الإحسان - (7) صور الإحْسَان

منذ 2014-05-26

الإحْسَان في باب العبادات أن تؤدِّى العبادة أيًّا كان نوعها؛ مِن صلاة أو صيام أو حجٍّ أو غيرها أداءً صحيحًا، باستكمال شروطها وأركانها، واستيفاء سننها وآدابها، وهذا لا يتمُّ للعبد إلَّا إذا كان شعوره قويًّا بمراقبة الله عزَّ وجلَّ حتى كأنَّه يراه تعالى ويشاهده، أو على الأقلِّ يشعر نفسه بأنَّ الله تعالى مطَّلع عليه، وناظرٌ إليه، فبهذا وحده يمكنه أن يحسن عبادته ويتقنها، فيأتي بها على الوجه المطلوب..

قبل أن نُـفَصِّلَ في صور الإحْسَان نذكر هذه الصور على جهة الإجمال، والتي منها الإحسان في العبادات، والإحسان في المعاملات، والإحسان إلى الحيوانات، والإحسان في الأعمال البدنية.

فالإحْسَان في باب العبادات أن تؤدِّى العبادة أيًّا كان نوعها؛ مِن صلاة أو صيام أو حجٍّ أو غيرها أداءً صحيحًا، باستكمال شروطها وأركانها، واستيفاء سننها وآدابها، وهذا لا يتمُّ للعبد إلَّا إذا كان شعوره قويًّا بمراقبة الله عزَّ وجلَّ حتى كأنَّه يراه تعالى ويشاهده، أو على الأقلِّ يشعر نفسه بأنَّ الله تعالى مطَّلع عليه، وناظرٌ إليه، فبهذا وحده يمكنه أن يحسن عبادته ويتقنها، فيأتي بها على الوجه المطلوب، وهذا ما أرشد إليه الرَّسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «الإحْسَان أن تعبد الله كأنَّك تراه فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك» (البخاري:4777).

وفي باب المعاملات فهو للوالدين ببرِّهما بالمعروف، وطاعتهما في غير معصية الله، وإيصال الخير إليهما، وكفِّ الأذى عنهما، والدُّعاء والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما.
وهو للأقارب ببرِّهم ورحمتهم والعطف عليهم، وفعل ما يَجْمُل فعله معهم، وترك ما يسيء إليهم.
وهو لليتامى بالمحافظة على أموالهم، وصيانة حقوقهم، وتأديبهم وتربيتهم بالحسنى، والمسح على رؤوسهم.

وهو للمساكين بسدِّ جوعهم، وستر عورتهم، وعدم احتقارهم وازدرائهم، وعدم المساس بهم بسوء، وإيصال النَّفع إليهم بما يستطيع، وهو لابن السَّبيل بقضاء حاجته، وسدِّ خلَّته، ورعاية ماله، وصيانة كرامته، وبإرشاده إن استرشد، وهدايته إن ضلَّ.
وهو للخادم بإتيانه أجره قبل أن يجفَّ عرقه، وبعدم إلزامه ما لا يلزمه، أو تكليفه بما لا يطيق، وبصون كرامته، واحترام شخصيَّته.

وهو لعموم النَّاس بالتَّلطُّف في القول لهم، ومجاملتهم في المعاملة، وبإرشاد ضالِّهم، وتعليم جاهلهم، والاعتراف بحقوقهم، وبإيصال النَّفع إليهم، وكفِّ الأذى عنهم.
وهو للحيوان بإطعامه إن جاع، ومداواته إن مرض، وبعدم تكليفه ما لا يطيق، وحمله على ما لا يقدر، وبالرِّفق به إن عمل، وإراحته إن تعب.
وهو في الأعمال البدنيَّة بإجادة العمل، وإتقان الصَّنعة، وبتخليص سائر الأعمال مِن الغش.. وهكذا (منهاج المسلم لأبي بكر الجزائري:169-171). وإليك تفاصيل هذه الصُّور:

1- الإحْسَان في عبادة الله:
والإحْسَان في عبادة الله له ركن واحد بيَّنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «بأن تعبد الله كأنَّك تراه فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك» فأخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ مرتبة الإحْسَان على درجتين، وأنَّ المحسنين في الإحْسَان على درجتين متفاوتتين، الدَّرجة الأولى: وهي «أن تعبد الله كأنَّك تراه»، الدَّرجة الثَّانية: أن تعبد الله كأنَّه يراك، والمعنى إذا لم تستطع أن تعبد الله كأنَّك تراه وتشاهده رأي العين، فانزل إلى المرتبة الثَّانية، وهي أن تعبد الله كأنَّه يراك، فالأولى عبادة رغبة وطمع، والثَّانية عبادة خوف ورهب (أعمال القلوب لسهل بن رفاع العتيبي:1/58)، بتصرُّف.

2- الإحْسَان إلى الوالدين:
جاءت نصوص كثيرة تحثُّ على حقوق الوالدين وبرِّهما والإحْسَان إليهما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23-24].

قال القرطبي: "قال العلماء: فأحقُّ النَّاس بعد الخالق المنَّان بالشُّكر والإحْسَان، والتزام البرِّ والطَّاعة له والإذعان، مَن قرن الله الإحْسَان إليه بعبادته وطاعته، وشكره بشكره، وهما الوالدان، فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ..} [لقمان:14] الجامع لأحكام القرآن:5/183)، وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام:151].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ العمل أفضل؟ قال: «الصَّلاة لوقتها»، قلت: ثمَّ أي؟ قال: «برُّ الوالدين»، قلت: ثمَّ أي؟ قال: " (رواه البخاري:26، ومسلم:85)، قال الرَّازي: "أجمع أكثر العلماء على أنَّه يجب تعظيم الوالدين والإحْسَان إليهما إحسانًا غير مقيَّد بكونهما مؤمنين؛ لقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]) فيض القدير للمناوي:3/259).

3- الإحْسَان إلى الجار:
عن أبي شُريح الخُزاعي أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت» (رواه مسلم:48، مِن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)، ويكرم جاره بالإحسان إليه وكف الأذى عنه، وتحمل ما يصدر منه، والبشر في وجهه، وغير ذلك من وجوه الإكرام التحفة الربانية في شرح الأربعين النووية لإسماعيل بن محمد السعدي ص:35).

4- الإحْسَان إلى اليتامى والمساكين:
ومِن الإحْسَان إلى اليتامى والمساكين: المحافظة على حقوقهم والقيام بتربيتهم، والعطف عليهم، ومدُّ يد العون لهم، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} [البقرة:83].

فإنَّ الإحْسَان إليهم والبرَّ بهم وكفالة عيشهم وصيانة مستقبلهم مِن أزكى القربات، بل إنَّ العواطف المنحرفة تعتدل في هذا المسلك وتلزم الجادَّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أنَّ رجلًا شكا إلى رسول الله قسوة قلبه، فقال: «امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين»" (رواه أحمد:(2/387، 9006)، قال المنذري في التَّرغيب والتَّرهيب:(3/316)، والهيثمي في المجمع:(8/163): رجاله رجال الصَّحيح، وحسَّنه لغيره الألباني في صحيح التَّرغيب:2545).

وفي رواية: "أنَّ رجلًا جاءه يشكو قسوة قلبه، فقال له: «أتحبُّ أن يلين قلبك وتدرك حاجتك، ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه مِن طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك» (ذكره المنذري في التَّرغيب والتَّرهيب:(3/237)، وقال: رواه الطَّبراني مِن رواية بقيَّة، وفيه راوٍ لم يُسم)، وذلك أنَّ القلب يتبلَّد في المجتمعات التي تضجُّ بالمرح الدَّائم، والتي تصبح وتمسي وهي لا ترى مِن الحياة غير آفاقها الزَّاهرة ونعمها الباهرة، والمترفون إنَّما يتنكَّرون لآلام الجماهير؛ لأنَّ الملذَّات -التي تُيَسَّر لهم- تُغلِّف أفئدتهم وتطمس بصائرهم، فلا تجعلهم يشعرون بحاجة المحتاج وألم المتألِّم وحزن المحزون، والنَّاس إنَّما يُرْزَقون الأفئدة النَّبيلة والمشاعر المرهفة عندما ينقلبون في أحوال الحياة المختلفة، ويُبْلَون مسَّ السَّرَّاء والضَّرَّاء.. عندئذ يحسُّون بالوحشة مع اليتيم وبالفقدان مع الثَّكلى وبالتعب مع البائس الفقير (خلق المسلم للغَزَالي ص:193).

5- الإحسان في المعاملات التجارية (انظر: موعظة المؤمنين لجمال الدين القاسمي ص:116).
قد أمر الله تعالى بالعدل والإحْسَان جميعًا، والعدل سبب النَّجاة فقط، وهو يجري من التِّجارة مجرى سلامة رأس المال، والإحْسَان سبب الفوز ونيل السَّعادة، وهو يجري من التِّجارة مجرى الرِّبح، ولا يُعدُّ مِن العقلاء مَن قنع في معاملات الدُّنْيا برأس ماله، فكذا في معاملات الآخرة.
ولا ينبغي للمتديِّن أن يقتصر على العدل واجتناب الظُّلم، ويدع أبواب الإحْسَان وقد قال الله تعالى: وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77]، وقال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ..} [النَّحل:90]، وقال سبحانه: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف:56].

وينال المعامل رتبة الإحْسَان بواحدٍ مِن ستَّة أمور:
الأوَّل: في المغابنة، فينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة، فأمَّا أصل المغابنة فمأذونٌ فيه، لأنَّ البيع للرِّبح، ولا يمكن ذلك إلَّا بغبن، ولكن يراعى فيه التَّقريب، ومَن قنع بربحٍ قليلٍ كثرت معاملاته، واستفاد مِن تكررها ربحًا كثيرًا، وبه تظهر البركة.

الثَّاني: في احتمال الغبن، والمشتري إن اشترى طعامًا مِن ضعيف أو شيئًا مِن فقير فلا بأس أن يحتمل الغبن ويتساهل، ويكون به محسنًا وداخلًا في قوله عليه السَّلام: «رحم الله سهل البيع وسهل الشِّراء» (رواه البخاري:2076)، بلفظ: «رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» مِن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ورواه الطَّبراني فيالأوسط:6/107) بلفظ: «رحم الله سهل الشِّراء، سهل القضاء، سهل التَّقاضي» (مِن حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه).

وأما احتمال الغبن مِن الغني فليس محمودًا، بل هو تضييع مال مِن غير أجر ولا حمد، وكان كثيرٌ مِن السَّلف يستقصون في الشِّراء، ويهبون مِن ذلك الجزيل مِن المال، فقيل لبعضهم في ذلك فقال: إنَّ الواهب يعطي فضله، وإنَّ المغبون يغبن عقله.

الثَّالث: في استيفاء الثَّمن وسائر الدُّيون والإحْسَان فيه مرَّة بالمسامحة وحطِّ البعض، ومرَّة بالإمهال والتَّأخير، ومرَّة بالمساهلة في طلب جودة النَّقد، وكلُّ ذلك مندوبٌ إليه ومحثوثٌ عليه، وفي الخبر: "مَن أقرض دينارًا إلى أجلٍ، فله بكلِّ يوم صدقة إلى أجله، فإذا حلَّ الأجل فأنظره بعده، فله بكلِّ يوم مثل ذلك الدَّين صدقة" (ذكره الغزالي في إحياء علوم الدِّين:2/81)، ونظر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى رجل يلازم رجلًا بدين، فأومأ إلى صاحب الدَّين بيده، أي: ضع الشَّطر، ففعل، فقال للمديون: «قم فأعطه» (رواه البخاري:(471)، ومسلم:(1558) مِن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه).

الرَّابع: في توفية الدَّين، ومِن الإحْسَان فيه حسن القضاء، وذلك بأن يمشي إلى صاحب الحقِّ، ولا يكلِّفه أن يمشي إليه يتقاضاه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «خيركم أحسنكم قضاءً» (جزء من حديث رواه البخاري:(2306)، ومسلم:(1601)، ومهما قدر على قضاء الدَّين فليبادر إليه ولو قبل وقته، وإن عجز فلينوِ قضاءه مهما قدر، ومهما كلَّمه مستحقُّ الحقِّ بكلام خشن، فليتحمَّله وليقابله باللُّطف اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم لـمَّا ردَّد عليه كلامه صاحب الدَّين، فهمَّ به أصحابه، فقال: «دعوه؛ فإنَّ لصاحب الحقِّ مقالًا» (رواه البخاري:(2306)، ومسلم:(1601) مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه). ومِن الإحْسَان أن يميل الحكم إلى مَن عليه الدَّين لعسره.

الخامس: أن يُقيل أقاله يقيله إقالة، وتقايلاً إذا فسخا البيع وعاد المبيع إلى مالكه، والثمن إلى المشتري، وتكون الإقالة في البيعة والعهد (انظر: لسان العرب لابن منظور:11/580)، مَن يستقيله؛ فإنَّه لا يستقيل إلَّا متندِّمٌ مُسْتَضِرٌّ بالبيع، ولا ينبغي أن يرضى لنفسه أن يكون سبب استضرار أخيه، وفي الخبر: «مَن أقال نادمًا صفقته، أقال الله عثرته يوم القيامة» (رواه ابن حبان:(11/404،5029)، والبزار:(15/374)، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه). (وضعَّفَه الدارقطني في لسان الميزان في:(6/100). وقال ابن حجر في لسان الميزان (3/159): فيه (الحسين بن حميد الخزاز) قال ابن عدي: هو متَّهم فيها، وقال الشَّوكاني في السَّيل الجرَّار:(3/139): صحَّحه جماعة مِن الحفاظ).

السَّادس: أن يقصد في معاملته جماعة مِن الفقراء بالنَّسيئة، وهو في الحال عازم على أن لا يطالبهم إن لم يظهر لهم مَيْسَرة، وكان مِن السَّلف مَن يقول لفقير: "خذ ما تريد، فإن يُسِّر لك فاقض، وإلَّا فأنت في حلٍّ منه وسعة".

6- الإحْسَان إلى المسيء:
(ومِن أجلِّ أنواع الإحْسَان: الإحْسَان إلى مَن أساء إليك بقولٍ أو فعلٍ. قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصِّلت: 34-35].
ومن كانت طريقته الإحْسَان، أحسن الله جزاءه: {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ}[الرحمن:60]، (بهجة قلوب الأبرار للسعدي ص:206).

وذكر الهرويُّ أنَّ مِن منازل إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين (الفتوَّة)، وقال: "هي على ثلاث درجات، الدَّرجة الأولى ترك الخصومة، والتَّغافل عن الزلَّة، ونسيان الأذيَّة. والدَّرجة الثَّانية أن تقرِّب مَن يقصيك، وتكرم مَن يؤذيك، وتعتذر إلى مَن يجني عليك، سماحةً لا كظمًا، ومودَّةً لا مصابرةً" (مدارج السَّالكين لابن القيِّم:3/139).

قال ابن القيِّم في ذلك: "هذه الدَّرجة أعلى ممَّا قبلها وأصعب؛ فإنَّ الأولى تتضمَّن ترك المقابلة والتَّغافل، وهذه تتضمَّن الإحْسَان إلى مَن أساء إليك، ومعاملته بضِدِّ ما عاملك به، فيكون الإحْسَان والإساءة بينك وبينه خُطَّتين فخُطَّتك: (الإحْسَان)، وخُطَّته: (الإساءة)، وفي مثلها قال القائل:

إ

ذا مرِضْنا أتَيْناكم نَعودُكمُ *** وتُذْنبون فنَأْتيكم ونَعتذرُ


 

ومَن أراد فهم هذه الدَّرجة كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مع النَّاس يجدها بعينها (مدارج السَّالكين لابن القيِّم:3/139).

7- الإحْسَان في الكلام:
قال تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53].
قال ابن كثير: "يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطَّيبة؛ فإنَّهم إذا لم يفعلوا ذلك، نزغ الشَّيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشَّرُّ والمخاصمة والمقاتلة، فإنَّ الشَّيطان عدوٌّ لآدم وذرِّيته مِن حين امتنع مِن السُّجود لآدم، فعداوته ظاهرة بيِّنة؛ ولهذا نهى أن يشير الرَّجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإنَّ الشَّيطان ينزغ في يده، أي: فربَّما أصابه بها" (تفسير القرآن العظيم:5/87).

8- الإحْسَان في الجدال:
يقول الله تبارك وتعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النَّحل:125]، قال الشَّوكاني: "أي: بالطَّريق التي هي أحسن طرق المجادلة. وإنَّما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الدَّاعي محقًّا وغرضه صحيحًا، وكان خصمه مبطلًا وغرضه فاسدًا" فتح القدير:3/287).

9- الإحْسَان إلى الحيوان:
ومِن الإحْسَان إلى الحيوان، إطعامه والاهتمام به، وحدُّ الشَّفرة عند ذبحه، وأن لا يحدَّ الشَّفرة أمامه، وعدم الحمل إليه أكثر مِن طاقته.

قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله كتب الإحْسَان على كلِّ شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة...»، وكره أبو هريرة أن تُحَدَّ الشَّفرة والشَّاة تنظر إليها، وروى: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا أضجع شاة، فوضع رجله على عنقها، وهو يحدُّ شَفْرته، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ويلك، أردت أن تميتها موتات؟ هلا أحددت شَفْرتك قبل أن تضجعها» (رواه الحاكم:(4/257)، والبيهقي في السنن الكبرى:(19141) مِن حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. ووافقه الذهبي في التلخيص، والوادعي في الصَّحيح المسند:(667). ورواه عبد الرزاق في المصنف:(4/493) مِن حديث عكرمة)، وكان عمر بن الخطَّاب ينهى أن تُذْبَح الشَّاة عند الشَّاة (رواه عبد الرزاق في المصنف:4/493).

قال ابن رجب: "والإحْسَان في قتل ما يجوز قتله مِن النَّاس والدَّواب: إزهاق نفسه على أسرع الوجوه، وأسهلها، وهذا النَّوع هو الذي ذكره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ولعلَّه ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال، فقال: «إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة»، والقِتْلة والذِّبْحة -بالكسر- أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذَّبح، وهيئة القَتْل. وهذا يدلُّ على وجوب الإسراع في إزهاق النُّفوس التي يُبَاح إزهاقها على أسهل الوجوه، وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحْسَان في الذَّبيحة" (جامع العلوم والحكم:1/382)،

وقال صلى الله عليه وسلم: «في كلِّ كبد رطبة أجر» (رواه البخاري:(2363)، ومسلم:(2244) مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
قال النَّوويُّ: "معناه في الإحْسَان إلى كلِّ حيوان حي -بسقيه ونحوه- أجر، وسمَّي الحي ذا كبد رطبة؛ لأنَّ الميِّت يجفُّ جسمه وكبده. ففي الحديث الحثُّ على الإحْسَان إلى الحيوان المحترم، وهو ما لا يُؤمر بقتله. فأمَّا المأمور بقتله فيمتثل أمر الشَّرع في قتله، والمأمور بقتله كالكافر الحربي والمرتد والكلب العقور والفواسق الخمس المذكورات في الحديث وما في معناهن، وأمَّا المحترم فيحصل الثَّواب بسقيه والإحْسَان إليه، أيضًا بإطعامه وغيره سواءً كان مملوكًا أو مباحًا، وسواءً كان مملوكًا له أو لغيره" (شرح مسلم:14/347).

وقال صلى الله عليه وسلم: «عُذِّبت امرأة في هرَّة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النَّار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل خَشَاش الأرض» (رواه البخاري:(3482)، ومسلم:(2242) مِن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه).

 

المقال السابق
(6) أقسام الإحْسَان
المقال التالي
(8) الإحْسَان في واحة الشِّعر