قيمة الوقت

منذ 2014-05-24

إن الحياة رحلة قصيرة تتمثل في: الدقائق الفاصلة بين الآذان والصلاة، فعندما يولد مولود يؤذن في أذنه، ويوم يموت يصلى عليه، والعوائق خلال هذه الدقائق جمة والعقبات كثيرة.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

أيها الإخوة المعطلون:
إن أهم ما يملك الإنسان عمره ذلكم الحيز المحدود في أعوام أو ساعات أو دقائق، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة: العصر]. قال بعض العلماء: العصر مطلق الزمن، وقد بين صلى الله عليه وسلم ما للوقت م? قيمة، إذ هو الحياة كما جاء في حديث عبد الله بن بسر -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من طال عمره وحسن عمله» (1).

ولكنه وبكل أسف يوجد من لا يشعر بقيمة هذا الوقت فيستغله استغلالاً رخيصاً قائماً على التأجيل والعجز، فيمضي وقته بلا فائدة في كلام فارغ وفي مناقشات عقيمة، أو في عمل لا يعود عليه بالخير الأمر الذي لا ينسجم مع معرفة الإنسان بهدفه الذي يدعوه إلى اغتنام فرصة العمر (الوقت).
 

دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثوان

إخواني الأعزاء:
لو أن أحدنا قرب سفره ودنا إقلاع طائرته وله مهام لا بد من إنجازها قبل سفره فإن حرصه على الوقت يكون منقطع النظير، فتجده معرضاً عن كل لغو، عن كل عمل لا يدخل في مهامه.. فالإقلاع وقته محدد، مما يستدعي رسم خطة دقيقة لتنفيذ المهام من أجل إنجازها في الحيز الزمني المتاح، وهكذا المؤمن يعلم أن وقته محدود، وأن وقت إقلاعه من هذه الدنيا وسفره منها قريب، فهو سباق مع الزمن -العمر- ينظمه ويستغله الاستغلال الأمثل فلا يسوف ولا يكسل: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. فوجهة المؤمن طلب مرضاة ربه فيسابق في الخيرات وينافس في الطاعات ما دامت الفرصة متاحة.. فالموت لا يعرف الاستئذان، ولا يكن منه حصن ولا مكان {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا}[البقرة: 148]. {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [البقرة: 78].  فالمسابقة والمسارعة المطلوبة شرعاً في المبادرة إلى الخيرات إنما هي: لوضع مؤشر الخطر في محدودية الوقت {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْ?ُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133- 136]. فالمسارعة تعني: (هناك وقتاً لا يتسع لسوى المهام التي قدر القيام بها داخل حيزه وفي إطاره) هذه المسارعة التي أثنى الله تعالى بها على خيرته من عباده ?للأنبياء-: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].

قرائي الكرام:
إن الحياة رحلة قصيرة تتمثل في: الدقائق الفاصلة بين الآذان والصلاة، فعندما يولد مولود يؤذن في أذنه، ويوم يموت يصلى عليه، والعوائق خلال هذه الدقائق جمة والعقبات كثيرة «بادروا بالأعمال الصالحة سبعاً: فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزا،ً أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر» (2). فهل ينتظر الواحد إن قدر له أن عاش إلا ذلك الفقر المدقع المنسي، أو ذلك المال الوفير الذي يحمل صاحبه على: (الطغيان والمعصية والعدوان والكبر وأكل أموال الناس بالباطل) أو ذلك المرض العضال المحول لمعاني حياته إلى جحيم لا يطاق، أو ذلك الهرم المفند الذي هو أرذل العمر حيث تضعف الذاكرة ويثقل الظل وتخور القوى ويرتعش الأعضاء.. ماذا ننتظر؟ أم ننتظر ذلك الموت الذي لا يأتي إلا بغتة ليستل فريسته من بين أهله وأولاده وهو في قمة نشوته أحياناً ليسلبه كل شيء.. أما أننا ننتظر الدجال وهو شر غائب ينتظر، أم الساعة وهي أدهى وأمر.. إنها أمور خطيرة تستدعي السرعة واتخاذ القرار المناسب لمقتضيات الموقف.

إخوتي الكرام:
إننا مضطرون إلى مسابقة الزمن فمهامنا كثيرة وزمننا قصير ومؤشر السفر قد أزف: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل, ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» (3).
إن هذا الحديث يحثنا على الاهتمام بالطاعة والمبادرة إلى الخلاص من المعصية، والإكثار من البذل في الأموال والنفوس لله جل شأنه، لتملك ذلك المثمن الغالي ألا وهو: (الجنة) فلنبادر إلى الإدلاج مسرعين إسراع الخائف، فالخوارم قائمة والوحشة طويلة، والليل والنهار يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد، ويطويان الأعمار ويشيبان الصغار ويفنيان الكبار.. وفي ذلك من الآيات ما فيه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ففي كل يوم تحيا أرض كانت مواتاً ويخضر نبات ويزهر، ويقطف زرع وتتحول هشيماً تذروه ?لرياح: (يتكون جنين، ويشب وليد، كهول يشيخون...) والموت للكل بالمرصاد ألا يعني ذلك أن الوقت يمر سريعاً!

إخوتي القرّاء:
إن دولة الحياة واختلاف ظروفها وأحوالها وتقلبها بين: (الشدة والرخاء، واليسر والعسر، والسرور والحزن، والصحة والسقم، والغنى والفقر) كل ذلك يدعوا إلى الاعتبار {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44]. إن من عرف قيمة الوقت وأدرك خطورة ضياعه وأيقن أنه محدد موقوت دعاه ذلك إلى تنظيمه والعض عليه بالنواجذ، والحرص على توظيفه فيما يرضي الله تعالى، من تدارس لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وحضور لمجالس العلم، والتعرف على حياة الصحابة -رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان- فلا بد أخي القارئ أن تكسب رزقك من طرقه المباحة، وتكون يدك هي العليا، وتحسن وتنفق على أهلك وأولادك، وأقاربك والمستحقين من المسلمين...
«حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه عن نفسه وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإحجاماً للقلوب» (4).

إخوتي وأحبابي:
إن الناجح الحقيقي في هذه الحياة: لم يتمكن من النجاح إلا بتنظيم وقته، والموازنة بين مسؤولياته، وإعطاء كل جانب ما يستحق من غير تقديم لما أصله التأخير ولا تأخير لما أصله التقديم، فالناجح في تحصيل الدنيا المضيع للآخرة لا يسمى في حقيقة أمره ناجحاً، والناجح في إقامة علاقات عامة على حساب علاقاته الخاصة غير ناجح، والناجح في كسب رضوان البشر المخفق في نيل مرضاة الله تعالى هو من النجاح براء.. إن معرفة قيمة الوقت تترتب عليها أمور خطيرة ينبني عليها فهم الأسئلة: لماذا نحن في هذه الحياة الدنيا؟ ما هي أولوياتنا؟ وما الذي نريد؟ وماذا يراد منا؟

إن معرفة الإجابة على هذه الأسئلة تجعل كل واحد منا يتصرف طبقاً للإجابة إذ الناقد بصير: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. ومن كان ذلك فإنه لابد من إخلاص العمل له وأن يكون وفق ما شرع.. والعقبة كؤود مما يستدعي تخفيف أوزار الذنوب وأحمال الآثام، والطريق طويل لا بدل له من زاد من التقوى يناسب وحشته وطوله، وحتى لا ننقطع في أثنائه لا بد: أن نراعي قدراتنا فلا نتحمل ما لا طاقة لنا به «خذوا من الأعمال ما تطيقون،فإن الله ل? يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل» (5).

أيها القراء الكرام:
إن لربنا علينا حقوقاً، ولأبداننا علينا حقوقاً، ولأهلينا علينا حقوقاً، ولزورنا علينا حقوقاً... فلنراع تلك الحقوق في إطار المتاح لنا من الزمن، ولنعرف أن ضرورة الموازنة ومراعاة الحقوق وتقديم الأهم والمبادرة قبل انقضاء الأجل وفوات الأوان أمر بالغ الأهمية، لأن الرحيل قد أزف ومن ولد مات، ولنعتبر بغيرنا قبل أن نكون عبرة له..
أظننا إخوتي الكرام قد عرفنا قيمة الوقت وأهميته في نظر العقلاء الذين يحاسبون أنفسهم قبل المحاسبة، ويصلحون شأنهم قبل فوات الأوان، ويسارعون في الخيرات قبل انقضاء الأجل.

والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]رواه الترمذي: (2329) وصححه: الألباني في تعقيبه عليه، رواه: الإمام أحمد في مسنده (17680).
[2] رواه الترمذي: (2306) وضعفه: الألباني ولكن معناه صحيح.
[3] رواه الترمذي: (2450) وصححه: الألباني.
[4] رواه: (أحمد عن وهب بن منبه).
[5] البخاري: (5861) ومسلم: (782).
 

أحمد ولد محمد ذو النورين

المصدر: مجلة البيان