حركة العصر الجديد (3)

منذ 2014-05-15

المبحث الأول: نشأة الحركة وجذورها التاريخية

الجذور الفلسفية للحركة: تعود جذور فكر الحركة إلى منابع الفكر الباطني البعيد عن نور الوحي.. والمتمثل في عقائد الديانات الشرقية من الهندوسية والطاوية والبوذية، وفي بعض فلسفات الإغريق والفراعنة. ذلك الفكر الذي سبق وأن تغلغل في العقائد السماوية وأفسد جوهر التوحيد عند من تأثروا به. وتمثّل بوضوح في الطوائف الغنوصية في الديانة النصرانية، وطوائف القبالة في اليهودية. وتستَّر بثوب الإسلام في نهاية القرن "الأول الهجري/السابع الميلادي" وبشكلٍ أقوى في "القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي" مع تزايد الداخلين في الإسلام وبتأثير الترجمة المضللة لمفاهيم الفلسفة الإغريقية التي لفقت بين العقيدة الصحيحة والفلسفة الضالة فنشأت كثير من الفرق الغنوصية - في صورة مذاهب التصوف والتشيع الغالي والقرامطة والإسماعيلية والزنادقة المتأثرين بالمانوية والصابئة المندائية (ينظر الغنوصية في الإسلام لهاينس هالم: [6-12]).

ولئن كانت جذور فكر الحركة تعود إلى تلك الجذور البعيدة، إلا أن نشأتها باعتبارها حركة معاصرة يعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي عندما تبنى عددٍ من مفكري الغرب الفكر الباطني كخروج على الفكر النصراني، ومحاولة لتفسير طبيعة الإنسان والخلاص بطريقةٍ أخرى تركز على "الغنوص والحكمة" كنموذج للخلاص الفردي بدلًا من انتظار مخلص كوني مبعوث من مصدر خارجي. وقد تكوّن بتأثير هؤلاء المفكرين أربع حركات دينية متزامنة تبنَّت الأصول الفلسفية الباطنية بأشكالٍ مختلفة وأسهمت فيما بعد في تكوين فكرِ ومنهجِ حركة العصر الجديد.

 

وفيما يلي تعريف بهذه الحركات:

1- حركة "الفلسفة المتعالية" Transcendentalism

وتُعد أول حركة فكرية في أمريكا الشمالية تتأثر بالديانات الشرقية وتعتمد على ترجمات الكتب الهندوسية المقدسة، وتبنَّت أربع فلسفات أساسية هي: أن العلاقة بين الإله والإنسان والكون هي علاقة وِحدة الوجود، وأن المعرفة الحدسية الداخلية التي تأتي من وراء نطاق عمليات الفكر والحواس الخمس والقوى العقلية عن طريق (العرفان الغنوصي) والإلهام المباشر مقدسة لكونها فيض من العقل المقدس، وأن للإنسان قدرات كامنة غير محدودة، تمكِّنه من التعامل مع العالم الميتافيزيقي الغيبي بلا حدود. وأن التناغم مع الطبيعة[1] هو طريقة الحياة الفضلى.

بدأت بوادر الحركة بين طوائف "الموحدين" -وتوحيدهم بحسب سياقنا الإسلامي هو عين الكفر وهو القول بوحدة الوجود- Unitarian في الولايات المتحدة الخارجين عن الكنيسة النصرانية التقليدية، وكان "رالف إمرسون" [1803-1882م] هو الشخصية القيادية لهذه الفلسفة التي أصبحت حركةً فلسفيةً أدبية، ودينية اجتماعية معًا وبلغت ذروة انتشارها في الأربعينيات من القرن التاسع عشر الميلادي (ينظر: "The Implications of New Age Thought for the Quest for Truth: A Historical Perspective", Horn,p. 32).

2- حركة "الفكر الجديد" نيو-ثوت New Thought

التي ظهرت على يد فينياس كويمبي [1803-1866م] كامتداد لفلسفة فرانز مزمر [1734-1815م] الطبيب الألماني النمساوي الذي اشتهر بأنواعٍ من العلاج الروحي الجماعي الذي يؤدي إلى حالات وعي مغيّرة، تظهر فيها قدرة فوق عادية له ولمرضاه كالتخاطب مع الأرواح، ومعرفة أحداث ماضية ومستقبلية، ويقوم علاج مزمر على التنويم والمغناطيس في محاولةٍ منه لإعطاءِ تفسيرٍ علمي لما يحدث مبني على ما يؤمن به من "الطاقة الحيوية" -شاع هذا المصطلح اليوم بدعمٍ من برامج العصر الجديد، ورُوِّج على أنه حقيقة علمية مأخوذة من العلوم الشرقية الطبية القديمة. والحقيقة أن فكرة الطاقة الحيوية فرضية فلسفية هي فلسفة الكلي المطلق الذي تنبثق منه الموجودات وتسعد وتصح كلما اتصلت به واتحدت معه-!

life Energy Force التي يرى أنها المُسبِّبة للشفاء والسعادة، والتي عرَّفها بأنها: سائٌل لطيفٌ غير مرئي نافذ عبر الكون، تتفاعل بواسطته جميع الأجسام الأرضية والسماوية، وأنه يمكن توجيهه والتأثير عليه بطرقٍ خاصة. وأن تدفق هذه الطاقة في الجسم يولد الصحة والحيوية بينما يؤدي تعثُّر انسيابها إلى المرض والخمول. وقد تبين للعلماء أن ما يقوله مزمر مجرد ادِّعاءات لم يثبتها العلم، ويشوبها كثير من الدجل، وأنها مستقاة من إيمانه بالفلسفة الشرقية (ينظر:"The Implications of New Age Thought for the Quest for Truth: A Historical Perspective", Horn,p. 35).

وقد مزج فيناس مؤسس حركة "الفكر الجديد" بين ممارسات مزمر وأفكاره وبين الفلسفة المثالية التي تُعتبر العقل والفكر أصل الحقيقة وهو سِرّ[2] القوة المسببة وراء الكائنات المادية والأحداث والظروف، وكوّن من ذلك أصول حركة "الفكر الجديد" التي انتشرت كحركةٍ اجتماعية، وأنشأت فيما بعد العديد من المراكز والمعابد وبعضها تحت اسم الكنائس[3].

3- حركة الأرواحية Spiritualism

في القرن الثامن عشر الميلادي ظهر عالِم الجيولوجيا والمعادن السويدي إيمانويل سويدن بورغ [1688-1772م] الذي اهتم بالتعامل مع الأرواح -بحسب السياق الباطني- وحاول تفسير الغيبيات كالموت والجنة والنار والروح وغيرها.. تفسيرًا يجمع بين الدين والعلم حسب ادِّعائه. وقال: "أن نصوص الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى تُمثّل رموزًا وإشاراتٍ تدل على باطن تجلَّى له عن طريق عرفان خاص، فاض عليه أثناء تأمُّلاته واتصاله بالأرواح"! وادّعى سويدن بورغ أن الإله اختاره ليشرح للعالم هذه المعاني الروحية الباطنية لظاهر الكتاب المقدس.

وكانت أبرز أفكار بورغ وكتاباته تؤكد على أهمية التعامل مع الأرواح ومخاطبتها لمعرفة الحقيقة المغيبة، وتبين نظرته وتفسيره للحقائق الغيبية بطريقته الباطنية ومن ذلك تفسيره للجنة والنار على أنها حالات وعي ذهنية يمكن الوصول إليها من خلال "السفر خارج الجسد" وحالات "التأمُّل الروحاني"[4] وغيرها.

هذا وقد انتشرت أفكار سويدن بورغ في كل أوروبا نظرًا لمكانته الاجتماعية عند حكام السويد، ثم انتشرت في أمريكا في القرن التاسع عشر الميلادي حيث كثرت ممارسات استحضار الأرواح والاستعانة بها عن طريق الكتابة لها ومخاطبتها أو الدق الرتيب الذي يستعان به في التنويم المغناطيسي[5].

