جناح الذل
إيهٍ! يا عمرو بن ميمون، اضطجعت في جدول الماء فوق الطين ووالدك يدوسك بقدميه ليعبر الجدول، أكنت يا عمرو بن ميمون أحد أنواع البلاغة البشرية التي يتحدث عنها قول الله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}؟
الحمد لله وبعد،
كثيرة هي العبارات التي تمر بالمرء في حياته قراءةً أو سماعًا، بعضها يفقده الذهن ويتشرد من الذاكرة فور مروره عليها، بعض الكلمات كأنها زائر دخل بالخطأ واعتذر أنه يريد السلام ويمضي فقط، وبعض الكلمات تحفر حروفها في الذهن، بل لربما مضى الزمن وقد ترعرعت حولها ذرية من العبارات المتولدة عنها. هل للعبارات تاريخ صلاحية؟ أم أن أذهاننا كولونيالية، تؤوي وتقمع تطرد، دون قوانين واضحة؟ وثمة كلمة في كتاب الله مرت بي ولأول وهلة سمعتها وهي تحمل سؤالًا في نفسها، وهي استعارة قرآنية خلبت اهتمامي، ومكثت أفكر فيها زمنًا، ما مراد الله سبحانه بهذا التركيب؟ وماذا أراد الله أن يوحي من المعاني من جزء العبارة الأول لجزء العبارة الثاني؟ هذه الاستعارة القرآنية هي التي اخترت أن تكون عنوان هذه الرسالة التي أكتبها إليك، وهي قول الله {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء من الآية:24].
نحن نعرف أن الجناح جزء حسي في الطيور ركّبه الله فيها تخفق به وتتنقل، ونرفع رؤوسنا في ميادين السماء فنرى هذه الطيور تميل بأجنحتها، فتنشرها وتصفق بها، بل هذه الصورة ذاتها ذكرها القرآن في موضع آخر{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك من الآية:19]، فوصف الله في هذه الآية أجنحة الطير وهي فوقنا في السماء إذ تبسط أجنحتها تارة فتصفّها، وإذا تضرب بأجنحتها جنوبها تارةً أخرى فتقبضها، ويدلك على عظمة هذا المشهد من مشاهد حركة أجنحة الطير أن الله ذكره أيضًا في موضع آخر من القرآن فقال الله {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور من الآية:41]، وأشار الله لهذا المشهد بصورة مجملة في موضع آخر فقال سبحانه {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} [النحل من الآية:79].
حسنًا، هذا مشهد من مشاهد جناح الطير في كتاب الله، وهو لا يخفى على القارئ، لكن السؤال الذي كان يقرع ذهني بصورة مستمرة هو السؤال التالي، لماذا أضاف الله هذا الجناح الحسي المعروف، إلى الذل الذي هو سلوك أخلاقي وجزء منه شعور معنوي؟ ما مغزى هذه الاستعارة؟ وماذا يريد الله سبحانه بهذا التركيب اللغوي؟ ولنجعل التساؤل أكثر تحديدًا، ما هي الدلالة المتطلب إيحاؤها من لفظ الجناح بما يخدم مفهوم الذل؟
هذا السؤال تأملته كثيرًا، ومازالت تتكشّف لي فيه دلالات فسيحة الأرجاء، ثم لما تتبعت تأملات البلاغيين والمفسرين في هذه الاستعارة القرآنية استحوذت علي الدهشة من تفاوتهم في استكشاف العلاقة بين الجناح والذل، ورأيتهم داروا حول أربع علاقات.
ومن أول من رأيته من أهل العلم طرح تحليلًا لمكونات هذه الاستعارة وتفسير العلاقة بين الجناح والذل هو العلامة القفال الشاشي الكبير (ت365هـ)، والقفال الشاشي رحمه الله طرح وجهين للعلاقة بين الجناح والذل:
فأما الوجه الأول، فهو أنه لما كان الطائر ينشر جناحه ويرفعه إذا أراد التحليق والصعود، ويخفض جناحه إذا أراد الهبوط والنزول، فناسب أن يصوّر التذلل للوالدين بأنه كأنه خفض جناح من الطأطأة والخضوع.
وأما الوجه الثاني، فجوهره أن الطائر يحنو على فراخه فيلفّهم بجناحه ويسبله عليهم تعطّفًا وشفقة، فناسب أن يصوّر التذلل للوالدين والرحمة بهم كأنه خفض جناح الطائر على فراخه، كما يقول القفال: "في تقريره وجهان: الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية، فكأنه قال للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك. والثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه؛ فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه" (تفسير الرازي:20/192، تفسير أبي حيان:6/25، تفسير ابن عادل:12/259).
هذان هما الوجهان اللذان طرحهما القفّال الشاشي رحمه الله في تفسيره، إلا أن تفسيره هذا مفقود، ولم يقع بأيدينا، ردّه الله على أمة محمد، ونحن ننقل عنه هذه المعلومة السابقة بالواسطة، من خلال ما يقتبسه المفسرون عنه.
وكثيرًا ما يمر بالقارئ في كتب التفسير قولهم: "قال القفال"، وهذا الذي يرد في كتب التفسير هو القفال الشاشي الكبير، وأما إذا قيل "قال القفال" في كتب الفقه الشافعي الوسيط كالنهاية والوسيط والمهذب ونحوها فالمقصود به القفال المروزي الصغير (ت417هـ)، وهو نجم الطريقة الخراسانية في الفقه الشافعي، وكلاهما شافعيان، وكلاهما يكنى أبو بكر، ومن هنا ينشأ الخلط بينهما، ونبّه على هذا الفرق بين القفّالَيْن أبو زكريا النووي رحمه الله (تهذيب الأسماء للنووي:442). وقد رأيت أطروحات أكاديمية في جمع تفسير القفال الشاشي الكبير من خلال النقولات المتناثرة عنه في كتب التفسير.
وفي القرن السابع رأيت الأديب ضياء الدين ابن الأثير (ت637هـ) يطرح تحليلًا ثالثًا للعلاقة بين الجناح والذل، ففي كتابه (المثل السائر) اعتبر أن الطائر إذا أدركه الإعياء والوهن خفض جناحه، فصوّر التذلل للوالدين بهذه الصورة، كما يقول ابن الأثير: "فإن الجناح للذل مناسب، وذاك أن الطائر إذا وهن أو تعب بسط جناحه، وخفضه وألقى نفسه على الأرض" (المثل السائر[2/153]). وبصراحة فإن هذا الكتاب لابن الأثير ثري بتحليلات تطبيقية بلغة في غاية العذوبة لكيفية صناعة الجمال البياني.
وأما العالم المتفنن الشهاب الخفاجي (ت1069هـ) فقد أشار إلى وجه رابع، وهو أنه لما كان الطائر يحلق ويطير شامخًا، فإذا فاجأه الجارح والبازي شلّه الذعر وأعياه الطيران ولصق بالأرض وخفض جناحيه كالمطرق الذليل، فناسب أن يصوّر التذلل للوالدين كأنه خفض جناح الطائر المستسلم المطرق، كما يقول الشهاب: "وأيضًا، هو إذا رأى جارًحا يخافه لصق بالأرض، وألصق جناحيه، وهي غاية خوفه وتذللـه" (حاشية الشهاب [6/24]).
هذه أربع استكشافات لمغزى الاستعارة القرآنية {جَنَاحَ الذُّلِّ}، ذكر اثنتين منها القفال الشاشي وذكر الأخريين الضياء ابن الأثير والشهاب الخفاجي، وثلاثتهم في علوم العربية بمنزلة الغُرر والحجول.
وحينما اطلعت أول مرة على هذه التحليلات الأربع لوجه الصلة بين الجناح والذل في هذه الاستعارة القرآنية مكثت زمنًا تداهمني المقارنة بينها كلما ارتطمت بموقف تسح فيه الكهولة عبراتها على موقف عقوق. حينما أرى شابًا عليه سيماء الاستقامة لكنه يجادل والده بمنطق الند ويستظهر عليه الحجة تحاصرني مجددًا هذه الوجوه الأربعة في هذه الاستعارة القرآنية، حتى ربما خرجت من عالم الموقف المحيط بي وسرحت في عالم التأملات، وأبقى أردد في ذهني، هل هذا خفض جناح الذل كما يخفض الطير جناحه للهبوط؟ هل هذا خفض جناح الذل كما يسبل الطير جناحه لفراخه حنوًا عليهم؟ أهذا خفض الجناح كما يخفض الطير جناحه من الوهن؟ هل هذا الإطراق الذي يريده الله أمام الوالدين كما يطرق الطير استسلامًا أمام البازي؟ وهكذا أعيد قراءة المشهد على ضوء كل التحليلات البلاغية التي طالعتها لآية {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}.
هل كنت أتفطّر من الفارق بين البر الشاهق في الآية وبين منحدرات العقوق في حياتنا الاجتماعية؟ أم تراني كنت أقارن بين هذه التحليلات أبحث عن الراجح منها على ضوء الواقع؟ أم تراني كنت أبحث عن أكبر قدر من التحليلات البيانية تجوب أقصى ما يمكن من الجغرافيا الدلالية لهذه الاستعارة التي خلبت اهتمامي؟
لم يقف إبهار هذه الآية لي عند هذا الأفق، بل تكشّفت لي فيها أفلاك معنوية جديدة أيضًا، فقد ذكر أصحاب علم القراءات أن كلمة الذل في هذه الآية أنزلها الله بقراءتين بضم الذال {الذُّل}، وهي القراءة المشهورة التي نقرأ بها، ولكن ثمة قراءة أخرى لعلها أشد دلالة على التذلل منها وهي قراءة كسر الذال {الذِّل}، وما الفرق بينهما؟
يقول ابو الفتح ابن جني أثناء توجيهه القراءتين: "ومن ذلك قراءة ابن عباس وعروة بن الزبير في جماعة غيرهما { {جَنَاحَ الذِّل}"، قال أبو الفتح: "{الذِّل} في الدابة ضد الصعوبة، والذُّل للإنسان وهو ضد العز، وكأنهم اختاروا للفصل بينهما الضمة للإنسان والكسرة للدابة" (المحتسب لابن جني:2/18).
فانظر بالله عليك في هذه القراءة الأخرى التي بالكسر كيف أراد الله فيها أن نكون في التذلل للوالدين كما تكون الدابة ذليلة منقادة مستكينة مطاوعة لراعيها! فإذا ضممت الإيحاءات البلاغية لكلمة (خفض الجناح) وأضفتها لـ(الذِّل) بالكسر الذي يكون للدابة، انفتحت لمتدبر القرآن أقصى ما يمكن من معاني الإذعان، وأن يكون الابن هش العنان لأبويه.
ولست في حاجة للتذكير، أن الاتجاه من أهل العلم الذي ينكر المجاز له مسار مختلف في قراءة هذا التركيب وأنهم يحملون الجناح على الحقيقة، ولهم كلام خاص في خصوص هذه الآية (انظر: فتاوى ابن تيمية:20/465، مختصر الصواعق لابن القيم:242، منع جواز المجاز للشنقيطي:30).
كنت مرةً أراجع بعض مسائل فقه الحسبة، وأحكام النهي عن المنكر، ووجدت بعض أهل العلم استشكل مسألة وقوع الأب في المنكر، وهل ينكر عليه ابنه؟ ومنشأ الإشكال أن النفوس تشعر بأن من ينهاها عن المنكر أنه إنما يخاطبها بفوقية، فالإمام أحمد نقل عنه ابن مفلح في (الآداب الشرعية) في الفصل المعقود لهذه المسألة أنه قال: "ليس الأب كالأجنبي"، والغزالي في كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من الإحياء قسّم الحسبة لخمس مراتب، وجعل اثنتان منها تليق من الإبن للوالد وهما مرتبة التعريف ومرتبة الوعظ اللطيف، والبقية لا تليق، وذكر السنامي الحنفي (ت743هـ) في كتابه (نصاب الاحتساب) اعتبارات أخرى.
مررت بهذه المعالجات، وكنت أتأمل الراجح فيها، ولكنني بكل صراحة لم أستطع أن تجاوز عبارةً لإمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، حيث علّق على هذه المسألة تعليقًا بديعًا لم ينسَ فيه تلك الاستعارة التي أذهلتني، يقول القرافي: "المسألة الأولى، أن الوالدين يُأمران بالمعروف ويُنهيان عن المنكر، قال مالك: "ويخفض لهما في ذلك جناح الذل من الرحمة"، (الفروق للقرافي ف:270).
حين قرأت تعقيب الإمام مالك في هذا الجواب، شعرت أنه أجاب بمشروعية النهي عن المنكر إذا وقع فيه الأب، لكن الإمام مالك تذكر هذه الآية العظيمة، ولم تغب عن ذهنه هذه الاستعارة التي تضمنتها والتي تهز قلب المؤمن، فعقّب فورًا بتهذيب أسلوب الإنكار، وقال: "ويخفض لهما في ذلك جناح الذل"، بل سأكاشف القارئ أنني حين قرأت تعقيب الإمام مالك هذا قلت في نفسي، هل يا ترى كان مالك يفكر كثيرًا في هذه الاستعارة القرآنية؟ هل كان مندهشًا من جلالة جماليات البر فيها؟
بل إنني كنت أقنع نفسي وأقول مؤكد أن الإمام مالك ما استحضر هذه الاستعارة البلاغية القرآنية في ثنايا نقاش فقهي دقيق، إلا أنه كان مبهورًا بإيحاءاتها الدلالية، لا بد أن مالك كان يتساءل عن مغزى العلاقة بين خفض الجناح والذل، وهكذا كنت أبحث عن شرعية تفكير.
ولا يقتصر استحضار السلف لنصوص التذلل للأبوين في ثنايا الفتاوى الفقهية، بل إن أئمة السلف كان يدققون في سلوكيات البر بسمو استثنائي. في واحدة من أعجب القصص التي مرت بي أن التابعي الجليل ميمون بن مهران الذي روى عن أبي هريرة وعائشة وغيرهم، رزقه الله بابن عالم، وهو الحافظ عمرو بن ميمون بن مهران (ت145هـ)، وهو من رجال الصحيحين، وكان هذا الابن بارًا بأبيه، وقد جاء في ترجمته، قال الحلبي: "حدثني عمرو بن ميمون بن مهران، قال: خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة، فمررت بجدول، فلم يستطع الشيخ يتخطاه، فاضطجعت له، فمر على ظهري" (تاريخ دمشق لابن عساكر:61/352). فانظر إلى هذه الصورة الرفيعة من خفض جناح الذل، فحين جاء الأب الذي أرعدت السنون مشيته فما عاد يقوى أن يعبر جدول ماء، تحول الابن إلى جسر يغمر نفسه في الطمي كي يخطو والده فوقه بقدميه.
يا الله! عليك رحمات ربي يا عمرو بن ميمون، أكنت محظوظًا أن لم تر شابًا يستكثر أن يدفع عربة والده المُقعد تحت سياط الظهيرة أمام مبنى الجوازات؟!
يا شيخنا عمرو بن ميمون، أكانت فطرتك ندية فلم يعكرها خبر شاب يستثقل مرافقة والده في مستشفى، ينظر لوالده المغطى نصفه والمكشوف نصفه الآخر لأنابيب الحياة، ويسارق النظر لرسائل أصحابه في الجوال تستحثه للنزهة وتراوده بصور ربيعية، فيتكلف الأعذار ليركب الريح مع أصحابه في مسامرات الضياع؟!
إيهٍ! يا عمرو بن ميمون، اضطجعت في جدول الماء فوق الطين ووالدك يدوسك بقدميه ليعبر الجدول، أكنت يا عمرو بن ميمون أحد أنواع البلاغة البشرية التي يتحدث عنها قول الله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}؟
ومن أغبى الأوهام المنتشرة اليوم توهم أن بر الوالدين مربوط بكمية الخدمات الحسية المادية، واحرقتاه من هذا الوهم، يبدو أن عصر الماديات لا ينتج إلا تصورات مادية! لا بر الوالدين ليس مقصورًا على الخدمات المادية، بر الوالدين هو خفض جناح الذل لهما قبل كل شيء، البر المعنوي يفوق قيمة البر المادي بقدر ما تفوق الوجاهة قيمة الخبزة، ألا ترى الرجل الحر يتضور جوعًا وينشلّ لسانه قبل أن يكتب معروض استجداء؟! ألا ترى الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها، إنها القيم المعنوية التي قال عنها دنقل يومًا: "هي أشياء لا تشترى"، هذه النفحات المعنوية ليست إلا بعض أنفاس بيانية من دلالات {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}.
الإمام الحافظ عبد الله بن عون (ت151هـ)، من كبار أتباع التابعين، فقد أدرك طبقة من تأخرت وفاتهم من الصحابة لكن لم يسمع منهم، وهو إمام أهل البصرة في زمانه، وشيخ الأئمة المشاهير الكبار كشعبة بن الحجاج وعبد الله بن المبارك. وبالنسبة لي فمن أكثر المواضع التي كانت تبهرني في منزلة ابن عون، أن الإمام مسلم في مقدمته الشهيرة لصحيحه لما ذكر أئمة السلف ممن يستعمل الأخبار، ويتفقد صحة الأسانيد وسقمها، ثم أراد التمثيل لذلك، ذكر ستة نماذج من أئمة الحديث، كان أحدهم ابن عون! ومن له صلة بعلوم السنة يدرك دلالات هذا التمثيل.
والمراد أن الحافظ عبد الله بن عون هذا ممن امتزج بروحه دلالات قول الله {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}، ووقف على دقائق تجليات هذه الآية بحساسية شريفة، حيث لاحظ رحمه الله أن مما يدخل في خفض جناح الذل للوالدين مراعاة مستوى الصوت!
وهذه هي القيم المعنوية الراقية لمعنى بر الوالدين حقًا، فقد جاء في ترجمته رحمه الله عن عبد الله بن عون: "أنه نادته أمه فأجابها، فعلا صوتُه صوتَها؛ فأعتق رقبتين" (الحلية لأبي نعيم:2/318). لعلك تتذكر الآن أن الله في كتابه جعل عتق الرقبة من الكفارات في المناهي العظيمة، كقتل الخطأ والظّهار والوطء في نهار رمضان ونحوها، فانظر كيف لما صار صوت ابن عون أعلى من صوت أمه، وهو إنما رفع صوته ليستجيب لندائها فقط، ولم يكن رفع صوته جدالًا أو معارضةً، ومع ذلك حاسب هذا الإمام العظيم نفسه، وكفّر عن أمرٍ لا يعده أكثر الناس إلا سلوكًا طبيعيًا، ومع ذلك كله أعتق هذا الإمام رقبتين تكفيرًا عن هذا العمل!
واغوثاه! من شابٍ يصرخ من غرفته في الدور الثاني على والدته مستبطئًا غداءه! ويتذرع بأنه مرهق ومتعب "وما هو مروِّق"! كيف لا تتفطر الأكباد من شابٍ يتفنن في قرع أبواق سيارته يستعجل والدته الخروج من المنزل ليذهب بها لمشوار طلبته! وترى الوالدة المسكينة تتقافز تجمع أغراضها مشوشة الذهن تحت ضغط منبهات سيارته! وابن عون يعتق رقبتين لأن صوته أرفع من صوتها وهو يستجيب لندائها! أي فارق فلكي بيننا وبين القوم؟!
وجاء هذا المعنى أيضًا عن التابعي الجليل محمد بن سيرين (ت110هـ)، حيث كان يطبق مفهوم خفض جناح الذل في مخاطبة والدته، فكان "إذا كلم أمه كلمها كالمصغي إليها بالشيء" و"إذا كان عند أمه، ورآه رجل لا يعرفه، ظن أن به مرضًا من خفضه كلامه عندها" (تاريخ دمشق لابن عساكر:53/216-217).
ومن تجليات خفض جناح الذل، كمال الأدب في طريقة النظر للوالدين، وخضوع العيون للعيون، وهذا من عيون تفسيرات السلف لهذه الاستعارة القرآنية، فقد روي عن عطاء وعروة من ضمن تفسيرهم لهذه الآية أنهما قالا: "ولا تحدّ بصرك إليهما، إجلالًا وتعظيمًا" (خرّجه ابن أبي حاتم وغيره عنهما). وجاء هذا المعنى عن عائشة مرفوًعا: "ما بر أباه من حدّ إليه الطرف" لكنه معلول بصالح بن موسى.
وقد أشار المناوي إشارة بديعة لهذا المستوى من بر الوالدين بنمط نظر العيون للعيون، إذ يقول المناوي في فيض القدير: "العقوق كما يكون بالقول والفعل؛ يكون بمجرد اللّحظ المُشعِر بالغضب" (فيض القدير للمناوي:5/551). وهو داخل في عموم آية خفض جناح الذل، لأن النظر شزرًا ليس إلا دخانًا خارجيًا للهيب استعلاء يمور في الباطن. أي مسافة تربطنا بقوم يدققون في مجرد الخشونة البصرية للوالدين، وفينا من يتفنن في مقطوعات التذمر لوالدته لأنه فتح دولابه ولم يجد ملابسه قد غسلت وكويت في التوقيت المطلوب!
وهذه المشاهد المبهرة لأئمة السلف في فهم دقائق الآفاق الدلالية لخفض جناح الذل مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بعمق علم السلف بمنازل العبادات التي يحبّها الله، وقد كان للإمام التابعي الجليل محمد بن المنكدر شقيقٌ اسمه عمر بن المنكدر، ومحمد اشتهر بالعلم والرواية فقد روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وغيرهم، بينما اشتهر عمر بالعبادة والتنسك وغلبت عليه، وروى الإمام ابن سعد في طبقاته بإسناده قال: "قال محمد بن المنكدر: بات عمر يصلي، وبت أغْمِزُ رجلي أمي، وما أحب أن ليلتي بليلته" (طبقات ابن سعد [5/358]).
هذا هو الفقه الدقيق في مراتب الأعمال، فقد بقي الإمام ابن المنكدر عامة ليله يدلّك رجلي أمه، ويخفف إعياءها، ويطيب خاطرها، ويؤانس وحدتها، ويتقرب إلى الله بذلك، وأخوه عمر صافٌ قدميه بين يدي الله يصلي الليل، ومع ذلك ما ترك محمد ابن المنكدر رجلي أمه بل صرح أنه يعتقد أن بر الوالدين أجل في ميزان الله من التهجد.
ولنكن صرحاء مع أنفسنا ونعترف أن هذه المقارنة بين عمل محمد وعمر ابني المنكدر هي مجرد مقارنة تاريخية لا صلة لنا بها، أنا أخجل أصلًا من أن أطرح هذه المقارنة باعتبارها مرتبطة بواقعنا، فهؤلاء يتنافسون بين إحياء الليل في التهجد أم إحياء الليل في بر الوالدين، وكلاهما بالنسبة لنا اليوم خارج النمط المألوف في حياتنا الإجتماعية أصلًا إلا من رحم الله!
وتمر بالمرء قرارات كثيرة في حياته، في حياته العلمية والعملية، تحديد تخصص دراسي، قبول عرض وظيفي، شراء مسكن أو مركب، الخ.. وقد يكون أحد الوالدين رافضًا للقرار، فيشعر الابن أن أباه أو أمه ليس لهما اطلاع كافٍ يخولهما فهم الأمر ورفضه، فيدير مقود شأنه باتجاه ما قرر ولا يفكر في استرضاء والديه أولًا، وغالب هذه القرارات يُنزع منها البركة، والعاقل الحصيف هو الذي يسترضي والديه قبل أن يقدم، فإن لم يرضيا فمن يتق الله يجعل له مخرجًا، ولا أقبح من الاستخفاف باسترضاء الوالدين، والشعور أنهما لا يدركان ما يدرك الابن.
وإذا تداول الناس مسألة أثر التقوى على العلم، فإنهم يذكرون عبارة الإمام أحمد الشهيرة التي رواها المروذي أن أحمد قال: "عبد الوهاب الوراق رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحق"، وعبد الوهاب هذا له ابن اسمه الحسن، وهو أحد المقرئين من تلاميذ الدوري، وكان ابنًا بارًا، وحدث له مع أبيه قصة، يحدّث الحسن عن نفسه قائلًا: "كنت قد اعتزمت إلى الخروج إلى "سر من رأى" في أيام المتوكل، فبلغه -أي أباه- ذلك، فقال لي: "يا حسن ما هذا الذي بلغني عنك؟"، فقلت: "يا أبت، ما أريد بذلك إلا التجارة"، فقال لي: "إنك إن خرجت لم أكلمك أبدًا"، قال: "فلم أخرج وأطعتُه، فجلست، فرزقني الله بعد ذلك، فأكثرَ وله الحمد" (تاريخ بغداد للخطيب:12/284).
فانظر كيف أثمر خفض جناح الذل للوالدين في قرار تجاري البركة في الرزق، فوجد في طاعة والده بركة في ماله، كان سيفقدها لو شمخ برأيه الشخصي، إظهار الاحترام لرأي الأبوين، وإجلالهما، وإظهار الاستفادة من خبرتهما، والصدور عن توجيههما، هي جنة البر التي من لم يدخلها لن يعرف ماذا تعني هذه الاستعارة القرآنية {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}.
وكم ترى في الشبّان من يسعى لإظهار جهل والديه وأنهما لا يفهمان الجيل الجديد، بل ربما رأيت الشاب يستعرض بمصطلحات شبابية كالمستعلي على والده أنه لا يفهمها، وكم ترى في الفتيات من إذا دخلت المرحلة الثانوية والجامعة صارت تلمز ذوق والدتها، وتظهر لها أن فلانة من قريباتها أحسن ذوقًا منها، تظن أن هذه مجرد تقييمات عابرة، ولا تعرف جرح الكبرياء الذي تغرزه في خاصرة والدتها بلا مبالاة! أبعد كل هذه السنوات التي طافت بها والدتك الأسواق لتجعلك شامة في عيون قريناتك، تأتين اليوم وترمين العبارات اللاذعة عن ذوق والدتك؟!
وبرغم كل هذه الصور البائسة اليوم في عدم التفطن لدقائق قول الله {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}، فما زال في الأمة خير ولله والحمد، ومازالت صور من البر يتناقلها الناس اليوم سُرُجًا يستضاء بها في سماء المادية الكالحة في هذا العصر.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
أبو عمر
جمادى الثانية 1435هـ
إبراهيم السكران
بكالوريوس شريعة- ماجستير سياسة شرعية-جامعة الإمام- ماجستير قانون تجاري دولي-جامعة إسكس-بريطانيا.