الصداقة ومعادن الناس
لقد اختصرتِ المشكلة في كلمتين: "معادن الناس"، وكما يَختلف الذَّهب عن النُّحاس، والفضة عن الأَلْمَاس، شكلاً ولونًا ولمعانًا ووزنًا وثمنًا وصَلابة وكثافة، كذلك تختلف قلوب الناس وأخلاقهم بعضها عن بعض، وصدق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين قال: «تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتَجدون خير الناس في هذا الشأن أشَدَّ له كراهية، وتجدون شَرَّ الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه» (متفق عليه).
السؤال
قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، فمن هذا المنطلق لا بُدَّ أن أذكر مزايا شخصيتي، على لسان مَن حولي يقولون بأني: ذاتُ شخصية قوية ولله الحمد، وأملك الثقةَ بنفسي ولله الحمد، وأني حكيمةٌ وعاقلة في تفكيري، وطيبة وحسنة النية مع قوة الشخصية، وأمتلك علمًا جمًّا بفضلٍ من الله ومَنِّه وكرمه.
المشكلة: أنا امرأة، بطبيعتي أُحسن الظَّنَّ، ولو كان رَدُّ فعل الشخص الذي أمامي واضحًا، علمًا أنَّه عادةً في مِثْلِ هذه المواقف أستطيع الردَّ، ولكن أفضل أنْ أهَدِّئ من تفكيري، وأبحث عن المسوِّغات التي جعلت الشخصَ يُسيء التعامُل معي، وأنا أستخدم هذا الأسلوب؛ لأعيشَ مرتاحة مُطمئنة، ولا يَهمُّني مَن أخطأ بحقي؛ لأنِّي أفضل أن الخطأ يصدر من غيري، ولا يصدر مني، بمعنى أريد أن أكون من الذين إذا مَرُّوا باللغو مروا كرامًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا.
المشكلة بدأت عندما تعرَّضت لحادث مروري سَبَّبَ لي ارتجاجًا في الدماغ، ولله الحمد تعافيت من هذا الحادث، وما زال للحادث آثارٌ جسدية ونفسية، يَهُمُّنا الآثار النفسية الآن، علمًا أنَّه مَرَّ على الحادث سنة:
الحالة الأولى: وأنا في مرحلة النقاهة من الحادث، اتَّصلت بجَوَّالِ إحدى أعَزِّ صديقاتي، وأخبرتها بالحادث، فكان رَدُّ فعلها أنها ضحكت، وقالت: حسنًا حسنًا، سأتصل عليكِ حين أعود للمنزل، وأغلقت الهاتف، ولم تتصل ولم ترسل رسالةً واحدة على الهاتف، وبعد مرور سنة من معرفتها بالحادث أرسلت لي رسالة بأنها تفتقدني!
الحالة الثانية: صديقة لي في العمل ادَّعت أنَّها تأثَّرت جدًّا عندما وقع الحادث، ولكنَّ الواقع أثبت عكسَ ادِّعائها. كلُّ مَن في العمل ألقَوْا كلمةَ حب وتقدير لي في الحفل، إلاَّ صَديقتي، عندما طلبوا منها أنْ تُلقي كلمةً، رفضت بحجة أنَّ الأمرَ بيني وبينها، علمًا أنَّها لم تُشارك في أعمال الحفل بشيء، الكل أهدى لي هدايا، وكان بعضها أشياء بسيطة رمزيَّة، إلاَّ صديقتي، وعندما كنت مع المديرة وأمتدح صديقتي هذه في العمل، فوجئت بالمديرة عيناها غرقت بالدمع، واحْمَرَّ وجهها، وقالت: "لم أسمع أحدًا يَمتدحها غيرك!" وبعد مرور الأيام والأشهر، فوجئت أنَّ هذه الصديقة كانت تذهبُ للمُديرة، وتقول عني كلامًا كله كذب، ولا يَمُتُّ للحقيقة بصلة.
وخلال هذه الأمور لاحظت أمرًا: أنَّها تسلم عليَّ بضَحِكٍ وسرور عندما تكون المديرة موجودة، وتسلم عليَّ ببرود إنْ لَم تكن المديرة موجودة، علمًا أنَّ صديقتي هذه تستفيد مني كثيرًا؛ حيث أعمل لها بعضَ الأنشطة، وتَخرج هذه الأنشطة باسمها هي، فكان ردُّ فعلي أنِّي لزمت الصمت وابتعدت عنها، وهي لم تحرك ساكنًا، ولم يهمها أمري، وبعد مرور أشهر من ذلك، بعد أن شعرتْ صديقتي بأن المديرة لاحظت أنِّي لم أعُدْ أجالسها، قامت تتصل بي وترسل الرسائل، فما هي نصيحتكم لي في تعاملي مع الناس؟ ومع مثل هذه المواقف؟
الجواب
أختي العزيزة؛ حياكِ الله.
