مفهوم العبادة

منذ 2014-05-18

إن مفهوم العبادة شامل واسع، وليس كما يفهم البعض أن العبادة تعني: الصلاة، والصدقة، وما أشبه ذلك من الأمور التعبدية الظاهرة؛ أو أنها التعبد لله في المسجد فقط لا غير، أو أنها عبادة موسمية في رمضان فقط، أو في الجمع، والأعياد، وكل هذه من المفاهيم الخاطئة التي يحاول العلمانيون غرسها في الناس وذلك عبر وسائل الإعلام المختلفة. بل العبادة لها مفهوم شامل لجميع مناحي الحياة.

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.أما بعد:

فإن الله خلق الخلق ولم يتركهم سدى وهملاً، بل خلقهم لعبادته وحده لا شريك له، فأمرهم ونهاهم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. فـ"هذه هي الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم" (1). وهذه العبادة التي خلقنا الله من أجلها لا بد أن تكون لمن خلقنا وحده لا شريك له؛ قال تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة:31]. فلا يجوز أن نصرف منها شيئاً لغيره، لا لنبي مرسل، ولا لملك مقرب، فضلًا عن غيرهم من البشر.

 

أخي المسلم: اعلم بأن الله جل وعلا لم يترك الخلق سدى وهملاً بل خلق الخلق ليعبدوه وبالإلهية يفردوه (2). إن مفهوم العبادة شامل واسع، وليس كما يفهم البعض أن العبادة تعني: الصلاة، والصدقة، وما أشبه ذلك من الأمور التعبدية الظاهرة؛ أو أنها التعبد لله في المسجد فقط لا غير، أو أنها عبادة موسمية في رمضان فقط، أو في الجمع، والأعياد، وكل هذه من المفاهيم الخاطئة التي يحاول العلمانيون غرسها في الناس وذلك عبر وسائل الإعلام المختلفة. بل العبادة لها مفهوم شامل لجميع مناحي الحياة؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة". أي من العبادات الظاهرة. "وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله" (مجموع الفتاوى:[10/150]). وهذا عبادات باطنة.

 

وهذه العبادة تدور رحاها على خمس عشر قاعدة؛ كما يقول ابن القيم رحمه الله: "ورحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة من كملها كمل مراتب العبودية. وبيانها أن العبودية منقسمة على: القلب، اللسان، والجوارح، وعلى كل منها عبودية تخصه. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح، وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح" (3). فالعبادة -عباد الله- غير مقتصرة على الصلاة، أو الصدقات، وليست مقتصرة على المسجد فقط، بل الإنسان عبد لله في المسجد وفي البيت وفي العمل، وفي السفر وفي الحضر، وفي كل مكان وزمان هو عبد لله؛ قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]. ويتضح ذلك من خلال معرفة أن الحياة كلها يمكن أن تكون محلاً للعبادة ما دامت غايتها إرضاء الله تعالى، وذلك بفعل الأوامر، واجتناب النواهي، بل بفعل الخير والكف عن الشر.

 

أيها الناس: إن الأعمال الصالحة عمومًا، والتي لم تصبغ بصيغة تعبدية بحتة يمكن أن تتحول إلى عبادة، وذلك بإصلاح النية لله تعالى، وابتغاء مرضاته بذلك الفعل؛ فقد جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة» (البخاري ومسلم).

 

بل إن عمل الإنسان -عباد الله- في أمور معاشه عبادة، ولكن لا يكون ذلك إلا بشروط، فلقد رأى الصحابة رجلاً فعجبوا من جلده ونشاطه، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله؟ كما جاء في حديث كعب بن عجرة قال: "مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه ما أعجبهم، فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء وتفاخرًا فهو في سبيل الشيطان» (4).

 

أيها المؤمنون: إن الأعمال الغريزية قد تصبح عبادة بالنية الصالحة، ويؤجر عليها الإنسان؛ فقد جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة». قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» (مسلم). ففي: "هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة، ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه، أو إعفاف الزوجة ومنعهما جميعًا من النظر إلى حرام، أو الفكر فيه، أو الهم به، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة" (5).

 

بل جاء في الحديث بيان أنما يجعله الرجل في فم امرأته يؤجر عليه، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما زار سعد بن أبي وقاص قبل وفاته قال له: «ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك» (مسلم). قال النووي رحمه الله: "وفيه أن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة، ويثاب عليه، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك؛ لأن زوجة الإنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذه المباحة، وإذا وضع اللقمة في فيها فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع هذا فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله تعالى حصل له الأجر بذلك، فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا أراد وجه الله تعالى، ويتضمن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئًا أصله على الإباحة، وقصد به وجه الله تعالى يثاب عليه، وذلك كالأكل بنية التقوي على طاعة الله تعالى، والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطًا، والاستمتاع بزوجته وجاريته ليكف نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام، وليقضي حقها، وليحصل ولدا صالحًا" (6).

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها الناس: إنه يجب علينا أن نعي ونعقل أن الأعمال السابقة لا يؤجر عليها الإنسان، ولا يثاب عليها إلا إذا كانت وفق ضوابط وشروط، ومن هذه الضوابط والشروط ما يلي:

 

أ- أن تصاحب جميع هذه الأعمال النية الصالحة؛ فقد جاء في الحديث المتفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إ «نما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...» (البخاري ومسلم). فمن نوى خيرًا فله، ومن نوى شرًا فعليه. وجاء في قصة سعد بن أبي قاص قوله صلى الله عليه وسلم: «ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت بها».

 

ب- أن يكون العمل مباحًا في ذاته، أما إذا كان منهيًا عنه فإن فاعله يأثم؛ كأن يكون في بنك ربوي، أو في مؤسسة تبيع وتشتري بما حرم الله، أو ما إلى ذلك؛ فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا...» (مسلم).

 

ت- أن يؤدي ذلك العمل بإتقان وإحسان؛ وعلى الوجه المطلوب منه شرعاً وعرفاً؛ وذلك أن الله قد طلب منا الإحسان في كل شيء؛ فعن شداد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء...» (مسلم). وعن عائشة أن رسول الله قال: «إن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه» (7).

 

ث- أن يراعى فيه الضوابط الشرعية، فيجتنب فيه الغش، والظلم، والفحش، والخيانة؛ فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «...ومن غشنا فليس منا» (مسلم). وقال الله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30].

 

ج- أن لا يشغله ذلك عن فعل ما فرض الله عليه من أداء الصلوات، وما أوجب الله عليه؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].

 

فلنتق الله عباد الله جميعًا، ولنجعل من شهر رمضان محطة للتزود إلى السفر إلى الله تعالى، ولنواصل العبادة لله بعد رمضان، وفي كل زمان ومكان. واللهَ نسألُ أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:[813] لابن السعدي. تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق. الناشر: مؤسسة الرسالة. الطبعة الأولى (1420هـ).

(2) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول:[1/28]- حافظ بن أحمد حكمي. الناشر: دار ابن القيم- الدمام. الطبعة الأولى ( 1410هـ)- تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر.

(3) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين:[1/109]. الناشر: دار الكتاب العربي- بيروت- الطبعة الثانية (1393). تحقيق: محمد حامد الفقي.

(4) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، وقال الألباني: "صحيح لغيره"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم: 1692. وهو في صحيح الجامع رقم: 1428.

(5) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: [7/92]- الناشر: دار إحياء التراث العربي- بيروت- الطبعة الثانية (1392هـ).

(6) راجع: (المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج:[11/77- 78]).

(7) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، وأبو نعيم في حلية الأولياء، وقال الألباني: "حسن"؛ كما في صحيح الجامع، رقم: 1880.

المصدر: موقع إمام المسجد