خير الخاتمة
حسن الخاتمة هو: أن يوفَّق العبدُ قبل موته للابتعاد عما يُغضب الربَّ سبحانه والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.
عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال صلَّى الله عليه وسلَّم:
«إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا طهَّره قبل موته»، قالوا: "وما طهور العبد؟" قال: «عملٌ صالحٌ يُلهمه إياه حتى يقبضَه عليه» (رواه الطبراني، صحيح، حديث رقم:306 في صحيح الجامع).
الحمد لله الذي وسِعت رحمتُه كلَّ شيء، وأحصى كلَّ شيء عددًا، رحِم من شاءَ من عباده؛ فهيَّأ لهم في الدنيا ما يرفع به درجاتِهم في الآخرة، فثابروا على طاعتِه، واجتهدوا في عبادته، إنْ أصابتهم سرَّاءُ شكروا؛ فكان خيرًا لهم، وإن أصابتهم ضرَّاءُ صبروا؛ فكانوا ممن قال الله فيهم: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
أمَّا بعد:
فقد نبَّه الله في كتابه جميع المؤمنين إلى أهمية حسنِ الخاتمة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
وحسن الخاتمة هو: أن يوفَّق العبدُ قبل موته للابتعاد عما يُغضب الربَّ سبحانه والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.
أما الخاتمة السيِّئة، فهي: أن تكون وفاة الإنسان وهو مُعرِض عن ربِّه جل وعلا، مقيم على مساخِطِه سبحانه، مضيِّع لِما أوجب الله عليه، ولا ريب أن تلك نهايةٌ بائسة، طالما خافها المتَّقون، وتضرَّعوا إلى ربهم سبحانه أن يجنِّبهم إياها.
وقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة خوفًا شديدًا، قال سهل التستري: "خوف الصدِّيقين من سوء الخاتمة عند كل خَطرة وعند كل حركة، وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال: {..وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ..}" [المؤمنون:60]، لأجل ذلك كان جديرًا بالعاقل أن يحذَرَ مِن تعلُّقِ قلبه بشيء من المحرَّمات، وجديرًا به أن يُلزم قلبَه ولسانَه وجوارحَه ذكرَ الله تعالى، وأن يحافظ على طاعةِ الله حيثما كان من أجل تلك اللحظة، التي إن فاتَت وخُذِل فيها، شقِيَ شقاوة الأبد.
قال المناوي في تعليقه على حديثنا الجليل: «إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا طهَّره قبل موته»، قالوا له: "وما طهور العبد؟"؛ أي: ما المراد بتطهيره؟ قال: «عملٌ صالحٌ يُلْهَمه»؛ أي: يُلهِمه الله تعالى إيَّاه، والإلهام ما يُلقى في الرُّوع بطريق الفيضِ، ويدوم كذلك «حتى يقبضَه عليه»؛ أي: يميتَهُ وهو متلبِّس به، فمن أراد الله به خيرًا طهَّره من المادَّة الخبيثة قبل الوفاة؛ حتى لا يحتاجَ لدخول النار ليطهِّره، فيلهمه الله تعالى التوبة، ولزوم الطاعات، وتجنُّب المخالفات، أو يصاب بالمصائب وأنواع البلاء المكفرات؛ ليطهُرَ من خبائثه مع كراهته لِما أصابه: {..وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ..} [البقرة:216]؛ ولهذا كان الأبُ أو الأمُّ يسوق لولده الحجَّام أو الطبيب ليعالجه بالمراهم المؤلمة الحادَّة، ولولا إطاعة الولد لَما شُفِي" (فيض القدير للمناوي:1/54 بتصرف).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد اللهُ بعبدٍ خيرًا استعمله»، قيل: "كيف يستعمله؟" قال: «يوفِّقُه لعمل صالح قبل الموت ثم يقبضه عليه» (رواه أحمد والترمذي عن أنس، صحيح رقم:305 في صحيح الجامع)؛ أي: يُلهمه التوبة وملازمة العمل الصالح كما يحب وينبغي؛ حتى يملَّ الخلقَ ويستقذرَ الدنيا، ويحنَّ إلى الموت ويشتاقَ إلى الملأ الأعلى، فإذا هو برسل الله تعالى يَرِدُون عليه بالرَّوحِ والرَّيحان، والبُشرى والرضوان، من ربِّ راضٍ غيرِ غضبان، فينقلونَه من هذه الدار الفانية، إلى الحضرة العالية الباقية، فيرى لنفسه الضعيفة الفقيرة نعيمًا مقيمًا، وملكًا عظيمًا.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عَسَله»، قيل: "وما عَسَله؟" قال: «يفتح له عملاً صالحًا قبل موته ثم يقبضُه عليه» (رواه أحمد والطبراني عن أبي عنبة، صحيح انظر حديث رقم:307 في صحيح الجامع).
قال المناوي: "«إذا أراد اللهُ بعبد خيرًا عَسَله»؛ أي: طيَّبَ ثناءه بين الناس من عسل الطَّعامَ يعسلُه: إذا جعل فيه العسَل، (قيل)؛ أي: قالوا: يا رسولَ الله، (وما عسله)؛ أي: ما معناه؟ قالَ: «يفتح له عملاً صالحًا قبل موته، ثم يقبضه عليه» شبَّه ما رزقه اللهُ من العمل الصالح الذي طاب ذكرُه وفاح نشرُه بالعسل، الذي هو الطَّعام الصالح الذي يحلو به كلُّ شيء، ويصلح كل ما خالطه" (فيض القدير للمناوي:2/45 بتصرف).
ولقد حفل تاريخنا بقِمَم من الذين رزقهم الله خير الخاتمة، فعن أمِّ هشام الطائية قالت: "رأيت عبدَ الله بن بسر يتوضَّأ فخرجَتْ نفسُهُ رضي الله عنه"، ومات حُميدٌ الطويل وهو قائم يصلِّي، ومات حماد بن سلمة في الصلاة في المسجد، وقال أبو بكر العطوي: "كنت عند الجُنيدِ لَمَّا احتُضر، فختم القرآن ثم ابتدأ سورة البقرة، فتلا سبعين آيةً ومات".
ولما حضرت إبراهيمَ بنَ هانئ الوفاةُ، قال: "أنا عطشان، فجاءه ابنه بماءٍ، فقال: أغابت الشمس؟ قال: لا، فرده وقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، ثم مات.
وقال ابن سكينة: "كنت حاضرًا لما احتُضِر إسماعيلُ بن أبي سعيد النيسابوري، فقالت له أمي: يا سيِّدي، ما تجد؟فما قدَر على النطق، فكتب على يدها: {..فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة:89]" ثم مات.
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف:
- المصدر: