًا للبلايا والنكبات، ومِن هنا اتَّجه مُفكِّروهم في عصورهم المتأخرة إلى مُخلِّص ومنقذ ينتشلهم من هذه الوهدة، ويضعهم في المكانة التي أرادوها، وأطلقوا على هذا المُخلِّص (المسيح المنتظر)، ووصفوه بأنه رسول السماء، والقائد الذي سيَنال الشعب المختار بهديه وإرشاده ما يستحقُّ من سيادة وسؤدد.
وكلمة (المسيح) معناها الممسوح بزيت البركة؛ لأنهم كانوا يَمسحون به الملوك والأنبياء والكهَنة والبطارقة، وكانوا في مبدأ الأمر يرون المسيح ملكًا فاتحًا مُظَفَّرًا مِن نسلِ داود، يُسمونه (ابن الله) ويعتقدون أنه سيجيء ليُعيد مجد إسرائيل، ويجمع أشتات اليهود بفلسطين، ويجعل أحكام التوراة نافذة المفعول، ولكنهم أحيانًا أطلقوا كلمة المسيح على مَن يُعاقب أعداءهم، وإن لم يكن من نسل داود، كما أطلقَها (أشعيا) على (قورش)، ولما طال انتظارهم للمسيح الفاتح الغازي، ولم يَجئ فكَّروا أحيانًا بأن يجيء المسيح مُصلِحًا اجتماعيًّا عادلاً وديعًا. ولا يستبعد أن يكون (مسيا) الذي هو المسيح يُمثِّل المنقذ الذي هتف به اليهود كلما ألمت بهم النوائب، وطالما ألمَّت بهم هذه النوائب، وبالغ اليهود في رسم الصورة التي أرادوها للمسيح الذي كانوا ينتظرونه، فذكروا أن الناس في ظله لن يعيشوا وحدهم في العالم في سلام وسعادة، بل يشاركهم في ذلك كل أنواع الحيوانات، فالذئب يُسالم الحمل، والعجل يُداعِب الأسد!
ويُهيَّأ الرأي العام اليهودي لهذا المسيح، وكان توقُّعه يتجدَّد كلما نزلت باليهود البلايا والمِحَن، وظهر عيسى ابن مريم وأعلن أنه المسيح الذي يَنتظِره اليهود، ولكن أكثرية اليهود رفضوا هذا الادِّعاء، وقاوموا دعوة عيسى، وألقوا القبض عليه، وحكموا عليه بالإعدام، ومرت فترة طويلة دون أن يجيء المسيح الذي ينتظره اليهود، وانتهز بعض اليهود فرصة هذا الترقُّب، فادعى كل منهم أنه المسيح، وسجل التاريخ أخبارًا لمسيح كاذب من حين إلى حين، حفظ التاريخ منهم أبا عيسى بأصفهان، وسبتاي زيفي في سالونيك، هذا ولا يزال اليهود حتى الآن ينتظرون المسيح.
عمر بن عبد العزيز القرشي
أستاذ دكتور بكلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر
- التصنيف:
- المصدر: