اللحظات الأخيرة
يا ويلي! أنا بحاجة الى بضع ساعات فقط لأصلح ما أفسدت، وأتوب مما جنيت، {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون من الآية:100]، أحتاج ساعات قليلة أرجع فيها أبنائي الى البيت وأجمعهم بأمهم ووالدي وأحضنهم جميعًا وأقبلهم وأعطيهم ما يكفيهم.
تخيل أنك خرجت من بيتك للعمل في يومٍ جميل ودَّعتَ فيه أهلك، وأوصلت أطفالك فيه للمدارس، وذكرتهم بموعد ومكان أخذهم بعد نهاية الدوام، ثم ذهبت الى مكان عملك لتبدأ يومًا جديدًا، الموظفون من حولك والمراجعون يتغيرون والأصوات في كل مكان، وأنت تنجز مهماتك، فجأة! أحسست بألم شديد في صدرك!!، وضعت يدك على صدرك من شدة الألم، الأصوات من حولك بدأت تخفت، نظرت لمن حولك هل يشعرك بك أحد؟! الكل مشغول بنفسه وبعمله، بين وجوه ضاحكة وأخرى جادة، وبين من يكتب أو يقرأ أو يتكلم، الألم في الصدر يزداد، وضربات القلب ضعفت وتناقصت، والنفس بدأ يصعب..
هل أنادي أحدًا وأصرخ أم أنتظر لعل الألم يزول؟؟ لا تدري ماذا تفعل، حينها بدأت تتذكر أبناءك الصغار، طفلك الذي قبلك قبل نزوله من السيارة وهو يقول: "بابا لا تتأخر علي اليوم"، وابنتك التي قالت لك قبل نزولها: "أبي أنت وعدتني أن تشتري لي هديتي اليوم لا تنس وعدك لي"، وابنك الذي قلت له قبل نزوله للمدرسة: "يا بني انتبه لدروسك واحذر من أصحاب السوء"، فرد عليك: "حاضر يا أبي".
تذكرت والنفس يزداد صعوبة، وضربات قلبك بدأت تعدها، والعرق من جسمك يتصبب، ولا تسمع صوتًا من حولك إلا ضربات قلبك وحشرجة صدرك، تذكرت زوجتك التي وعدتك عند باب البيت وهي تسألك: "ماذا تريد على الغداء اليوم؟"، وأجبتها: "أي شيء من يدك لذيذ"، ثم قبلتها وخرجت، ما أحلى ابتسامتها!
تذكرت في تلك اللحظة وقواك تنهار، وجسمك يبدأ بالسقوط، تذكرت أمك الحنونة وأباك الشيخ الكبير، لا أحد لهما في الدنيا غيرك، تذكرت إخوانك وأخواتك، تذكرت أصحابك الذين أحبوك.
تذكرت في تلك اللحظات العصيبة صلواتك التي فرطت فيها، وكيف كنت تؤديها، بعض الأموال التي لم ترجعها لأصحابها، ظهر أمامك وجه عامل لم تره منذ سنوات طوال!، من هذا أنا أذكره إنه عامل منعته جزءًا من حقه وغاب عني من سنوات طوال!!، كيف ظهر لي الآن فجأة!
يا ويلي! أنا بحاجة الى بضع ساعات فقط لأصلح ما أفسدت، وأتوب مما جنيت، {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون من الآية:100]، أحتاج ساعات قليلة أرجع فيها أبنائي الى البيت وأجمعهم بأمهم ووالدي وأحضنهم جميعًا وأقبلهم وأعطيهم ما يكفيهم ولكن {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ من الآية:54]، في هذه اللحظات بدأ النور يخفت، والألم صار كخنجر داخل صدره يقطعه، والعينان جحظتان، وضربات القلب بالكاد تحصل، ولسانه لا يساعده على الحديث فعلم {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28]، فكان آخر شيء يفعله قبل السقوط الأخير هو (الصراخ)، ثم لا شيء بعده!!، نعم لا شيء!، هذا آخر عمل يعمله، وهذه آخر لحظاته، وهذه خاتمته!!
أيظن الواحد منا أنه بعيد عن هذه اللحظات؟! قد تكون في العمل، أو الملعب، أو السيارة، أو في بيته، أو مدرسته، وقد تكون في حال استيقاظه أو نومه، في ذكره أو غفلته {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ . أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ . أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97-99].
كل يوم نقرأ أسماء الوفيات وأعمارهم المختلفة، وقريبًا سيأتي اليوم الذي يقرأ الناس فيه اسمنا، قد تكون جرائد الغد أو التي بعدها، فهل استعد الواحد منا لذلك اليوم؟! وهل تجهز لهذه اللحظات التي تأتي بغتة وبغير مقدمات؟!، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
نبيل بن علي العوضي
داعية مشارك في إدارة الوعظ والثقافة في وزارة الأوقاف الكويتية
- التصنيف:
- المصدر: