البساطة فن نبوي

منذ 2014-05-19

البساطة وسَطٌ بين التكلُّف واللامبالاة، فالتكلف إرهاق مادي ومعنوي، واللامبالاة لُؤم وسوء أدب، والبساطة ببساطة تعني الوضوح والسُّهولة والواقعية، وهي ضِدّ التشبُّع والتنطع والمبالغة، وأكبر وأصرحُ وأنبل من التواضُع الكاذب والزُّهد المزيف.

البساطة وسَطٌ بين التكلُّف واللامبالاة، فالتكلف إرهاق مادي ومعنوي، واللامبالاة لُؤم وسوء أدب، والبساطة ببساطة تعني الوضوح والسُّهولة والواقعية، وهي ضِدّ التشبُّع والتنطع والمبالغة، وأكبر وأصرحُ وأنبل من التواضُع الكاذب والزُّهد المزيف.

ولأنَّنا في زمن سيطرتْ فيه المظاهرُ، وأصبح التكلُّف سِمَةً مِن سِمَاته، وغدا التنافُس على الظهور بأحسن المظاهر شرطًا عرفيًّا للمُشاركة فيه، ولو كلف ذلك ما كلف، فلم تقتصرْ ولائم الأفراح على التكلُّف، حتى تعدَّى هذا الداءُ إلى ولائم الأحزان. ومُجاراة الآخرين في الظهور أصبح شيئًا مألوفًا وقانونًا اجتماعيًّا ابتُلِيَت به المجتمعات، وإنا لله وإنا إليه راجعون؛ مما سَبَّب لها مَزيدًا منَ العَناء والشقاء، والكَدِّ والهموم والدُّيون.

ومن المعلوم لدينا والمُقَرر عندنا أنَّ فَنَّ الحياة السعيدة نتعلمه مِن هدي نبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم في جميع جوانبها، ومِن ذلك قواعِد البساطة المنافية للتكلُّف، والبعيدة عن اللاَّمبالاة، وفي القصة التالية نلتمس بعضًا من تلك القواعد نستضيء بنورها ونَهتدي بدلالاتها:

القصة:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جَاء رجلٌ إلى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: "إنِّي مَجهُود"، فأرسلَ إلى بعضِ نِسائهِ، فقالتْ: "والذي بعثكَ بالحقِّ، مَا عندِي إلا ماءٌ"، ثُم أرسلَ إلى الأُخرى، فقالتْ مِثل ذلكَ حَتى قُلن كلُّهُن مثلَ ذلك: "لا، والذي بعثكَ بالحَق، ما عِندي إلا مَاء"، فقالَ: «مَن يُضيف هذا الليلةَ، رحمه الله»، فقام رجلٌ مِن الأنصَار فقال: "أنا، يا رسولَ الله"، فانطلقَ بهِ إلى رَحله، فقال لامرأتهِ: "هل عندكِ شيءٌ؟" قالت: "لا، إلاَّ قوت صِبيَتي"، قال: "فعلِّليهم بشيءٍ، فإذا دخلَ ضيفُنا، فأطفئي السِّراج، وأرِيه أنَّا نَأكل، فإذا أهوى لِيأكل، فقُومي إلى السراج حتى تُطفئيه"، قال: فقعَدوا وأكلَ الضيفُ، فلمَّا أصبحَ غَدا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقَال: «قد عَجبَ الله مِن صَنِيعِكُما بضيفِكُما الليلةَ»"؛ (رواه مسلم 5327).

البساطة وليس اللامبالاة:

يحصل أن يُمارس البعض الإهمالَ بحجة البساطة والبُعد عن التكلُّف، وهذه بساطة مذمومة، وهي إلى البخل أقرب، ولكن تأمَّل إلى البساطة الواقعية في هَدْيِ خَيْرِ البَرية صلى الله عليه وسلم يأتيه الرجل الذي يشكو الجوع، والجوع الشديد، الذي بلغ به من الجهد مَبْلَغه، فبكل بساطة ودون تكلُّف يرسل إلى نسائه الواحدة تِلْوَ الأخرى؛ ليبحثَ عَمَّا يقيم به صُلب هذا المجهود، فيكون الرد بألاَّ يوجد شيء يُمكن أن ينفعَ هذا الضيف الجائع، لم يتغير أو يحمرَّ وجهه أو يبحث عن أي مخرج من هذه (الورطة) والموقف المحرج، كما يحسبه البعض في زمن التكلُّف، فقد جاء الرد من الأولى بأنه بكل بساطة وبكل واقعية: لا يوجد عندها إلاَّ الماء، فأرسل للأخرى، وهكذا كان جوابهن واحدًا، وهذه الحال في أعظم بيت، وأرفع بيت في الدنيا.

البساطة تعني الواقعية والحقيقة، فحتى نساؤه صلى الله عليه وسلم لم يقلن: إنَّ الناس سيضحكون، ويشمتون، ويستهزئون، كما تفعل نساؤنا اليومَ؛ إذ لَم يَتظاهَرْن بما ليس عندهن، ويتكلَّفن فوق طاقتهن، بل قلن جوابًا واحدًا من غير اتِّفاق: إنَّه لا يوجد إلا الماء.

فالبيت الذي يقدم لضيفه ما عنده دون بُخل أو إهمال، فقد أكرم بما يَملك، وهل بعد الإكرام بما يَملك المرء إكرام؟!

الكرم الحقيقي:

الكرم من المعاني التي انحرف مسارُها، وتغيَّرتْ ملامِحُها، ورُبَّما حقيقتها، وأصبح الكرم مقرونًا بالإسراف إلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي؛ بسبب التكلف، وغياب مفهوم البساطة الحقيقي.

فصاحب الوليمة مثلاً يستدين، ويتكلف فوق طاقته حتى يبدوَ كريمًا، وإن كان وجهه عَبوسًا، وهَمُّه مصروفًا عن ضيوفه، وفكره مشغولاً بديونه التي تَسَبَّب فيها الضيوفُ الأعزاء، إنَّها مأساةٌ سَبَبُها التكلُّف والظهور بغير الحقيقة.

ونَسِيَ المجتمعُ أن الكرمَ الحقيقي هو كرم النفس، والمُحَيَّا، وحُسن الخلق، وبشاشة الوجه، وطلاقته، والابتسامة الصادقة، وفرح القلب، وإلاَّ ماذا تُغني الولائمُ الكبيرة، والمُحملة بأصنافِ المأكولات، والمُحاطة بأنواعِ المشروبات، بينما وجوه أهلها مُكْفَهِرَّة عابسة مهمومة، يَجلس الضيفُ وكأنَّه على جَمرٍ مما يرى من ضيق الوجوه، ويخرج وهو مستثقل نفسه عازمًا ألاَّ يعود، حاملاً هَمَّ تسديد الدين، دين هذه الضيافة التي أصبح شرطُ حضورها مُقابلتَها بالمثل إن لم يكنْ بما يفوقها.

النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يقف دون أن يتكلف؛ ليبحثَ لضيفه عن طعام عند نسائه، فلما لم يَجد لم يكلفْ نفسَه ما لا يَملك ولا يَجد، ولا أظن أنه يتطرق لذهن أحدنا، ولا ينبغي ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كريمًا، ومع ذلك هذا الكريم العظيم كان كرمُه بقَدْرِ حاله، وبحقيقته، وببساطته، وبإشعاره لضيفه بالاهتمام، وإن كان الأكلُ شيئًا بسيطًا، بل لم يكن شيئًا.

فإلى المتكلفين والمتنطعين في حياتهم لا تُرهقوا أنفسَكم، فمهما فعلتم، فلستم بأكرمَ من سيدِ الخلق، فما عليكم إلاَّ الكرم بما تَملكون وما تستطيعون، أما أن تُكلِّفوا أنفسَكم فوق ذلك، فإليها تُسيئون، وعليها تَجنون، ولتعلموا أنَّ الكرمَ الحقيقي هو كرمُ الأخلاق، وصدق المشاعر مهما كانت الماديات قلةً أو كثرة، والناس وإن أكلوا يمدحون الأكل في لحظته، لكن تبقى في أذهانهم الأخلاقُ وكرم التعامُل، فقلما ينسونها.

البساطة راحة بال:

يُتعب البعضُ نفسَه بنفسه؛ بسبب تكلُّفه، فإذا همَّ بالقيام بشيء، فكر به متكلفًا، فتتضاعف الجهود والأموال، وتزداد المراعاة، وحسبان الآخرين؛ حتى تصبحَ الإضافات على الفكرة أكثرَ اهتمامًا من الفكرة نفسها، فمثلاً: شراء سيارة، أو بناء بيت، أو الزواج، أو حفلة لمناسبة معينة، أو تأثيث منزل، أو شراء فستان، أو زيارة عائليَّة، أو غيرها، حتى وصل الأمر إلى قضايا تربوية.

فالشكلية والتحسينات والمقارنة بفلان وآل فلان وآخر الموديلات، وتتبع الموضات مواصفات مُهِمَّة لا بُدَّ من مراعاتِها مهما كلف الأمر ماديًّا ومعنويًّا!

ويعيش أولئك في همٍّ متواصِل في حياتهم؛ لأَنَّهم إذا أولموا تكلفوا، وإذا دُعوا تكلفوا، وإذا لبسوا تكلفوا، وإذا أهدوا تكلفوا، وإذا فرحوا تكلفوا، وإذا أُصيبوا بمصيبة وحزن تكلفوا، وإذا جاءت المناسبات تكلفوا، وإذا تغيَّرت الموديلات تكلفوا، حتى إذا تكلموا تكلفوا، فهُم في حرب نفسية غير عادية؛ لأَنَّهم من الداخل يُصارِعون حقيقتَهم، التي يظهرون للناس خِلافها، فمِن أكثر الناس عذابًا داخليًّا وصراعًا نفسيًّا مَن ابتُلِيَ بالتكلُّف والتشبع بما لا يَملك ولم يُعطَ.

تصور الهمّ الذي سينزل بالرجل المتكلف إذا جاءه ضيفٌ وليس عنده إلاَّ طَعامٌ متواضعٌ وقد يكون كافيًا، وتصور أيَّ مصيبة ستحل بالمرأة المتكلفة إذا جاءتها زائرة ولم تكنْ مُستعدة بأضعاف أضعاف ما ينبغي، وربَّما يسقط في أيدي البعض -وخاصة من النساء- إذا فاجأتهم دعوة عاجلة فيها تعرض آخر موديلات الملابس ولم يستعدوا لها. إنَّها حياة مُتعبة، وقلق دائم، لكن يُمكن التخلُّص منه بقناعة تامَّة بالواقعية والبساطة المستقاة مِن مِشكاة النبوة.

جميع نسائه يتَّفقن في الرد بأنَّه لا يوجد ما يُطعم به ضيفه، فلا قَلَقَ ولا حَرَج ولا تمني أن تنشق الأرض؛ لأن هذا هو الواقع.

البساطة أمان اجتماعي:

مما يُسبب التكلف هو سيطرة بعض العادات وانتشارها في المجتمع؛ ولذلك كثير ممن يتكلف يقوم بذلك وهو كاره، لكنَّ سيفَ العادة وسُلطة المجتمع أكرهتْه على القيام ببعض الأعمال على غير قناعة ودونَ رضا؛ ولذا فإنَّ بعض العادات تُمَثِّل رهبةً اجتماعيةً غير عادية، وتُعَدُّ دافعًا للتنفيذ بنسبة عالية يبحث عنها المحفزون لأعمال الخير والبر.

وثقافة المجتمع تلعب في ذلك دورًا كبيرًا ومُهِمًّا، فلذا من أهم عوامل بناء المجتمعات نشر الوَعي وتعميم الثقافة على جميع شرائحه، كما أنَّ دَوْرَ الطبقة المثقفة ومناط القدوة أن تقوم بالمبادرة إلى تبني العادات الحميدة، وتجنُّب العادات السيئة؛ لتكونَ عاملاً مساعِدًا على تقليل ضررها إن لم يكنْ إزالتها بالكُلية.

لما كانتْ ثقافةُ البساطة الطبيعية مُنتشرة في مُجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما كانت القدوة على رَأْسِ مَن يُحقق هذه الثقافة موجودة، أخذ الأنصاري رضي الله عنه الضيفَ وهو لا يدري ما في بيته، ولَمَّا وصل وجد أنَّه لا يوجد إلا طعامُ صبية، فبِكُل بساطة ودونَ حرجٍ أو ارتباك أدخل الضيفَ، واحتالَ بما لا يُحرج الضيف؛ إذ لو رأى الضيفُ أنَّهم لا يأكلون، فقد يترك الطعام أو يتحرَّج، وانتهت المسألة بطعام صبية إلاَّ أنه هو الذي كان متوفرًا دونَ تكلف، ولا حاجةَ لفتح ملف تَحقيق مع الزوجة كما يفعل بعضُ الأزواج، أو لنشر سيل من العتاب والجرح للزوج، كما تفعل بعض الزوجات.

لَمَّا كانت البساطة ثقافةً، حصل أمانٌ اجتماعي ونفسي غير عادي، فلا الكبير يحرج، ولا الصغير يتعب، والكل يعيشون بسلام، وهذا أهمُّ عاملٍ من عوامل السعادة؛ أي: عامل الأمان الاجتماعي.

وأخيرًا:

البساطة لا تعني بحال ألاَّ تتنعمَ بما رزقك الله، وألاَّ تتجمل بما أحل، وإنَّما تعني ألاَّ تتكلَّف ما لا يُملِّكك الله، وألاَّ تجحد ما أعطاك الله.

البساطة كلمةٌ طيبة كشجرةٍ طيبة، تؤتي ثِمارَها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، ينعم بها الفردُ والمجتمع، أفلم يعلم الذين يصرُّون على التكلف أنهم يحرمون أنفسَهم من نعيمٍ لو يعلم به الملوك والتُّجار، لاشتروه بأنْفَسِ الأثمان، ولكن {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، أما التكلف فلو كان يُشترى لعُدَّ في السفهاء من يَشتريه، ويحق لوليه أنه يحجر عليه، وكذا اللاَّمبالاة لو كانت من الفاكهة، لعُدَّت من أردئها وأدناها، ولا تصلح إلاَّ علفًا للدواب.

وتبقى الحاجة إلى نشر ثقافة البساطة قائمة، وخاصة مع إصرار المجتمع على نسيانها وإهمالها.

نسأل الله العلي الكريم أن يوفقنا إلى ما فيه صلاح ديننا ودُنيانا، وأن يهدينا إلى أحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، وأن يرضى عنا، وصلى الله على محمد وآله وسلم. 

 

نبيل بن عبد المجيد النشمي