إلا أن حركة الأرواحية فقدت صيتها في جانب الممارسة بعد أن تم في أكثر من موقف.. كشف زيف ممارسات الأرواحيين للعامة وتنبيههم أنها مجرد خداع للبسطاء[6].

4- جمعية الثيوصوفي Theosophy

وهي جمعية أسستها هلينا بلافاتسكي [1831-1891م] Blavatsky في نيويورك بأمريكا الشمالية بثلاثة أهدافٍ معلَنة:

1- اكتشاف القوانين التي تحكم الكون والقوى الكامنة في الإنسان.
2- الدعوة إلى الأخوة الكونية بتناغم الإنسان مع الكون[7].
3- دراسة الأديان القديمة، والحديثة، والفلسفة، والعلوم.. دراسةً مقارنة.

وأصل كلمة الثيوصوفية Theosophy مأخوذ من الكلمتين اليونانيتين ثيوس theos بمعنى "إله"، وصوفي sophy بمعنى الحكمة، فالكلمة بمجملها تعني: حكمة الآلهة أو الحكمة الإلهية[8]، وقد كانت كلمة sophy تطلق عند اليونان على مذهب يؤمن أتباعه بوحدة الوجود ويرونها الحقيقة المجردة[9].

وقد أكدت بلافاتسكي في تصريحاتها وكتاباتها على وحدة الأديان جميعها في الجوهر والغاية، ونظرت إليها بوصفها نتفًا مختلفة الأشكال والألوان من نور الحقيقة الإلهية الواحدة "وشبَّهتْ الثيوصوفيا بالشعاع الأبيض للضوء وكلَّ دينٍ له لون من ألوان الطيف الستة.. لذلك هنالك أديان عديدة حقًّا، لكن الدين الشامل واحد أبدًا: إنه "دين الحكمة"[10] Wisdom Religion الذي يُدعى في الأدبيات الثيوصوفية بـ"الفلسفة الباطنية"[11] فأصل الدين في الفكر الثيوصوفي واحد هو "الحكمة الغنوصية"، أما الإسلام واليهودية والنصرانية فتُعد عندهم ألوانًا محرّفة بحسنِ نِيَّة من الأنبياء الحكماء رغبةً في تبسيط الحكمة للعامة الذين لا بد من ترقيتهم تدريجيًا ليفهموا الحقيقة الواحدة ويتركوا ظاهر الأديان المختلفة.

كما أكدت بلافاتسكي أن الجمعية تسعى إلى تدريب الناس على طرق الوصول إلى العرفان (الغنوص) لهدف تعريفهم بدين الحكمة. وأكدت أنها نذرت نفسها لهذا الهدف لأنها وصلت شخصيًا مع مرشديها "أسياد الأخوية البيضاء العالمية"[12] إلى هذا العرفان!

وقد تأسست جمعية الثيوصوفي على أصول فكر ومعتقدات الديانات الشرقية وبخاصةٍ الهندوسية باعتبارها منبعًا للفكر الباطني القديم، كما طوّعت لخدمة ذلك ما تؤمن به بعض النظريات العلمية كنظرية دارون التي بنت عليها بلافاتسكي نظرية في تطور الروح.

وقد كانت التعاليم الثيوصوفية تعتبر تعاليمَ سرية لا يجوز تسريبها لعامة الناس إلا أن بلافاتسكي تجرأت وأسست جمعيتها لإعلان هذه الأسرار، وتعليم العالم الغربي أن الخلاص إنما هو في الغنوص والاستنارة لا في انتظار المخلص أو الإيمان بإله ذو ذات.

ولقناعة جمعية الثيوصوفي بفكرهم وتصريحهم برغبتهم في تخليص المجتمع الأمريكي من آثار المعتقدات غير العقلانية[13] تصدَّت لهم الكنيسة وواجههم النصارى المتدينون بقوة، مما أدَّى إلى خفوت دعواتهم في وسط عامة الناس مع استمرارهم في عرض أفكارهم عن طريق الكتب والدوريات والبرامج المتنوعة.

وقد مهَّدت هذه الحركات الباطنية الأربعة بمعتقداتها وممارساتها ومطبوعاتها لظهور حركاتٍ أخرى تتبنَّى نفس الفكر بطرقٍ جديدة.. فظهرت بوادر حركة "النيو-إييج" التي تُعتبر آخر وأكبر الحركات الغربية الروحانية التي ظهرت كعلاج لأجيال التيه[14] داعيةً إلى الممارسات الباطنية المتأثرة بالشرق[15].

فحركة العصر الجديد بعيدة الجذور متصلة بمنابع الفكر الباطني في جميع الديانات والفلسفات الباطلة، وهي حديثة معاصرة باعتبار نشاطها المؤسسي وبرامجها وأساليبها - التي تطرح خلالها الفكر الباطني المستمَد من الطوائف الباطنية والديانات المختلفة في قوالبٍ عصريةٍ جديدة. وقد اتضح هذا للدارسين لفكر الحركة في الغرب، فهذا "الفاتيكان" يصدر وثيقة تحذر من أفكار حركة العصر الجديد، ويؤكد على أن الحركة ليست جديدة، وأن لها جذورًا في الحركات الباطنية القديمة كالغنوصية والقبالة والبوذية واليوغا وغيرها[16].

نشأة الحركة: في الستينات الميلادية من القرن العشرين تكونت نواة الحركة في معهد "إيسالن"[Esalen [17 بأمريكا الشمالية الذي يحتضن الفكر الغنوصي الباطني، ويتبنَّى البحث في قوى الإنسان الكامنة وتتتبع العقائد والفلسفات التي تؤمن بضرورة تحرير هذه القوى من آثار المعتقدات الدينية "غير العقلانية" بتعبيرهم[18]، وسعى المعهد على نشر الفكر الروحاني spirtituality كبديل/ٍ عن الدين Religion بين العامة والخاصة، بطرقٍ متنوعةٍ ومعاصرةٍ وجماهيريةٍ وتطبيقيةٍ ومباشرة[19].

وظهرت حركة "القدرة البشرية الكامنة" (Human Potential Movement) بريادة كارلوس كاستنيدا   [1925-1998م] ومؤسسي المعهد، وكرَّست اهتمامها على البحث في هذا المجال وتتبع الدراسات والممارسات التي تخدم هذا التوجه.

وقد كانت هذه الحركة وراء توسع التوجه البحثي المعاصر في الغرب عن المؤثرات الغيبية الميتافيزيقية (الماورائية) للأداء البشري بنظرة روحانية ملحدة تُغفِل ما تُخبِر عنه الأديان السماوية عن عالم الغيب ومخلوقاته، وتعتمد على التراث الغنوصي القائم على فلسفات الديانات الشرقية وكتبها المقدسة؛ بحيث لا يمكن فهم فلسفة ورؤية كثير من الغربيين للحياة إلا بمعرفة مقومات الديانات الشرقية[20].

وقد أجريت في معهد إيسالن أكثر من عشرة آلاف دراسة للتقنيات والممارسات والفرضيات في القدرات الكامنة في فترة الأربعين سنة الماضية[21] اعتمدت على تفسير الظواهر والمشاهدات بناءً على المبادئ الغنوصية في الديانات الشرقية.

وهكذا فقد شكّل الفكر الروحاني الباطني أكبر امتدادٍ فكريٍ في الغرب في العصر الحديث، وساهم في نشأة الطوائف الروحانية المتأثرة بالشرق بسبب عدة أسباب؛ من أهمها أن الديانات الشرقية قدَّمت للإنسان الغربي روحانيةً خاليةً من أي التزامات أخلاقية أو شرعية، وهي ما كان الغرب ينشده نظرًا للجفاف الروحي في الديانات المحرَّفة، وعدم رغبة الغربيين بالتقيد بأية حدود أخلاقية لاعتيادهم على حرية مطلقة لشهواتهم. إضافةً إلى رغبة كثير من الغربيين في التعرُّف على طرقٍ بديلة للتلاعب بالوعي بدون تعاطي العقاقير بعد أن عرفوا أضرار المخدرات التي يُدمِنون عليها، وهو ما تدّعي الروحانيات الشرقية تقديمه عبر طرقها الباطنية الرامية للوصول إلى حالاتٍ متغيِّرة من الوعي يفقد معها الإنسان وعيه وإحساسه بالحزن أو الألم. هذا ما دلَّت عليه الإحصاءات حيث أن 96,4 ٪ ممن ينتمون إلى الطوائف الروحانية المتأثرة بالديانات الشرقية سبق لهم استخدام المخدرات قبل انضمامهم إليها[22].

في هذه الأجواء تكوَّنت بذرة حركة العصر الجديد.. عندما تبنَّت طائفةً جديدةً في المعهد نشر الفكر الروحاني وتطبيقاته تسمَّت فيما بعد New Age Movement، ولم تبرز الحركة كدينٍ أو فكرٍ جديد، وإنما ظهرت في صورة طائفةٍ تدعو للروحانيات من أجل الحب والسلام والإيجابية. ولم تقدِّم الحركة ببرامجها جديدًا، وإنما عمِدت إلى بعث مجموعةٍ من طقوس الأديان الشرقية واعتقاداتها، وجدَّدت قوالب تقديمها للناس وابتكرت طرقًا متنوعة لتسويقها ونشرها.

وقد اعتُبِرت حركة العصر الجديد حركة تجديدية منبثقة مباشرة عن حركتي الثيوصوفي Theosophy وحركة الفكر الجديد[23]، وكان من أهم ما يميزها أنها ترى أن عصر التلقي من مصدر خارجي (الله) والتطبيق لأوامر خارجية (الدين) قد انتهى! وأن العصر الجديد يستطيع الإنسان فيه مع الطبيعة والعقل والقدرات غير المحدودة له أن يصنع حياته ومستقبله كما يريد فيكون هو الإله لنفسه! ويؤكد رُوَّاد الحركة أن برامج حركة "العصر الجديد" تضمن إشراك الإنسانية جمعاء في فكرٍ واحد وممارسات واحدة دون تمايز بينهم بسبب تنوُّع أديانهم، ذلك التمايز الذي لم يُسبِّب على مدى العصور السابقة -بزعمهم- إلا الحروب والكراهية.

وهكذا سعت حركة العصر الجديد الباطنية لنشر الفكر الغنوصي القديم، ولكن دون مصادمةٍ للفكر الديني أو مواجهةً له كما فعلت جمعية الثيوصوفي في السابق، وإنما بمداهنة الدين ومزاحمته على طريقة الباطنية القديمة[24]، لذلك لا يُهتم في سائر برامج الحركة وأدبياتها بما يوجد أو يبقى في أذهان الناس من معتقدات الديانات السماوية وغيرها، بل قد يوافق رُوَّاد الحركة ويستحسنون ما يظهره الناس خلال البرامج التدريبية من عقائدهم وأديانهم! وينصب اهتمام رواد الحركة فقط على ما يضاف إلى العقول من أفكارٍ ومفاهيمٍ وفلسفاتٍ جديدة.. لقناعتهم بأن منهجهم الجديد بتقنياته وبرامجه المؤثرة مع الزمن كفيلان بترسيخ المفاهيم الغنوصية الجديدة وتلاشي المفاهيم الدينية القديمة[25].

وقد سعى مفكرو المعهد لجمع شتات الفكر الباطني من غنوصية النصارى وقبالة اليهود وباطنية الفلاسفة والمتصوِّفة من المسلمين، ودمجوا معها ممارسات أديان الشرق من بوذيةٍ وهندوسيةٍ وطاويةٍ وغيرها لهدف التحرُّر من الانتماء والمشابهة لدينٍ محدَّد، وبغية تقديم برامج تناسب جميع الثقافات ويمارسها أتباع جميع الديانات. وأنتج المعهد قوالب جديدةٍ لنشر الفكر وتطبيقاته كممارساتٍ يومية في مختلف جوانب الحياة.

إذًا في معهد إيسالن تكوَّنت بذرة حركة "النيو-إييج" ووضعت اللبنات الأولى لطرق نشر فكرها؛ فصُمِّمَت عشرات البرامج والتدريبات الحيوية، وجُمعت عشرات الممارسات الحيوية والاستشفائية الروحانية التي تتنوع لتلبي اتجاهات الناس المتنوعة فتضمن بذلك انتشارًا واسعًا. وانتشر حملة الفكر الباطني الجُدُد (النيو-إييج) في أنحاء أمريكا لنشر فكرهم في قوالب تدريبية تجعل الفكرة منهج حياة، وتترجم المبادئ إلى أعمال وممارسات. وتكّونت لنشر هذه التدريبات والدورات والأفكار وترويجها عشرات المؤسسات الخاصة داخل وخارج أمريكا من أشهرها مؤسسة "فايند هورن" ببريطانيا[26].

والخلاصة:

 

إن حركة العصر الجديد هي نشاطٌ مؤسسيٌّ معاصِر، تبنَّى نشر الفكر الغنوصي القديم كسائر الحركات والطوائف الباطنية[27]، فالفلسفة اليونانية والفلسفات الشرقية والغنوصية هي أساس فكر الحركة ومعتقداتها وتصوراتها للوجود والكون والحياة والإنسان والعلاقة بينهم، كما أنها تعتمد الحدس وحالات الوعي المغيرة طريقًا لمعرفة الحقائق المغيبة. وهي كذلك تسعى لنشر الفلسفة الباطنية ومنهج العرفان الباطني بين عوام الناس بطرق حديثة تناسب توجّهات الناس ورغباتهم في العصر الحديث؛ فتُقدَّم لهم تحت شعارات الصحة والسعادة والإيجابية والتغيير ونحوها، وتحت مظلات البرامج التدريبية والعلاجية والتنموية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

[1]- (يستعمل مصطلح "التناغم مع الطبيعة" في الفلسفة المعاصرة للدلالة معاني فضفاضة تبدأ بالدعوة إلى العودة إلى الطبيعة بالبُعد عن المصنعات فيما يتعلَّق بالأغذية والملبس والمسكن، وتنتهي بالدعوة إلى التعرِّي والإباحية والشذوذ بزعم أنها توجهات طبيعية لا داعٍ لكبتها أو تغييرها لتوافق أكثر مع الكون والطبيعة).

[2]- (يُروَّج اليوم لكتاب وبرنامج وفيلم باسم "السر"، وحقيقته بعث لمضمون طرح منذ مئة سنة مضت في عام 1906م، عندما كتب ويليم أتكنسون رئيس تحرير مجلة نيو ثوت كتابه ذبذبات الفكر: أو قانون الجذب في عالم الفكر  Thought Vibration or the Law of Attraction in the Thought World by William Walker Atkinson الذي تضمن طرحًا باطنيًا لعقيدة الدهرية أو وحدة الوجود "Panthiesm". وهذا السر الذي يفشونه لخير البشرية اليوم -كما يزعم أنصاره- يزعمون أنه ممارسة لقانون كوني يُمكِّن الإنسان من اجتذاب كل ما يريده من الحياة والصحة، السعادة، الثروة، الحب وغير ذلك).

[3]- (ومن هذه الكنائس: Chrstian Science, Church of Religious Science, Church of Divine Science, Unity School for Chrstianity  مع أن هذه المؤسسات بعيدة تمامًا عن الإلتزام بالدين النصراني وطقوسه ولكن إنشاءها تحت اسم الكنائس هو للحصول على التسهيلات والميزات الخاصة بالكنائس في الغرب).

[4]- ("السفر خارج الجسد" هو عنوان برنامج يُدرّب عليه اليوم ضمن برامج حركة العصر الجديد، ويحكي رُوَّاده ما وصلوا إليه من لذّات الروح في تِجوالهم خارج أجسادهم بينما هم يرون أجسادهم قابعةً حيث تركوها! ينظر: التدريب على السفر خارج الجسد لإحدى المدرِّبات على موقعها: www.mhahashem.com).

[5]- (وكذلك وصلت حركة الروحية الحديثة إلى العالم الإسلامي وتصدى لها أنذاك كثير من العلماء وأشهرهم الدكتور محمد محمد حسين وفضح في "كتابه الروحية الحديث" ممارساتهم وخداعهم، وبيّن مخاطر جمعياتهم وبرامجهم).

[6]- (ينظر: "The Implications of New Age Thought for the Quest for Truth: A Historical Perspective", Horn,p. 36).

[7]- (لفظ التناغم مع الطبيعة لفظ مجمل، ومعناه الاصطلاحي المراد في الفلسفة الباطنية سبق بيانه فينبغي التنبُّه له).

[8]- (ينظر: "مفتاح الثيوصوفيا" لبلافاتسكي: [4]. دراسة منشورة على موقع معابر).

[9]- (ينظر: "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" للبيروني: [24]).

[10]- (قد يكون من المناسب أن يُسمى "دين إبليس"، لأنه الطريقة التي ضلَّل بها الناس على امتداد الزمان عن الحق، وزيَن لهم تحريف كتبهم بتأويلها وادِّعاء بواطن وأسرار كامنة وراء نصوصها، فهكذا صرف كثيرًا من النصارى عن أصل دينهم فتكوَّنت الغنوصية النصرانية، وصرف بها طوائف من اليهود فتكوَّنت القبالة الباطنية، وكذا انطلت الحيلة على فئام من أمة الإسلام فتكوَّنت الفرق الباطنية المنتسبة للإسلام وهو منها براء. واليوم وفي عصر العولمة وثورة الاتصالات يُرسِل إبليس رسله مضللين للبشرية بصورٍ متجدِّدة منها برامج التدريب والتطبيب لحركة العصر الجديد).

[11]- (الحكمة الإلهية ومبادئها الأساسية الثلاثة "مدخل إلى دراسة العقيدة السرية" ديمتري أفييرينوس، منشورات موقع معابر، ص: [5]).

[12]- (ينظر: The skeptic's Dictionary, Robert Carroll .376 وأسياد الأخوية البيضاء العالمية -كما يعتقد المؤمنون بهم- تجسدات لأرواح أنبياءٍ أو حكماء سابقين! فهم في نظر أتباعهم مجموعة من البشر المتطورين الذين بلغوا كمال الحياة الأرضية وطوَّروا في أنفسهم قدراتٍ وملكاتٍ معرفيةٍ خارقة، وهم يوجهّون العالم طبقًا لخطة إلهية، بحكمة ودراية لانهائيتين. ينظر: الحكمة الإلهية ومبادئها الأساسية الثلاثة "مدخلٌ إلى دراسة العقيدة السرية" لديمتري أفييرينوس، منشورات موقع معابر، ص: [16]. والموقع الرسمي لجمعية الثيوصوفي: www.theosociety.org).

[13]- (يستخدم هذا المصطلح للدلالة على معتقدات الأديان السماوية القائمة على التلقي والتي لا يقتنع بها العقل، وهو أمرٌ واقعٌ في كثير من معتقدات الأديان المحرَّفة التي عرفها الثيوصوفيون، بينما عقيدة الدين الإسلامي مبرهنة يطمئن لها العقل لعدم تضادها معه في شيء، وثبوت صدق مُبلِّغها صلى الله عليه وسلم).

[14]- (يُقصَد بهم أجيال الشباب الذين ظهر فيهم الضياع التام والتيه والبُعد عن بقايا الدين المحرَّف، وقد كان هؤلاء سِمة على شباب أمريكا في القرن العشرين وأشهرهم الهييبز والبنكس).

[15]- (ينظر: "The Implications of New Age Thought for the Quest for Truth: A Historical Perspective", Horn,p. 36).

[16]- (وقد تنبَّه رجال الدين النصارى لخطر هذه الحركة على أساسيات دينهم المحرَّف، فواجهوها منذ السبعينيات من القرن العشرين بكتاباتٍ نقديةٍ تبين معارضة مبادئ ومعتقدات "العصر الجديد" لأبسط مبادئ النصرانية والديانات السماوية بشكلٍ عام. ينظر:
-Christian Responses to the New Age Movement, John A. Saliba. وفي عام 2003م أصدر الڤاتيكان وثيقة مفصلة بيّن فيها خطورة حركة "العصر الجديد" وما تنشره من أفكارٍ هدامة، وعنوان الوثيقة: "A Christian reflectionon the New Age" وهي موجودة كاملة على موقع الڤاتيكان الرسمي: www.vatican.va).

[17]- (معهد إيسالن Esalen Institute of California بولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية أنشئ عام 1961م من قبل متبني الفكر الثيوصوفي وأبرز مؤسسيه: مايكل ميرفي Michael Murphy  وريتشارد برايس Richard Price، وهو معهد للدراسات الباطنية يهدف إلى نشر الفكر الروحاني spirtituality ويجعله بديلًا عن الدين Religion، وقد استقطب كثيرًا من المتخصصين في مجالات متنوِّعة الذين يجمعهم الإيمان بإمكان ترقي الإنسان إلى مرحلة روحانية إلهية، منهم: كارل يونغ Carl Jung، وإبراهيم مازلو Abraham Maslow وغيرهم، وفي المعهد تكونت عشرات المؤسسات الخاصة لنشر فكر المعهد داخل وخارج أمريكا كحركة القدرات البشرية الكامنة وحركة الوعي ومنه خرجت حركة العصر الجديد. ينظر: الموقع الرسمي للمعهد: www.esalen.org
-"The Upstart Springs: Esalen and the Human Potential Movement", Walter T. Anderson,p.54).

[18]- (يقصِدون المعتقدات السماوية القائمة على التلقي كما سبق بيانه).

[19]- (ينظر: The New Age: The History of a Movement, Drury, Nevill).

[20]- (ينظر: New Age and Neopagan Religions in America, Sarah M. Pike).

[21]- (وتم إيداع هذه الدراسات في جامعة "University of California, Santa Barbara").

[22]- (ينظر:  The New Age: The History of a Movement, Drury, Nevill).

[23]- (ينظر: The Upstart Spring: Esalen and the Human Potential Movement, Walter Anderso.
Esalen: America and the Religion of No-Religion, Kripal, Jeffrey John).

[24]- (بيَّن الغزالي هذا المنهج الباطني وفصله في فضائح الباطنية ص: [15] وما بعدها، بما يؤكد أن فكر ومنهج الباطنية قديمًا وحديثًا له الأصول والسمات نفسها).

[25]- (ينظر: مجلة النيويورك تايمز في عددها الصادر في 29 سبتمبر 1968م، مقالة بعنوان "المبادئ الروحية تجتذب سلالة جديدة من الملتزمين"  -Spiritual Concepts Drawing a Different Breed of Adherent, New York Times,september29,1986).

[26]- (ينظر: "The Implications of New Age Thought for the Quest for Truth: A Historical Perspective", Horn,p. 40).

[27]- (وقد تبين لكل دارس للباطنية قديمًا وحديثًا اعتمادها على أصول الفلسفة الملحدة، ينظر: فضائح الباطنية للغزالي، ص: [13]، والحركات الباطنية للخطيب، ص: [20]).
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

فوز بنت عبد اللطيف كردي

دكتوراه فلسفة التربية والدراسات الإسلامية، تخصص العقيدة والمذاهب المعاصرة. جامعة الملك عبد العزيز بجدة