أسباب هلاك الأمم في ضوء القرآن والسنة

منذ 2014-05-20

كم من أمةٍ كانت آمنةً مُطمئنَّةً تُجبَى إليها ثمراتُ كلِّ شيءٍ، ويأتيها رزقُها رغدًا من كل مكانٍ، لم يخفِق فيها قلبٌ من خوفٍ، ولم تتضوَّر نفسٌ من جوعٍ، فانقلبَت أحوالُها في طرفةِ عينٍ، فإذا بالنعمةِ تزول، وإذا بالعافيةِ تتحوَّل، وإذا بالنِّقمةِ تحِلُّ.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.

ثم إن خيرَ الوصايا: الوصية بتقوى الله تعالى، فما جاوَرَت قلبًا إلا سلِم، ولا خالطَت عقلاً إلا رجِح، وما تلبَّس بها أحدٌ إلا صلح: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70- 71].

أيها المسلمون: كل البشر يسعَون إلى الحياةِ الهانِئة السعيدة، ويُسخِّرون كل إمكاناتهم وطاقاتهم لتجنُّب أسباب الشقاء والعذاب، فضلاً عن الفناءِ والهلاكِ، فإذا تحقَّق لهم خيرٌ حافَظوا عليه بكل الوسائل وخافوا من فواته أو نقصِه.

وكم من أمةٍ كانت آمنةً مُطمئنَّةً تُجبَى إليها ثمراتُ كلِّ شيءٍ، ويأتيها رزقُها رغدًا من كل مكانٍ، لم يخفِق فيها قلبٌ من خوفٍ، ولم تتضوَّر نفسٌ من جوعٍ، فانقلبَت أحوالُها في طرفةِ عينٍ، فإذا بالنعمةِ تزول، وإذا بالعافيةِ تتحوَّل، وإذا بالنِّقمةِ تحِلُّ.

وكم حكَى الزمانُ عن دولٍ وأممٍ وأفرادٍ وجماعات أتَت عليهم عقوباتٍ تستأصِلُ شأفتَهم، وتمحُو أثرَهم، لا ينفعُ معها سلاحٌ ولا تُغني معها قوَّةٌ، وكلُّ أحدٍ من البشر له مدفعٌ ومنه حِيلة، ولا ملجأَ من ربِّنا ولا منجَا منه إلا إليه، فهو القويُّ القاهِر، والعزيزُ القادِر، وهو العظيمُ الذي لا أعظمَ منه.

ولله مع خلقهِ أيامٌ وسُنن، فأين ثمود وعاد؟! وأين الفراعِنةُ الشِّدادُ؟! أين من قدُّوا الأرضَ ونحَتوا الجبال، وحازوا أسباب القوة واحتاطوا للنوائِب؟! لما نسُوا اللهَ أوقعَ بهم بأسَه، فصاروا بعد الوجودِ أثرًا، وأصبحوا للتاريخ قصصًا وعِبرًا: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [العنكبوت:40].

عباد الله: إن سنةَ الله لا تُحابِي أحدًا، وليس لفردٍ ولا لمُجتمعٍ حصانةٌ ذاتيةٌ، وحين تُقصِّرُ أمةٌ في توقِّي أسباب المصائب العامة فإن عليها أن تتقبَّل نتيجةَ التقصير، والسعيدُ من اتَّعَظَ بغيره، وليست أمةٌ بمنأَى عن العذابِ إذا عقَدَت أسبابَه، ولا في مأمنٍ من العقابِ إن سلَكَت سبيلَه وفتحَت للذنبِ أبوابَه، ولذلك أكثرَ الله تعالى من وعظِ هذه الأمةِ بمصارعِ الأمم الغابِرة، وحذَّر الآمنين من مكرِه الذين لا يُقدِّرون اللهَ حقَّ قدره، ولا يقِفون عند نهيِه وأمرِه، فقال عز وجل: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون . أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِين . أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيم} ، وقال عز وجل: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُون . أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُون . أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون . أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون} [الأعراف: 97- 100].

إن الأمنَ من مكر اللهِ كبيرةٌ من الكبائِر، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: "الكبائِرُ: الإشراكُ بالله، والأمنُ من مكرِ الله، والقنوطُ من رحمة الله، واليأسُ من روحِ الله" (رواه الطبراني والبيهقي) .

ولهذا كان أعرفُ الخلقِ بربِّه وأخشاهم له صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، فسُئِل عن ذلك فقال: « "ما يُؤمِّنُني أن يكون فيه عذابٌ، قد عُذِّبَ قومٌ بالريح، ورأى قومٌ العذابَ فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]"» (متفق عليه) .

أيها المسلمون: لقد أخبرَ عليه الصلاة والسلام عن أنواع المصائب التي كان يخشَى أن تنزل بأمَّته، وحذَّرَهم من أسبابِ نزولها، فقال: «يا معشر المُهاجِرين: خمسٌ إذا ابتُليتُم بهنَّ وأعوذُ بالله أن تُدرِكوهن: لم تظهر الفاحِشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلا فشَا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضَت في أسلافِهم الذين مضَوا، ولم ينقُصوا المِكيالَ والميزانَ إلا أُخِذوا بالسنين وشِدَّة المَؤونَة وجَور السلطان عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطَروا، ولم ينقُضوا عهدَ الله وعهدَ رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخَذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تحكُم أئمتُهم بكتابِ الله ويتخيَّروا مما أنزلَ اللهُ إلا جعلَ اللهُ بأسَهم بينهم» (أخرجه ابن ماجه، والحاكمُ وصحَّحه، ووافقَه الذهبيُّ). 
 

فظهورُ الفاحِشةِ في واقعِ المُسلمين وفي وسائل الإعلام، والتطفيفُ في المُعاملات، ومنعُ الزكاةِ، وخِيانةُ الأمانة، ونقضُ العهود، وتحكيمُ الهوى ونبذُ الشريعة، تلك هي أكبرُ أسباب المصائب العامة التي إذا نزلَت بقومٍ لم يسلَم من وطأَتها أحدٌ.

ومن أسباب العقوبات العامة: ما أخبرَ عنه المُصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «في هذه الأمةِ خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ". فقال رجلٌ من المُسلمين: يا رسول الله: ومتى ذاك؟! قال: "إذا ظهرَت القَيناتُ والمعازِف، وشُرِبَت الخُمور» (رواه الترمذي).

قال ابن القيم رحمه الله: "المسخُ واقعٌ في هذه الأمةِ ولا بُدّ، وهو في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلَبوا دينَ الله وشرعَه، فقلبَ الله تعالى صُورَهم كما قلَبوا دينَه، والمُجاهِرين المُتهتِّكين بالفسقِ والمحارِم، ومن لم يُمسَخ منهم في الدنيا مُسِخ في قبره أو يوم القيامة".

أيها المؤمنون: إن المسؤولية في المُجتمع على كلِّ فردٍ فيه، وجاء الأمرُ باتقاءِ المصائب العامة مُوجَّهًا إلى كل أحدٍ، كلٌّ بحسَبِه، قال الله عز وجل: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أمرَ اللهُ المؤمنين أن لا يُقِرُّوا المنكرَ بين ظهرانَيهم، فيعُمَّهم اللهُ بالعذابِ، يُصيبُ الصالحين منهم ما أصابَ الناسَ، يهلِكون مهلكًا واحِدًا، ويصدُرون مصادر شتَّى، يبعثُهم الله على نيَّاتهم".

عباد الله: إن اتقاءَ هذه المصائب العامة لا يكونُ إلا بتوقِّي أسبابها، والظلمُ من أعظم أسباب العذاب العام، فبسببه هلَكَت الأممُ السالِفة والقرونُ الخالية، وبسببه تسقُط الدولُ، وتهلَك القُرى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59]، {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِين} [الأنبياء: 11].

والله عز وجل يُمهِلُ ولا يُهمِلُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اللهَ ليُملِي للظالمِ حتى إذا أخذَه لم يُفلِته، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد} [هود: 102]» (أخرجه البخاري).

فاحذَروا ظلمَ العباد وهضمَ حقوق العُمَّال والضعفاء، فضلاً عن المظالمِ العامة التي يطالُ ضررُها الكثيرين.
ومن الظلمِ: خُذلان المظلوم والتخلِّي عن نُصرته، فإن ذلك مُؤذِنٌ بالعقوبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الناسَ إذا رأوا الظالمَ فلم يأخُذوا على يديه أوشكَ أن يعُمَّهم الله بعقابٍ» (أخرجه الترمذي)، وقال: حديثٌ صحيحٌ.

وأشدُّ الظلمِ ما يُسبِّبُ فواتَ الدين أو النفسِ أو العرضِ  أو المالِ.
أيها المؤمنون: والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكر أمَنَةٌ من العذابِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون} [هود: 117]، فما أعظمَ بركةَ المُصلِحين، وما أقبحَ أثرَ الناسِ عليهم!

ومن سُنَّةِ اللهِ في عباده: أن المُنكَر إذا فشَا فيهم ولم يُغيِّروه فإن العقوبةَ تشملُهم والعذابَ يعُمُّهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اللهَ عز وجل لا يُعذِّبُ العامةَ بعملِ الخاصَّة حتى يرَوا المُنكَرَ بين ظهرانَيهم، وهم قادِرون على أن يُنكِروه فلا يُنكِروه، فإذا فعَلوا ذلك عذَّبَ اللهُ الخاصةَ والعامةَ» (أخرجه الإمام أحمد، وحسَّنه الحافظُ ابن حجر).

وعن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثَلُ القائمِ على حُدود الله والواقعِ فيها كمثَل قومٍ استَهَموا على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلِها مرُّوا على من فوقَهم، فقالوا: لو أنَا خرَقنا في نصيبِنا خرقًا ولم نُؤذِ من فوقنا، فإن يترُكوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعًا» ( أخرجه البخاري).

وعن زينب بنت جحشٍ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا إله إلا الله، ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترَب، فُتِح اليوم من ردمِ يأجُوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه. وحلَّقَ بأُصبعه الإبهام والتي تلِيها. قالت زينبُ: فقلتُ: يا رسول الله: أنهلكُ وفينا الصالِحون؟! قال: نعم، إذا كثُر الخبَثُ» . (متفق عليه، واللفظُ للبخاريِّ).

وأخرج الإمامُ أحمد، والترمذي وحسَّنه من حديثِ حُذيفةَ بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرنُّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المُنكَر، أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تدعُونَه فلا يُستجابُ لكم». 

وقال عليه الصلاة والسلام: «ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي ثم يقدِرون على أن يُغيِّروا ثم لا يُغيِّروا إلا يُوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ» (أخرجه الإمام أبو داود).

عباد الله: ومن أسباب العقوبات العامة: كُفران النِّعم: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون} [النحل: 112]، الجوعُ والخوفُ شبَحٌ يُرعِبُ كلَّ الأحياء، ولقد قال: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِولم يقُل: كفَرَت باللهِ؛ ذلك أن كُفران النِّعَم سبب الجُوع والخوف، وسببُ الفتن والاضطرابِ في الأمن والمعايِش، وإنما تثبُت النعمةُ بشُكر المُنعِم.

وإن اللهَ تعالى أعطَى فأجزَل، وأنعمَ فتفضَّل: {وآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، وقد وعدَ سبحانه وأوعدَ، فقال وهو القادِر: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد} [إبراهيم: 7].

ومن كُفران النِّعَم: الإسرافُ والتبذيرُ، وإهانةُ الطعام، والطغيان، والتباهِي بما يجلِبُ سخطَ اللهِ ومقتَه.

أيها المسلمون: ومن أسباب العقوبات العامة: الغفلةُ والإغراقُ في اللهو والعبَث جاء في المُسند عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « «إذا رأيتَ اللهَ يُعطِي العبدَ من الدنيا على معاصيه ما يُحِبُّ، فإنما هو استِدراجٌ. ثم تلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون} [الأنعام: 44]».

قال الحسنُ رحمه الله: "مكِر بالقومِ وربِّ الكعبة أُعطُوا حاجتهم ثم أُخِذوا". وقال قتادة: "بغَتَ القومَ أمرُ الله، وما أخذَ اللهُ قومًا قطُّ إلا عند سَكرتهم وغِرَّتهم ونِعمتهم".

فلا تغترُّوا باللهِ، إنه لا يغترُّ إلا القومُ الفاسِقون، وحاذِروا الترَفَ، والرُّكونَ إلى الدنيا والتسابُقَ فيها؛ فإنه الداءُ الذي أهلكَ الأممَ السابقة، وهو ما حذَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمتَه منه، حين حذَّرَها من فتنةِ الدنيا والتسابُق فيها، فقال: «فواللهِ ما الفقرَ أخشَى عليكم، ولكن أخشَى أن تُبسَطَ عليكم الدنيا كما بُسِطَت على من كان قبلَكم، فتنافَسُوها كما تنافَسُوها، وتُهلِكَكم كما أهلكَتهم» (متفق عليه).

وقال: «إني مما أخافُ عليكم من بعدي ما يُفتَحُ عليكم من زهرة الدنيا وزِينتها» ( متفق عليه).
ومن أعظمِ أسباب العقوبات العامة: انتشارُ الفواحِش والزنا، وأسباب الفُسوق المُؤدِّية إليها، قال الله عز وجل: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لم تظهَر الفاحِشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلا فشَا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضَت في أسلافهم الذين مضَوا» (أخرجه ابن ماجه، والحاكمُ وصحَّحه).

فحافِظوا على أمنِكم أيها المؤمنون، وحاذِروا غضبَ الجبَّار، وتوقَّوا أسبابَ غضبه لعلكم تتقُون.

باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.


الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضوانه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابِهِ ومن تبِعَهم بإحسانٍ.

عباد الله: والسببُ الذي ترجِعُ إليه كلُّ أسباب العقوبات العامة بعد الشركِ بالله: هو الذنوبُ والمعاصِي فهي التي تُزيلُ النِّعَم، وتُحِلُّ النِّقَم، وتُحدِثُ في الأرضِ  أنواعًا من الفساد في الماء والهواء، والزروعِ والثِّمارِ، والمساكِن والأرزاق، والأمنِ وسائرِ الأحوال، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} [الروم: 41]، وقال سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين} [الأنعام: 6] ، وقال سبحانه: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ}، وقال عزَّ من قائلٍ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير} [الشورى: 30].

وما المعاصي إلا خرابٌ للديارِ العامِرة، وسلبٌ للنِّعَم الظاهِرة والباطِنة، فبادِروا بالتوبةِ والاستِغفار؛ فذلك أمانٌ من العذابِ: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون} [الأنفال: 33]، الاستِغفارُ سببٌ لرحمةِ الله ولُطفه، {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} [النمل: 46].

وكذا الإيمانُ والتقوى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ } [الأعراف: 96]، أما إذا غيَّر العبادُ أو بدَّلوا فإن سننَ الله لا تُحابِي.

اللهم إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءة نِقمتك، وجميعِ سخَطك.

هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على النبي المُصطفى والرسول المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.


صالح بن محمد آل طالب

المصدر: ملتقى الخطباء