لقد اختصرتِ المشكلة في كلمتين: "معادن الناس"، وكما يَختلف الذَّهب عن النُّحاس، والفضة عن الأَلْمَاس، شكلاً ولونًا ولمعانًا ووزنًا وثمنًا وصَلابة وكثافة، كذلك تختلف قلوب الناس وأخلاقهم بعضها عن بعض، وصدق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين قال: «تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتَجدون خير الناس في هذا الشأن أشَدَّ له كراهية، وتجدون شَرَّ الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه» (متفق عليه).
التعامُل مع الناس يا عزيزتي يحتاج إلى قدرٍ كبير من الحكمة والخبرة والصبر وسَعة الصدر، وليس من السهل حصرُ طَرائق التعامل مع جميع الناس في استشارة واحدة، فهذا موضوعٌ طويل لا تتَّسع له الكتب ولا المجلدات، وإنَّما نُحاول الإجابةَ في كل مرة على الطريقة المُثلى للتعامُل مع نوعيةٍ مُعينة من الناس، وقد ذكرتِ لنا هنا مِثالين عن مَعدنين من المعادن البشرية الرخيصة:
1- الصديق الخذول: الذي يتخلى عن صديقه وقتَ الضيق.
2- الصديق ذو الوجهين: الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه.
ومع الاثنين يَجب أن نثبُتَ دائمًا على مبادئنا وقيمنا وأخلاقنا، ولا نُجازي الغَدْرَ بالغَدْر، ولا الخيانة بالخيانة، فقد قال ابن حزم في كتابه القيِّم (الأخلاق والسير): "وأنا أعلمك أنَّ بعضَ من خالصني المودة، وأصفاني إيَّاها غايةَ الصفاء في حال الشدة والرَّخاء، والسعة والضيق، والغضب والرِّضا، تغيَّر عليَّ أقبح تغيُّر بعد اثني عشر عامًا متصلة في غاية الصفاء؛ لسبب لطيف جدًّا، ما قَدَّرت قطُّ أنَّه قد يؤثر مثلُه في أحدٍ من الناس، ما صَلَحَ لي بعدها، ولقد أهَمَّني ذلك سنين كثيرة هَمًّا شديدًا"، ثم يقول: "ولكن لا تستعمل مع هذا سوءَ المعاملة، فتُلْحَقَ بذوي الشرارة من الناس، وأهل الحبِّ -أي الخداع- منهم".
عامليهما كما تعاملين كلَّ الناس بالحُسنى، وقولي لهما حُسنًا، وكوني في حاجتيهما، ولا تكن لكِ حاجة عند إحداهما، وكوني منهما على حَذَر، يسلم لكِ قلبكِ من الأذى، ويرتاح ضميركِ بفعل الخير.
قال أبو إسحاق الألبيري:
وَخَفْ أَبْنَاءَ جِنْسِكَ وَاخْشَ مِنْهُمْ *** كَمَا تَخْشَى الضَّرَاغِمَ وَالسَّبَنْتَى
وَخَالِطْهُمْ وَزَايِلْهُمْ حِذَارًا *** وَكُنْ كَالسَّامِرِيِّ إِذَا لَمَسْتَا
وَإِنْ جَهِلُوا عَلَيْكَ فَقُلْ سَلاَمًا *** لَعَلَّكَ سَوْفَ تَسْلَمُ إِنْ فَعَلْتَا
لكن اعلمي يا أختي الغالية أنَّ الثباتَ على المبادئ والقيم والأخلاق الرَّفيعة لا يعني بالضَّرورة الاستسلام المطلق للغَدْر والخيانة، لا يعني أبدًا مَنْحَ قلوبنا الوفيَّة هبةً وعطايا لتلك القلوب الخائنة، فـ"مسامحة أهل الاستئثار، والاستغنام، والتغافل لهم ليس مروءة ولا فضيلة، بل هو مهانة وضعف، وتَضريةٌ لهم على التَّمادي على ذلك الخلق المذموم، وتغبيط لهم به، وعون على ذلك الفعل السوء"، كما يقول ابن حزم.
ومَن يرغب في تغيير فعلٍ قبيح، فلا يُجازِ عليه بالمكافأة، ولا يلتزم أمامه بالصَّمت، بل لا بُدَّ من المواجهة والتفاهم لحلِّ الخلاف بين الأصدقاء، وهذا الأسلوب الذي ذكره د. أسامة أبو سريع في كتابه (الصداقة من منظور علم النفس) يتضمن: "المواجهة والتشاوُر، والتفاهُم والنقاش الهادئ حول أسبابِ المشكلات، والإقناع والمصارحة بالعيوب التي أدَّت إلى وقوع الخلاف، والميل إلى الحلول السلمية".
أما من استغنى، فكوني عنهم أغنى، ولعَلَّ النصيحة القديمة للإمام الشافعي رحمه الله في هذا المقام تُغني عن كل الكلام:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَرْعَاكَ إِلاَّ تَكَلُّفَا *** فَدَعْهُ وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيْهِ التَّأَسُّفَا
فَفِي النَّاسِ أَبْدَالٌ وَفِي التَّرْكِ رَاحَةٌ *** وَفِي الْقَلْبِ صَبْرٌ لِلْحَبِيبِ وَلَوْ جَفَا
فَمَا كُلُّ مَنْ تَهْوَاهُ يَهْوَاكَ قَلْبُهُ *** وَلاَ كُلُّ مَنْ صَافَيْتَهُ لَكَ قَدْ صَفَا
إِذَا لَمْ يَكُنْ صَفْوُ الْوِدَادِ طَبِيعَةً *** فَلاَ خَيْرَ فِي وُدٍّ يَجِيءُ تَكَلُّفَا
وَلا خَيْرَ فِي خِلٍّ يَخُونُ خَلِيلَهُ *** وَيَلْقَاهُ مِنْ بَعْدِ الْمَوَدَّةِ بِالْجَفَا
وَيُنْكِرُ عَيْشًا قَدْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ *** وَيُظْهِرُ سِرًّا كَانَ بِالأَمْسِ قَدْ خَفَا
أمَّا الصديقة المتلونة ذات الوجهين، فلا تأمنيها على نفسكِ وقلبكِ وأسراركِ بأيِّ حال من الأحوال:
يَسْعَى عَلَيْكَ كَمَا يَسْعَى إِلَيْكَ فَلاَ *** تَأْمَنْ غَوَائِلَ ذِي وَجْهَيْنِ كَيَّادِ
ومتى وجدتِ صديقةً حقيقية واحدة، فاكتفي بها وتَمسكي بصُحبتها في الدُّنيا؛ حتى تلتقي معها في الآخرة في ظِلِّ الله يومَ لا ظل إلا ظله، فقد قال ابن مسكويه: "ولتكتفِ بواحدٍ -أي: صديق واحد- إن وجد، فإن الكمال عزيز"، ولقد كنتُ طيلةَ سنوات عمري صديقةً للجميع، أمَّا مَن أحسبها صديقتي، فلم تكن في الحقيقة إلا واحدة.
فَإِذَا ظَفِرْتَ بِذِي الْوَفَا *** ءِ فَحُطَّ رَحْلَكَ فِي رِحَابِهْ
فَأَخُوكَ مَنْ إِنْ غَابَ عَنْ *** كَ رَعَى وِدَادَكَ فِي غِيَابِهْ
وَإِذَا أَصَابَكَ مَا يَسُو *** ءُ رَأَى مُصَابَكَ مِنْ مُصَابِهْ
وَتَرَاهُ يَيْجَعُ إِنْ شَكَوْ *** تَ كَأَنَّ مَا بِكَ بَعْضُ مَا بِهْ
أنصحُك بقراءة كتاب (الأخلاق والسير في مداواة النفوس) لابن حزم الأندلسي، وكتاب (الصداقة والصديق) لأبي حيان التوحيدي، ففيهما من السلوِّ والعزاء الشيء الكثير؛ حيث يقول أبو حيان في مقدمته: "وسمعتُ الخوارزميَّ أبا بكر محمد بن العباس الشاعر البليغ يقول: "اللهم نفق سوق الوفاء فقد كسدت، وأصلح قلوبَ الناس فقد فسدت، ولا تُمِتْني حتى يبورَ الجهلُ كما بار العقل، ويموت النقص كما مات العلم"، وأقول: اللهم اسمع واستجب، فقد برح الخفاء، وغلب الجفاء، وطال الانتظار، ووقع اليأس، ومرض الأمل، وأشفى الرجاء، والفرج معدوم، وأظن أن الداء في هذا الباب قديم، والبلوى فيه مشهورة، والعجيج فيه معتاد"، والله المستعان.
أذكرك في الختام بأن تحافظي على قيمكِ الخُلقية، وتحصِّني نفسكِ بالأذكار، فكل ذي نعمةٍ محسود، وليست كل نعمة أنعمها الله علينا يُتحدَّث بها، وتذكري أنَّه لا يلدغ المؤمن من جُحرٍ مرتين، فتعلمي من أخطائكِ السابقة، واستفيدي من خبراتكِ الماضية لحياتكِ المستقبلية القادمة، وتوكلي على الله هو حسبكِ ونعم الوكيل.
دمتِ بألف خير.
عائشة الحكمي
- التصنيف:
- المصدر: